هل تنجح اتصالات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية في تذليل العقبات من أمام تشكيل حكومة لبنانية جديدة قبل زيارته بيروت في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، أم أن لبنان سيغرق في الفراغ الحكومي لفترة طويلة، على جري عادته عند البحث عن التركيبة الحكومية الجديدة التي تفرض الخلافات على الحصص فيها بين الفرقاء بقاء حكومة تصريف الأعمال ستة أو سبعة أشهر، كما حصل مع حكومتي الرئيس سعد الحريري الأخيرتين، وقرابة 11 شهراً بقي خلالها الرئيس تمام سلام رئيساً مكلفاً عام 2013؟
لم يسبق أن حظي قيام حكومة لبنانية جديدة بهذا القدر من الانغماس الدولي بتفاصيل الوضع الداخلي، كما هو حاصل مع الأزمة الراهنة بعد إزاحة حكومة حسان دياب و"إجباره" على الاستقالة الاثنين الماضي في 10 أغسطس (آب).
وساطة بوتين
ولم يكذّب ماكرون خبراً، هو المنشغل في الكثير من الملفات الحساسة، لا سيما منها الملف الليبي والتوتر مع تركيا في البحر المتوسط والتطورات في مالي والعلاقات الأوروبية... حين وعد في لقاءاته مع القادة السياسيين عندما زار بيروت المنكوبة بعد يومين من انفجار المرفأ الكارثي، بأنه سيبذل الجهد المطلوب لمعالجة المعوقات أمام التوافق الوطني حول الحكومة المقبلة.
اتصل ماكرون بالرئيس الإيراني حسن روحاني يوم الأربعاء وأكد له "ضرورة أن تتجنب، كل القوى المعنية، أي تصعيد للتوتر وأي تدخل خارجي، ودعم تشكيل حكومة مهمتها إدارة الأزمة الطارئة"، وفق بيان للرئاسة الفرنسية. وأشار مع روحاني أيضاً، إلى "الحاجة الملحة للتحرك في الإطار الذي وضعته الأمم المتحدة خلال المؤتمر الدولي لدعم ومساعدة بيروت والشعب اللبناني". فطهران دأبت في الأيام الماضية على ترداد الدعوة إلى عدم استغلال المحنة التي أصابت لبنان سياسياً، موحية بذلك أنها ترفض البناء على المأساة التي حصلت من أجل إضعاف "حزب الله" وحلفائه.
سبق ذلك في اليوم نفسه اتصال ماكرون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتشديد على "أهمية أن يعمل الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن معاً على التهدئة بما يصب في مصلحة الاستقرار في لبنان والمنطقة كاملة، ودعم حكومة لإدارة الأزمة الطارئة". ودعا إلى "مشاركة روسيا في الآلية التي وضعت خلال المؤتمر الدولي لدعم بيروت والشعب اللبناني"، الذي عقد عبر الفيديو برعاية الأمم المتحدة وفرنسا الأحد الماضي ولم تشارك فيه موسكو.
بدا من هذين الاتصالين أن الرئيس الفرنسي دعا الجانب الإيراني إلى خفض شروط "حزب الله" على شكل الحكومة المقبلة، وحث الرئيس الروسي على لعب دور مع إيران. فالصيغة التي تردد أنها مطروحة للحكومة الجديدة هي عدم تمثيل أي من الأحزاب والأطراف التي كانت تتقاسم المقاعد الوزارية في الحكومات السابقة، هذا فضلاً عن أن الإدارة الأميركية والدول العربية المعنية بلبنان تميل إلى عدم تمثيل "حزب الله" فيها أيضاً، ولو مداورة عن طريق أصدقاء له كما حصل في حكومة دياب المستقيلة، في وقت لا تزال أوساط الحزب تشير إلى رفضه استبعاده باعتباره إذعاناً للمطلب الأميركي- العربي، في ظل الصراع المتصاعد بين واشنطن وطهران وتوالي عقوبات الأولى على الثانية وعلى الحزب.
