إذا كنتم تحسبون أنكم تعيشون وسط زمنٍ فيه من القلق الشيء الكثير، زمنٍ جعلكم عرضة لاضطراب شديد ودفعكم للتساؤل إن كان العالم على شفير اختبار حدث أكثر كارثية بعد، فكتاب ليزلي م.م. بلوم "غبار نووي: قصة طمس قنبلة هيروشيما" والصحافي الذي كشفها للعالم، Lesley MM Blume’s Fallout: The Hiroshima Cover-Up and the Reporter Who Revealed It to the World، قد لا يكون الكتاب المناسب لكم.
لكن من ناحية أخرى، ربّما تكون القصة التي كتبتها بلوم بعد بحثٍ متأنٍ ودقيق حول كل ما قد تفعله حكومة من أجل إخفاء الحقيقة عن مواطنيها هي تحديداً القراءة التي على الجميع الانغماس بها في هذه المرحلة المفصلية المقلقة جداً.
يخبر كتاب "غبار نووي" Fallout القصة وراء مقال جون هيرسي الشهير حول القنبلة الذرية التي أُسقطت فوق هيروشيما وأدت إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية بسرعة. وكان هيرسي أول صحافي يكتب شهادة ميدانية حول ما جرى في أعقاب انفجار القنبلة. وحين نشرت مجلة نيويوركر New Yorker القصة التي بلغ مجموع كلماتها 31 ألفاً في 31 أغسطس (آب) 1946، خصّصت لها عدداً كاملاً.
ويصادف نشر "غبار نووي" في الولايات المتحدة مع الذكرى الخامسة والسبعين لقصف هيروشيما التي حلّت الأسبوع الماضي. لكن توقيت الكتاب نفسه ملائم جداً بسبب ما يتبيّن مؤخراً عن استعداد أعلى المسؤولين في نظام ديمقراطي اللجوء إلى خدع لغوية كي يصرفوا انتباه مواطنيهم عن أزمة تحدث في الآن ذاته.
وفي ما يلي مقدّمة سريعة عن هيروشيما وناغازاكي: ألقيت قنبلة اليورانيوم البالغ وزنها 10 آلاف رطل على هيروشيما في تمام الساعة الثامنة والربع من صباح يوم 6 أغسطس 1945. فمسحت المدينة عن بكرة أبيها وقتلت نحو 280 ألف مدني ياباني. كل الأشخاص والأشياء الموجودين تحت الانفجار مباشرة احترقوا على الفور. وبعد مرور ثلاثة أيام على رمي القنبلة الأولى، أسقطت الولايات المتحدة قنبلة ثانية أقوى بعد على ناغازاكي التي تبعد 250 ميلاً عن المكان تقريباً. وسرعان ما استسلمت اليابان من دون قيد أو شرط، وعانت أعداد كبيرة ممّن نجوا في البداية من التسمّم الإشعاعي قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة بطريقة مؤلمة جداً خلال الأشهر التي تلت الانفجارين.
وتسرد مقالة هيرسي التي نُشرت بعدها بسنة بالتفصيل حياة ستة ناجين من هيروشيما. وهو يصف كل دقيقةٍ وكل ألمٍ اختبره هؤلاء الستة قبل انفجار القنبلة وبعدها. وقال لاحقاً "كنت آمل أن يتمكن القارئ من التماهي مع الشخصيات بما فيه الكفاية كي يشعر ببعض وجعهم". فهو روى قصصهم مع خلفية الروائح المريعة والمتداخلة المنبعثة من الجثث المحروقة والرياح الجهنمية والمحاولات اليائسة لمساعدة المصابين. وكتب هيرسي عن أحدهم وهو القسّ تانيموتو أنه "أخذ بيديّ امرأة لكن جلدها زلق عنها وتداعت قطعٍ كبيرة جداً منه أشبه بالقفازات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسُمّي مقال هيرسي أهم عمل صحافي في القرن العشرين. فيما أكسبتنا شهادته عن الدمار الهائل بسبب القنبلة الذرية الحكمة كي نقاوم إلقاء أي قنبلة من هذا النوع مجدداً- أقلّه حتّى يومنا هذا.
لكن كما تفيد بلوم، لم تراود الحكومة الأميركية أي رغبة في أن تسمح لشعبها بمعرفة مدى حجم وهول الخسارة البشرية التي جنتها أيدي جيشه. حتّى أن أحد الجنرالات تمادى لدرجة قوله للّجنة الخاصة المعنية بشؤون الطاقة الذرية في مجلس الشيوخ إنّ الأطبّاء أكّدوا له أن التسمم الإشعاعي "طريقة لطيفة جداً للموت". وحُثّ الأميركيون على التطلّع قدماً بدل التفكير في الحرب.
