أصبحت مزاعم التدخل الأجنبي الخبيث في سياسات الدول الأخرى شائعة، لدرجة أنها لم تعد مفاجئةً. وسيكون من غير المألوف الآن أن تسمع عن إجراء انتخابات، أو استفتاء، من دون حملة تضليل من الخارج.
لم يقدم تقرير "لجنة الاستخبارات والأمن" التابعة لمجلس العموم بشأن التدخل الروسي، الذي نُشر أخيراً، دليلاً دامغاً، ولم تكن مزاعم التدخل الروسي في استفتاءَي بريكست واسكتلندا، إضافةً إلى الانتخابات العامة الأخيرة، هي ما أثار الاهتمام، بل عدم اتخاذ أي إجراء مضاد بسبب التهرُّب الاستثنائي من المسؤولية بالنسبة لأجهزة الأمن والاستخبارات والوزارات الحكومية.
إن المملكة المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي استهدفتها هجمات إلكترونية، إذ كانت الانتخابات الفرنسية والألمانية والإيطالية واستفتاء كتالونيا كلها مشوبة بمزاعم التعرُّض لعمليات روسية سرية.
ولا ننسى أيضاً الانتخابات الأميركية عام 2016 والتحقيقات التي لا تزال مستمرة حول ما إذا كان دونالد ترمب هو مرشح موسكو الناجح إلى البيت الأبيض. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، الذي تفصلنا عنه ثلاثة أشهر فقط، ثمَّة مزاعم صادرة عن مسؤولين أميركيين بوجود مخططات مُفترضة وضعها الروس والصينيون والإيرانيون للتلاعب بالنتيجة.
للغرب تاريخ طويل وغير مُشرِّف من جهة التدخّل في شؤون البلدان الأخرى في العالم النامي، واستُخدمت القوى الرجعية، ولا سيما الفئات الدينية غالباً، ضد القادة التقدميين الذين حاولوا تنفيذ إصلاحات اعتُبرت راديكالية للغاية وتهدد المصالح التجارية الغربية.
على سبيل المثال، رأينا مخططات اغتيال جمال عبد الناصر التي رسمها البريطانيون في مصر بالتعاون مع الإخوان المسلمين، وإطاحة حكومة محمد مصدق المُنتخبة ديمقراطياً في إيران من قبل البريطانيين والأميركيين، بمساعدة رجال دين بينهم الشاب روح الله الخميني، كما شهدنا إبعاد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لأحمد سوكارنو في إندونيسيا أيضاً، وإسقاط البلجيكيين باتريس لومومبا وقتله في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة ضد حكومة سلفادور أليندي في تشيلي، إحدى دول أميركا اللاتينية التي سلَّمتها الإدارات الأميركية المُتعاقبة إلى أنظمة ديكتاتورية عسكرية مجرمة، لذلك ينبغي ألا يكون صادماً أن تُحاول دول أجنبية التأثير على الأحداث في الغرب.
مع ذلك، فإن طبيعة الحرب السيبرانية وحملات التضليل يمكن أن تؤدي إلى ادِّعاءات وادِّعاءات مضادة حول الإدانة والدافع.
تجدر الإشارة إلى استخدام جيريمي كوربين خلال الحملة الانتخابية الأخيرة معلومات مسربة عن الصفقة التجارية المقترحة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، والتي كشفت عن تهديد مُحتمل لـ "خدمة الصحة الوطنية" من شركات الأدوية الأميركية الكبرى. وقد اتضح لاحقاً أن قراصنةً روساً هم من حصل على الوثيقة (التي تضمنت تلك المعلومات)، وسارع سياسيون محافظون ووسائل الإعلام اليمينية إلى التركيز كثيراً على استخدام كوربين موادَّ مسروقة من قبل موسكو.
لكن لا يوجد دليل على أن الكرملين أرسل تلك التسريبات إلى حزب العمال، إذ كانت متداولة لبعض من الوقت على موقع "ريديت" للتواصل الاجتماعي، وثلاثة مواقع أخرى باللغة الألمانية، إضافة إلى "تويتر". وقد أخذت مجموعة "سيكونداري إنفيكتيون" الروسية للقرصنة تلك الوثائق من حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بوزير التجارة الدولية آنذاك ليام فوكس.