تباين ثم توافق بين واشنطن وباريس
وعلى الرغم من التوافق بين باريس وواشنطن على التحرك الفرنسي النشط باتجاه لبنان، ومع أخذ إدارة الرئيس دونالد ترمب بنصيحة ماكرون وجوب عدم ترك لبنان في محنته، لأن المستفيد من التخلي عنه هو "حزب الله"، برز تباين بين الجانبين حول شكل الحكومة. لم تتحمس واشنطن لدعوة فرنسا إلى حكومة وحدة وطنية لأنها ستقود إلى تمثيل الحزب فيها، من جهة، وإلى عودة المنظومة المتهمة بالفساد إلى إدارة الأزمة الاقتصادية المالية، فجرى تصويب الأمر من قبل باريس بتسريب الإليزيه معلومات بأن خطأً بالترجمة خلق الالتباس حول كلامه عن الوحدة الوطنية، وأن المقصود أن يحصل توافق وطني على الحكومة حتى لو كانت من غير الأحزاب المعروفة.
ومن جهة ثانية، أفادت معطيات واردة من العاصمة الأميركية "اندبندنت عربية"، بأن الحماسة لمساعدة لبنان بدعم عمليات الإغاثة وتقديم الإعانة الطبية والغذائية الإنسانية، والتهيؤ لتأمين مبالغ لإعادة إعمار ما تهدم، من دون المرور عبر المؤسسات الحكومية، مع ربط المساعدات المالية لإنقاذ الاقتصاد والوضع المالي بالإصلاحات الحكومية، وباعتماد النأي بالنفس عن حروب المنطقة (وهما شرطان كانا قبل انفجار المرفأ الكارثي وما زالا بعده)، يجب ألا تستبعد اعتماد سياسة حذرة، بحيث لا تؤدي هذه الحماسة إلى فك الحصار المالي عبر العقوبات، عن "حزب الله"، لأن هناك وجهة نظر في الإدارة بأن هذه السياسة أخذت تؤتي ثمارها.
فبعض الدوائر اللبنانية توقفت أمام كلام قاله ماكرون في لقائه مع ممثلي المجتمع المدني حين التقاهم في بيروت في 6 أغسطس. انطباع هؤلاء أن الرئيس الفرنسي حاول تدوير الزوايا في الموقف من الحزب والنفوذ الإيراني، عندما أكد بعد الاستفسارات عما كانت نتيجة لقائه بالقيادي في "حزب الله" النائب محمد رعد في وقت يطالب محتجون "بتموضع جيو سياسي جديد" للبنان، أن الحزب موجود على المسرح السياسي، ونوابه انتخبهم الشعب. وخرج هؤلاء بانطباع مشترك بينهم وبين ماكرون، بأن مسألة نزع سلاح "حزب الله" ستأخذ وقتاً، وفي الانتظار يفترض معالجة الوضع الناشئ عن كارثة انفجار المرفأ، والانهيار الاقتصادي. لكنه في الوقت نفسه أبلغ هؤلاء بأنه قال لرعد إن فرنسا هي "الدولة الوحيدة التي تتحدث إليكم من دول الغرب وعليكم أن تقدروا ذلك"، موحياً بهذا الكلام أن على الحزب أن يتجاوب مع ما يقترحه بالنسبة إلى الحكومة وتسهيل مهماتها بالإصلاحات وبتحييد البلد عن الصراع الإقليمي.
زيارة هيل
جاءت زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل الذي يعرف لبنان وتعقيداته جيداً كسفير سابق خدم وله أصدقاء كثر فيه، بدءاً من مساء الخميس، بالتنسيق مع الرئاسة الفرنسية، وسط تأكيدات بلغت سياسيين لبنانيين كشفوا لـ"اندبندنت عربية"، أن الجانب الأميركي سيقدم مبالغ عالية لاحقاً (كما أعلن ترمب في اتصاله مع الرئيس ميشال عون) من أجل الإسهام في إعادة إعمار الأحياء التي تهدمت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما ضجت وسائل الإعلام بالتكهنات عما سيحمله هيل، ورسمت جدول أعمال محادثاته قبل وصوله، من نوع أنه سيتناول تشكيل الحكومة، التجديد لقوات حفظ السلام الدولية في الجنوب التي لواشنطن شروط طرحتها الاثنين في الأمم المتحدة، ترسيم الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، وإعادة إعمار ما هدمه انفجار المرفأ، بدد بيان السفارة الأميركية في بيروت كل ذلك. فعشية وصوله قالت السفارة إن هيل "سيؤكد الحاجة الملحة لتبني الإصلاح الاقتصادي والمالي، والقضاء على الفساد المستشري، وتحقيق المساءلة والشفافية، وإدخال سيطرة الدولة على نطاق واسع من خلال المؤسسات العاملة".