وفي سياق حجب المعلومات المتعلّقة بطبيعة المجزرة الحقيقية، اصطحب المسؤولون الأميركيون الصحافيين في جولات ترويجية مدروسة بدقّة لكي يضمنوا أن يصوّر الصحافيون استئناف سكان هيروشيما وناغازاكي حياتهم شبه الطبيعية. بعبارات أخرى، كان هدفهم الحرص على أن تصبح أخبار هيروشيما وناغازاكي أخباراً بائتة.
لكن ويليام شون، مدير تحرير مجلة نيويوركر في ذلك الوقت، كان على يقين أنّ أحداً لم يروِ بعد قصة ضحايا القنبلة. وطلب من هيرسي البالغ من العمر31 عاما أن يكتبها. كان هيرسي صحافياً وطنياً موثوقاً بكل المقاييس. فقد برز في مجلة نيويوركر وتميّز بفضل مقال كتبه عن ملازم شاب في البحرية الأميركية اسمه جون فيتزجيرالد كينيدي تمكّن من إنقاذ طاقم قارب الطوربيد (PT boat) الذي كان مسؤولاً عنه في جنوب المحيط الهادئ خلال الحرب، بعد أن قصمته مدمّرة يابانية إلى نصفين.
ومن أجل دخول هيروشيما، قرّر هيرسي وشون اعتماد إستراتيجية حصان طروادة. وكان من المستحيل التسلّل إلى هيروشيما لأن كل الصحافيين الذين يدخلون المدينة حتى بعد أشهر على وقوع الحادث، يُسمح لهم بذلك وسط رقابة مشددة يجريها القائد الأعلى لقوات التحالف الذي يتابعهم عن كثب. ولذلك قدّم هيرسي طلباً رسمياً لمكاتب القائد الأعلى لقوات التحالف الجنرال دوغلاس ماك آرثر من أجل الحصول على الإذن بدخول اليابان وهيروشيما. وكان هيرسي قد كتب مقالات تمجّد القادة العسكريين، بما فيها واحداً عن ماك آرثر نفسه اعتبر هيرسي لاحقاً أن فيه "الكثير من التبجيل". وقُبل طلبه وبحلول أواخر مايو (أيّار) 1946، استقلّ قطاراً متوجهاً من طوكيو إلى هيروشيما.
وقررت نيويوركر في البداية أن تنشر القصة في ثلاثة أجزاء. لكن شون دفع رئيس تحرير المجلة، هارولد روس، إلى تخصيص عدد كامل لتحقيق هيرسي فقط. وكتب روس إلى الكاتب القديم العهد في نيويوركر والمُحرّر إي بي وايت "يريد [شون] أن يوقظ الناس [من سباتهم]". وبحسب سرد بلوم، قاسى روس معاناة مضنية قبل اتخاذ القرار النهائي. في العدد التأسيسي الذي صدر في العام 1925، قال روس للقرّاء إن المجلّة ستكون "مرحة وفكاهية وساخرة". لكنه استهلّ النشر كذلك بـ"إعلان أهداف جدية"، ونشر قصصاً "من الكواليس".
وبعد اتخاذه قراراً بتخصيص المجلة بأكملها لهذه القصة، قال روس لكاتبة أخرى في نيويوركر هي ريبيكا ويست "لا أعلم ما الذي سيفكر فيه الناس لكنها صعقة بالنسبة إلى كثير من القرّاء".
وفي أوائل أغسطس، قدّمت نيويوركر المقال كي يراجعه الجنرال ليزلي غروفز الذي أشرف على مشروع مانهاتن لتطوير القنبلة الذرية. وما يبعث على الدهشة هو أنّ غروفز اتّصل بشون ليخبره بأنه سيسمح بنشر القصة لكنه يريد إدخال بعض التعديلات عليها، وأرسل أحد مسؤولي العلاقات العامة العاملين تحت إمرته إلى مكاتب نيويوركر في اليوم التالي. ووافق غروفز شخصياً على النسخة الأخيرة من القصة. ولا تزال تفاصيل الاجتماع الذي جرى داخل مكاتب نيويوركر طي الكتمان. لكن فيما اختفت بعض الأجزاء المثيرة للجدل من النسخة الأولى حين أُرسل المقال للطباعة، لم تنتقص المقاطع المحذوفة من وقع القصة القوي.