فهل يمكن إلقاء اللوم على حزب العُمَّال حقاً لاستخدامه ذخيرة سياسية مفيدة كان من المستحيل معرفة ما إذا توفرت عن طريق قرصنة نفذتها قوة أجنبية؟ سعى المحافظون أنفسهم إلى التقليل من قيمة الوثائق عندما لوَّح بها كوربين، وحرصوا على تأكيد أنها كانت متوفرة على الإنترنت لأكثر من شهرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخضعت شخصيات عامة أخرى في بريطانيا للتمحيص بشأن القرصنة الروسية، واتُّهِم جوليان أسانج، مؤسس موقع ويكيليكس، مراراً بالتورط في نشر مواد سرقها الروس من حملة هيلاري كلينتون ومن أجهزة الكمبيوتر الخاصة بـ "اللجنة الوطنية الديمقراطية". وألحقت تلك المعلومات، بعد نشرها، أضراراً بالغة بحملة كلينتون، وعزَّزت حملة دونالد ترمب.
وأدَّى التحقيق الذي أجراه روبرت مولر بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية لعام 2016 إلى إدانة روجر ستون، وهو صديق ومستشار لترمب. ووجد المحامي الخاص أن ستون كان حلقة وصل بين حملة ترمب والروس في ما يتعلق باختراق البريد الإلكتروني الخاص بـ "اللجنة الوطنية الديمقراطية" وكلينتون، بالإضافة إلى حملة تضليل عبر الإنترنت ضد المرشحة الديمقراطية في الانتخابات السابقة.
وخفَّف ترمب الشهر الماضي الحكم على ستون، في خطوة لقيت تنديداً واسعاً باعتبارها إساءة لاستخدام السلطة. لكن أسانج، الذي احتلت صلاته مع ستون وعلاقاته المزعومة مع روسيا أيضاً جوانب رئيسة في تحقيق مولر، رغم أنه لا يزال(أسانج) قابعا في السجن. ويواجه الترحيل إلى الولايات المتحدة على خلفية 17 تهمة بالتجسس واختراق أجهزة الكمبيوتر، وهي تحمل عقوبة قصوى تصل إلى 150 عاماً سجناً.
لم تُوجَّه أي تُهم إلى أسانج في ما يتعلق باختراق بريد كلينتون وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بـ "اللجنة الوطنية الديمقراطية"، لكن ذلك لا يعني أنه لن يتعرَّض للاتهام عندما يصل إلى الولايات المتحدة؛ خاصة إذا فاز الديمقراطيون في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
ومع أن مؤسس ويكيليكس أنكر مسؤوليته في قضية بريد كلينتون ومواد اللجنة الوطنية الديمقراطية، إلا أن ستون تحدَّث عدَّة مرَّات عن اتصاله بأسانج عبر قنوات عدَّة.
وبرزت في هذا السياق أسماء شخصيات عدَّة منها نايجل فاراج، مؤسس حزب بريكست، الذي زار أسانج في السفارة الإكوادورية في لندن عام 2017 بعد عودته من رحلة إلى الولايات المتحدة. وذاع خبر تلك الزيارة بعدما رآه أحد أفراد الجمهور وهو يدخل إلى المبنى. ويشار إلى أن غلين سيمبسون، الذي وظَّفت شركته الخاصة بالتحقيقات ومقرها واشنطن، العضو السابق في المخابرات البريطانية (MI6) كريستوفر ستيل لإعداد التقرير حول ترمب، أبلغ لجنة تحقيق تابعة للكونغرس الأميركي أن فاراج كان يزور أسانج بانتظام أكثر مما كان معروفاً، وأنه نقل المعلومات إلى أسانج في جهاز "حامل بيانات".
ونفى فاراج مراراً هذه المزاعم، لكنه رفض الإفصاح لعدد من المؤسسات الإخبارية عمَّا ناقشه مع أسانج، وقال لصاحب هذه السطور "لقد قابلت جوليان أسانج مرة واحدة فقط، ذهبت إلى هناك بصفتي صحافياً لأنني مثلك أردت معرفة المزيد عن رسائل البريد الإلكتروني، ولم تكن هناك إجابة حقيقية متوقعة منه، ومن الهراء أن يقال إنني التقيته سراً. هل تعتقد أن أحد أشهر الوجوه في البلاد يمكنه الذهاب إلى السفارة دون أن يلاحظ الناس ذلك؟".
وكشفت أخيراً وثائق لمكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) أن ستون أرسل برسالة إلى أسانج على "تويتر" قال فيها "إذا تحركت الحكومة الأميركية ضدك فسأكشف عن كل أوراقي. لا أعرف أنك ارتكبت أي جريمة وتحتاج للعفو بسببها، مع أطيب التحيات". وقد أجابه أسانج قائلاً "إنهم يفعلون الكثير في وكالة المخابرات المركزية ووزارة العدل، ومن جانب وزارة العدل، يأتي ذلك بقوة من أولئك المهووسين بإسقاط ترمب في محاولة للضغط علينا لإبرام صفقة".