أضافت السفارة "هيل سيؤكد استعداد أميركا لدعم أي حكومة تعكس إرادة الشعب وتلتزم التزاماً حقيقياً بأجندة الإصلاح هذه وتعمل وفقاً لها".
قلّل العارفون بمهمة هيل، استناداً إلى معلوماتهم، وبيان السفارة، من أهمية التقديرات عن أنه سيتناول موضوع ترسيم الحدود، ورأوا أنه سيركز سياسياً على موضوع الحكومة، حتى لو تناول الشروط التي تطرحها بلاده مع التجديد للقوات الدولية في الجنوب في مجلس الأمن خلال الأسبوعين المقبلين وقبل نهاية الشهر الحالي. فواشنطن تطرح تقليص مدة التجديد من سنة إلى ستة أشهر، وخفض عديد القوات، في حال لم يؤخذ بمطلبها إعطاء "يونيفيل" حرية حركة أوسع للتفتيش عن أسلحة في القرى الجنوبية يُشتبه بأن "حزب الله" يخزنها. لكن موضوع الحكومة يبقى الأول على جدول أعماله.
بين الحريري ونواف سلام
وتستدل مصادر سياسية لبنانية على أولوية تأليف الحكومة الجديدة في الجهود الدولية الراهنة بما قام به ماكرون إضافة إلى تواصله مع واشنطن وبوتين وروحاني. فهو كان على اتصال بين الأحد والثلاثاء الماضيين مع كل من رئيسي الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري، وتابع مجريات استقالة حكومة دياب، وتواصل هاتفياً مع الحريري ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذين كشف النائب نهاد المشنوق أن الرئيس الفرنسي نصحهم بالتريث في تقديم استقالات نوابهم من البرلمان بحجة الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، بعد استقالة ثمانية نواب رفضاً لاستمرار الأكثرية الحالية. فالجهد الفرنسي أيضاً يتركز على تأليف الحكومة الجديدة، إلى درجة الانخراط أكثر من أي وقت سابق في أسماء المرشحين لرئاستها. وفي وقت بات واضحاً أن باريس تطرح اسم السفير السابق والقاضي في محكمة العدل الدولية الدكتور نواف سلام، إضافة إلى الرئيس الحريري لتولي المهمة، فإن التوصل إلى اتفاق على أحدهما، إذا لم يطفو على السطح اسم جديد، يحتاج إلى الكثير من الجهود كي ينطلق تأليف الحكومة.
فسلام الذي يحظى بتأييد واسع لدى المجتمع المدني والثوار، كمستقل، فضلاً عن سمعته الطيبة واستقامته وخبرته الدولية... لا تلقى استقلاليته ترحيباً لدى "حزب الله" الذي يطمح بوجود رئيس حكومة يقبل بالتنسيق معه في القضايا الإقليمية، في وقت هو من ابتدع صيغة "النأي بالنفس" عن صراعات المنطقة حين كان سفيراً في الأمم المتحدة. وشخصيته لا تلائم الحزب الذي يرفع مع رئيس البرلمان نبيه بري شعار حكومة جامعة تتمثل فيها كل الأطراف.
وعلى الرغم من أن "حزب الله" وبري يفضلان الحريري، فإن اشتراطه تأليف حكومة من المستقلين الفعليين عن كل الأحزاب، لا تنسجم مع الصيغة الحكومية التي يسعيان إليها، إلا إذا أدت الاتصالات مع إيران إلى تليين موقفهما. لكن الأوساط السياسية العليمة في بيروت تشير إلى عوائق أخرى، هي عدم الحماسة الأميركية والعربية لعودة الحريري، نظراً إلى اعتماده سياسة المهادنة مع "حزب الله" طبقاً لنهجه في الحكومتين السابقتين اللتين ترأسهما منذ انتخاب عون رئيساً. هذا فضلاً عن مواصلة قطاع واسع من الثوار والمجتمع المدني رفض عودة أي من رموز الطبقة السياسية التقليدية.
وهذا ما يحتم الحاجة إلى تسوية إقليمية - دولية ما للاختيار بين المرشحين، أو لإيجاد بديل عنهما.
وفي كل الأحوال لا يبدو أن الدخان سيتصاعد من غرف استيلاد الحكومة قبل أن يمر تاريخ 18 أغسطس حين تنطق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بحكمها في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كما قال أحد الوزراء لـ"اندبندنت عربية".