حذَّرت الإدارة الأميركية مواطنيها من السفر إلى السودان، وبرّرت ذلك باستمرار العمليات الإرهابية في السودان مما يمكن أن تشكِّل تهديداً عليهم يستهدف المواطنين الغربيين ومصالحهم، واحتمال حدوث مظاهرات دون سابق إنذار واستمرار العنف على الحدود السودانية التشادية. بالإضافة إلى استمرار الإغلاق بسبب فيروس كورونا. وهذه المبرّرات ضمن ملفات عديدة ما زالت تُقعد بالسودان من عدم رفع العقوبات عنه. وعلى الرغم من قيام الثورة السودانية ما زالت مطلوبات الإدارة الأميركية من السودان كما هي منذ بداية العقوبات في تسعينيات القرن الماضي. قد يكون هذا البيان تذكيراً بعدم تغير أحوال السودان، وأنَّ من كانوا يمارسون العنف ضد المعارضة وهم في سدة الحكم، سيظلون بعد أن سقط نظامهم ومكثوا الآن في دكة المعارضة، مع الإشارة إلى عدم نجاح مفاوضات السلام في حل النزاعات الداخلية في دارفور وجبال النوبة وشرق السودان وغيرها.
حقوق الإنسان
بعدما كان موقف الإدارة الأميركية من السودان واضحاً بقرارات محسومة ومقاطعة واضحة مستمرة في ظل النظام السابق، يظهر الآن التضارب في تصريحاتها وبياناتها والسودان في طريق الإصلاح السياسي. فما بين سيطرة التاريخ العدائي الذي لم يمحه مُضي نحو عامين من الثورة، وما بين الإشادة بأداء الحكومة الانتقالية وما يُتوقَّع منها بمواصلة عملية التحول الديمقراطي؛ تظلُّ احتمالات قلب صفحة جديدة للعلاقات يوترها استمرار فرض العقوبات وقبوع اسم السودان في لائحة الدول الراعية للإرهاب، ومؤكدةً عليها مثل هذه البيانات. من ناحيةٍ أخرى ظل دبلوماسيون أميركيون يؤكدون أن العقوبات تم فرضها لإنهاء دعم البلاد للجماعات المتطرفة وإحلال السلام في دارفور، ولكن لا علاقة لها بسجل السودان في مجال حقوق الإنسان. ومن هؤلاء ستيفن كوتسس القائم بالأعمال الأميركي السابق بالخرطوم الذي أشار في يوليو (تموز) 2017 إلى أن العقوبات ستُرفع لأنه ليس هناك رابط بينها وحقوق الإنسان، ولكن ظهر بيان رسمي من السفارة الأميركية بالخرطوم بعد ذلك بيوم واحد، يرجّح بقاء العقوبات بالنظر أيضاً إلى ملف حقوق الإنسان. والآن، بعد إلغاء القوانين المقيدة للحريات، لم يعد تعبير حقوق الإنسان الذي كان يملأ مواقع التواصل، يظهر مرادفاً للقرار الأميركي المُرتقب برفع العقوبات المفروضة على السودان، ولكن تظل الاحتمالات مفتوحة على خيارين تتوازى أجندتهما، بين رفع العقوبات جزئياً أو تمديدها لأسباب أخرى ليس من بينها حقوق الإنسان.
إرهاب راسخ
كشفت أوراق مؤتمر أقيم في الخرطوم في أغسطس (آب) 2016 أن السودان بدأ في محاصرة الجماعات المتطرفة والتعامل مع عناصرها عبر الحوار والمناصحة وإعادة دمجهم في المجتمع. وإذا كانت الإحصائية قد حددت 256 عنصراً في الداخل، فإن ذلك يتغاضى عن التنظيمات وزعمائها الذين آواهم نظام الحركة الإسلامية في بدايات تسلمه الحكم عبر انقلاب عسكري. ما زالت قصة قائد تنظيم القاعدة الأسبق أسامة بن لادن تتكشف عن قصص أخرى منذ أن آواه قائد الحركة الإسلامية حسن الترابي في السودان في الفترة الممتدة بين عامي 1992 و1996، واستفادة رموز ينتمون لنظام الإنقاذ من معاملات لصيقة به في المال والسلاح ممزوجاً بالعنف والإرهاب الديني. كما أن هذا العدد يظلُّ متواضعاً بالنسبة إلى ما يحدث حول السودان، ولا يرتقي إلى مستوى الظاهرة. إن التنصل من هذه المشكلات هو ما جعل الحكومة السابقة تنحو في اتجاه إحاطة ظاهرة الإرهاب بالنموذج العربي تارة، والأفريقي طوراً، وقد يبدو العنف الأفريقي الكامن أقوى من نظيره العربي. ولمّا لم يتم التوصل إلى تعريف محدّد للإرهاب، فقد كان العديد من الإحصاءات تأخذ في طريقها نشاطات المنظمات الثورية والجماعات التي تطالب بالتغيير، منها حركات ناشطة وذات إرث نضالي عريق.