يأسرك السرد في كتاب "غبار نووي" بشكل خاص حين تصف بلوم الأثر الفوري والضخم الذي أحدثه المقال على جمهور أُخفيت عنه حقيقة الدمار البشري الذي شهدته هيروشيما. نفد العدد سريعاً من أكشاك بيع الصحف. ونشرت صحف في أرجاء العالم مقتطفات من المقال. (سمح هيرسي بإعادة النشر شرط أن تدفع الصحف مساهمات مالية للصليب الأحمر الأميركي عوض أن تدفع له مباشرة). وبثّت الإذاعات قراءة كاملة للمقال، على أربع ليالٍ متتالية. وطلب ألبرت آينشتاين ألف نسخة من أجل توزيعها. ثم نشر ألبرت آي نوبف المقال على شكل كتاب.
وسارع المحررون وكتاب الأعمدة في جميع أنحاء البلاد إلى شجب الصمت والسرية اللذين أحاطا بالمرحلة التي تلت الهجومين النوويين على هيروشيما وناغازاكي. وكتبت صحيفة مونتيري بينينسولا هيرالد الصادرة في شمال كاليفورنيا في افتتاحية غاضبة أنّ محاولات الحكومة الأميركية طمس القصة كاملة جعلت الشعب الأميركي يظهر بمظهر "الأبله عديم الأخلاق".
وسعت إدارة ترومان جاهدة من أجل تحويل مسار ما نجم عن المقال. وضاعف الرئيس ووزير حربه السابق هنري لي ستيمسون جهودهما بهدف الزعم أنّ القنابل اختصرت فترة الحرب، وأن أرواحاً كثيرة نجت من الطرفين لأنّ اليابان كانت لتمضي في حرب طويلة دامية حتّى سقوط آخر رجل (الرمق الأخير).
وجليّ أنّ بلوم كرّست نفسها لهذا المشروع. ومن أجل فهم حجم العمل الذي تطلّبه منها، ما عليكم سوى قراءة فقرة الشكر الواردة في كتابها. فيما يتميز الشكر الذي يكتبه معظم الكتّاب بالصدق والإيجاز، خصصت بلوم سبع صفحات لهذه الغاية. أمّا الحاشية فطُبعت على 64 صفحة.
وأسرتني قصة بلوم التي تسرد خلفية القصة أو ما وراء القصة إلى حد أنني ما أن أنهيت قراءة "غبار نووي" حتّى عدت إلى المقال الأصلي في نيويوركر بعد ما قرأته آخر مرة منذ عقدين من الزمن. ومكّنتني قراءتي شهادة هيرسي الآن- بالإضافة إلى هيروشيما: ما حصل بعدها، وهو ملحق كتبه هيرسي للمجلة في العام 1985- من خلال عدسة الرواية الخلفية التي سردتها بلوم، أن أقدّر أكثر كل ما اقتضاه تسليط الضوء على ما حصل في هيروشيما.
توفي هيرسي في العام 1993، ولا يمكن لنا أن نعرف بالتالي ردة فعله إزاء هذا التشريح الدقيق لإنتاجه المفصلي. فما بذله من جهد من أجل الابتعاد عن الأضواء لا يضاهيه سوى ذاك الذي بذله معاصروه سعياً إليها. ولم يكن لديه وكيل أدبي وقلما قبِل بإجراء مقابلات معه.
لكن هناك ما قد يوحي بأنّ هيرسي ربما كان ليؤيد كتاب بلوم. وبين عشرات الأشخاص الذين تشكرهم بلوم في كتابها يظهر اسم كوكو تانيموتو كوندو. وكوندو هي ابنة القسّ تانيموتو المذكور آنفاً. وكانت كوندو رضيعة تحملها أمها بين ذراعيها حين انفجرت القنبلة. ودُفنت الاثنتان تحت طبقة من الأخشاب الثقيلة والأنقاض. وتمكّنت أمها من نبش حفرة في الركام كبيرة بما يكفي كي تدفع طفلتها عبرها إلى الخارج. وحين سافرت بلوم إلى هيروشيما من أجل إجراء بحثها، تولّت كوندو مهمة المرشدة التي طافت معها عبر المدينة. ويبدو مناسباً أنّ بلوم أهدت كتابها إلى كوندو، في لفتةٍ إلى الطابع الإنساني المضيء الذي وسم مقال هيرسي الأصلي. وهي لفتة يُرجّح أن هيرسي كان ليقدّرها.
*كتاب ليزلي م.م. بلوم "غبار نووي: قصة طمس قنبلة هيروشيما والصحافي الذي كشفها للعالم" لناشره دار سكرايب يو.كاي، يصدر بتاريخ 12 نوفمبر (تشرين الثاني)، بسعر 14.99 جنيه إسترليني (حوالي 18 دولارا أميركيا)
*هافنر صحافية وكاتبة وضعت ستة كتب غير روائية منها "حيث يسهر السحرة: أصول الإنترنت" (مع ماثيو لايون). وهي تستضيف برنامج المدونة الصوتية الأسبوعية "أمهاتنا أنفسنا".
© The Independent