سعت الحكومة الانتقالية للوصول إلى حذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إذ دفع السودان نحو 70 مليون دولار لضحايا المدمرة الأميركية "اس كول" التي تم تفجيرها قبالة ميناء عدن عام 2000، ما أسفر عن مقتل 17 من بحاراتها، وتم إغلاق القضية. ولكن، برز خلاف آخر جاء متزامناً مع توقيت تحذير الخارجية الأميركية، بسبب التعويضات لعائلات أميركية عن تفجيري السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، في هجومين تبناهما تنظيم القاعدة. وإذ تتمسك الولايات المتحدة بقرار المحكمة الإدارية في واشنطن عام 2011 بإصدارها حكماً قضى بدفع تعويضات بقيمة 6 مليارات دولار، بالإضافة إلى تعويضات تأديبية قيمتها 4 مليارات دولار، يتمسك السودان بالتزامه بدفع 300 مليون دولار.
محاصصات الحركات
كان إقليم دارفور يحتاج إلى ما يشبه "المعجزة" حتى يُعاد بناؤه وإعماره ومن قبل ذلك إشاعة السلام في ربوعه. جاء ذلك في تعبير مفاوضي السلام إبان المؤتمرات الدولية التي عُقدت لحل الأزمة. وفي هذه العبارة التفسيرية إشارة إلى أن إعادة البناء التكويني للمجتمع السوداني المتناحرة عناصره في غرب وشرق وجنوب البلاد هي من أصعب أنواع البناء لأنها يجب أن تقوم على أساس المواطنة والتعايش السلمي ونبذ العنف والاحترام المتبادل بين الأطراف المختلفة. منذ انفجار أزمة دارفور في 2003، تراوحت المشكلة بين محطات مهمة يصعب تخطيها لكونها محاولات استنفذت كثيراً من الجهود لوضع حل نهائي للأزمة. لم تحقق أي منها حلاً دائماً بل كانت مقدمات لمشاكسات تبدأ باتفاق على التوقيع وتنتهي بنقض العهود والمواثيق. وقد تطول الأزمة باستمرار الحرب الآن بين هذه الفصائل التي تحولت من مسمى حركات التمرد إلى حركات الكفاح المسلح دون أن تغيّر من طبيعة تفكيرها باستغلال الصراع من أجل المحاصصات السياسية.
ارتفاع الحس القومي
من الضروري الإشارة هنا إلى أن شرق السودان ليس حالة فريدة في مسألة الاستقطاب الناشئة عن تعدد الانتماءات بين سكانه، شأنه في ذلك شأن عدة أقاليم أخرى من مناطق السودان النائية مثل إقليم دارفور. ارتفعت موجة الاشتباكات في شرق السودان بسرعة كبيرة، إذ لم يصمد اتفاق الصلح الذي تم توقيعه بين قبيلتي النوبة والبني عامر سوى أشهر ليتجدَّد العنف الذي امتد إلى ولايات كسلا وبورتسودان والقضارف. وأسهمت عدة عوامل في هذا الوضع، فبالإضافة إلى التهميش والحاجة إلى التنمية، هناك ارتفاع الحس القومي لكيان "البجا" بوصفه المكوِّن الرئيس لقبائل "بني عامر والهدندوة والأمرأر" وبقية مكونات البجا بافتراض أحقيتها بالإقليم في وجه كيانات أخرى، وهو في ذلك مثله مثل كيانات أخرى ظلت ولفترة طويلة تمثل بؤراً تستقطب آلام التهميش تجاه قضاياها. وصار عامل الاختلاف الأساس في رؤى هذه الكيانات أنها بين أحد خيارين إما الوحدة مع شرط الاعتراف بالكيان، أو الانفصال. فكما توقع أهل السودان أن الوضع لن يستقر بانفصال الجنوب، وإنما ستفيض حمم براكين أُغلق دونها باب الجدل الرسمي إلى حين. عليه، فإن تقرير مصير جنوب السودان بحسب القراءات السياسية لواقع الحال لن يكون آخر مطمح لأطراف السودان الرئيسة. إن فرضية التوافق على التطلع إلى السلطة أسهم في تدوير الخلافات بين قبائل الإقليم، فلم ينجح في احتواء الأزمة وما أنتجته من تجاذبات سياسية أدت إلى عواصف ساخنة تارة وباردة تارة أخرى أدت مراراً إلى دفع هذه الأقاليم إلى معارك بين الموالين للسطلة السابقة والحالية اتسمت بالحدة والعنف.
ثوب الانتقالية
ما زال السودان غارقاً في علاقته غير المستقرة مع الولايات المتحدة، ولا يبدو أنه بصدد لملمة أطرافه الممزقة أو داخله المنقسم. فليس هناك ما يشير إلى أنه بوسع الحكومة الانتقالية النجاح في تطبيق أي إصلاحات اقتصادية موازية للإصلاحات السياسية، بالإضافة إلى عدد الانشقاقات على الحكومة نفسها التي بدأت في الظهور ما بين مكوناتها من المجلس السيادي بشقيه العسكري والمدني وقوى الحرية والتغيير. ووسط مسيرة الحكم الانتقالية المليئة بثقوب وأخطاء النظام السابق، تظهر هذه التحذيرات كنتيجة حتمية لفشل السودان في عملية الإصلاح السياسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تواجه الحكومة الانتقالية داخلياً العنف المصاحب لعملية التغيير من تيارات مناهضة لإلغاء القوانين المقيدة للحريات، إذ قامت بمسيرات ومظاهرات رافضة لإلغاء هذه القوانين، مما اضطر السلطات لإغلاق الجسور التي تربط مدن الخرطوم الرئيسة الثلاث، الخرطوم بحري وأمدرمان والخرطوم. وهناك أيضاً العنف المحلي المتمثِّل في ظهور عصابات سطو مسلح "النقرز" وهي تحمل الأسلحة البيضاء وسط العاصمة الخرطوم، وهو ما أشار إليه تحذير وزارة الخارجية الأميركية لرعاياها لإعادة النظر في السفر للسودان بدعوى احتمال حدوث جرائم خطف ونهب مسلح وسطو على المنازل والسيارات. ويرجع ذلك لهشاشة الوضع الأمني وغياب دوريات الشرطة بسبب الخلاف الناشئ بين الوحدات العسكرية ما بين الجيش والشرطة والدعم السريع مما أثر في أداء مهامها في بسط الأمن.
علاقة دفاعية
وصلت العلاقة الدفاعية الراسخة بين الولايات المتحدة والسودان إلى طريق مسدود، فبينما تتمسك الحكومة الانتقالية بأنها حققت الإصلاح، لم يكن ذلك مقنعاً للإدارة الأميركية، كما لم تفلح الجهود والتدخلات الإقليمية والدولية في إيقاف العنف المتزايد بالإضافة إلى ترسيخ الحكومة السابقة من عدم الثقة الدولية. ربما يبدو من المناسب ترك السياسات الأميركية تأخذ مجراها بحسب اعتمادها على الشروط الإصلاحية وهي التي ستحدد مستقبل علاقتها مع السودان. بيد أن هذه المقاربة لن تكون سليمة على اعتبار أن هدف بعض الأحزاب السياسية والحركات المسلحة هو الاستئثار بأكبر حصص من السلطة وليس المشاركة فيها فحسب. كما أن الحكومة الانتقالية اتسمت برخاوة سياسية بعد زوال المؤثِّر الثوري فأثبتت عدم سيطرتها على الأوضاع وفشلها في بسط الأمن. ولم تفلح في وضع منظومة حل تشمل المواقف الخارجية باتباع سياسة جديدة من العلاقات الدولية، والداخلية مثل الوصول إلى سلام في مناطق النزاعات بالإضافة إلى ترسيخ إشاعة الحريات إيذاناً بتحقيق الحكم الديمقراطي.