ويقبع أسانج في سجن بلمارش شديد الحراسة محبوساً في زنزانته 23 ساعة في اليوم، ويقول فريقه القانوني إنه يعاني مشاكل صحية بدنية وعقلية حادة، غير أن محاولات الإفراج عنه بكفالة، وكان أحدثَها خلال جائحة فيروس كورونا، قوبلت بالرفض.
وهناك احتجاجات على النظام العقابي القاسي الذي أخضِع له أسانج على يد السلطات البريطانية، لكنَّ هناك أيضاً عدداً كبيراً نسبياً من الأشخاص، ممن دعموه سابقاً، ثم أداروا له ظهورهم بسبب دوره المزعوم في إيصال ترمب إلى السلطة، بيد أن هذه هي مخاطر التورط في القصص المتشابكة لقضية التحقيقات الروسية المعروفة باسم "روسياغايت".
ويتركَّز الاهتمام حالياً على الولايات المتحدة وانتخابات نوفمبر، التي أثيرت حولها كما رأينا مزاعم بشأن التدخل الصيني والإيراني، وكذلك الروسي.
لكن ما مدى صدق هذه الادِّعاءات؟ لطالما سعى ترمب وأعوانه إلى دحض نتائج تحقيق مولر ووكالات المخابرات الأميركية التي أظهرت أن الكرملين سعى للتأثير على انتخابات عام 2016 لصالح الرئيس. وكان هناك إقصاء منتظم للمسؤولين الاستخباريين والأمنيين الذين رفضوا مباركة اختلاق "حقائق بديلة" خاصة بالرئيس، كما قالت مستشارة البيت الأبيض كيليان كونواي ذات مرة.
ومع ظهور أدلة على أن روسيا كانت تحاول أيضاً التلاعب بانتخابات هذا العام، حاول ترمب وفريقه في البداية طمسها، ثم سعوا إلى صرف الانتباه عنها بمزاعم تدخل الولايات الأميركية ضد حملة ترمب.
وأُقحمت الصين وإيران لاحقاً في دائرة الاتهام بفضل وليام إيفانينا، الذي عيَّنه ترمب مُديراً لـ "المركز الوطني لمكافحة التجسس والأمن"، وصرَّح إيفانينا بأن البلدين يعملان على إلحاق هزيمة بترمب، من غير أن يقدم أي دليل يؤكد ذلك.
كان ذلك خلطاً مُتعمَّداً بين حملة التأثير العام التي تنفذها الصين، وهو أمر تفعله في أماكن أخرى بما في ذلك المملكة المتحدة، وبين الحملة الاستخباراتية السرية للروس، وبخصوص إيران، ليس هناك بين العاملين في المجالين الأمني والاستخباراتي من يعتقد جدِّياً أنها قادرة على التأثير في الانتخابات الأميركية.
ويُمثِّل تصوير الصين على أنها تشكل تهديداً، خصوصاً في ما يتعلق بفيروس كورونا، واحدةً من خدع ترمب الانتخابية، فقد غرَّد 15 مرة على مدار ستة أسابيع للثناء على الرئيس شي جين بينغ وجهود الصين الرامية إلى التعامل مع الوباء، حتى عندما اتَّضح أن بكين قد أخفت معلومات حول المرض، الذي بدأ ينتشر وقتها على مستوى العالم. لذا، ليس هناك ما يدعو للاعتقاد أن ترمب لن يغيِّر موقفه المُناهض للصين إذا فاز بالانتخابات بعد زوال الحاجة للبُعبُع الصيني.
في غضون ذلك، أشيع بأن الرئيس طلب مساعدة الصين لإعادة انتخابه، فقد روى مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون وكبار المسؤولين كيف حضّ ترمب شي جين بينغ على شراء المنتجات الزراعية الأميركية لمساعدة القاعدة الداعمة له في أوساط الفلاحين.
ويبدو أن هذا كان له بعض التأثير، إذ وافقت الصين على شراء سلع أميركية إضافية بقيمة 200 مليار دولار أميركي بحلول نهاية العام المقبل كجزء من الصفقة، بما في ذلك 36.6 مليار دولار أميركي من المنتجات الزراعية الأميركية هذا العام. جاء ذلك في وقت تفرض فيه بكين عقوبات على الواردات من أستراليا، بعد دعوة الأخيرة إلى إجراء تحقيق دولي مستقل بشأن أصل فيروس كورونا.
من جهتها، انتقدت رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي، إيفانينا بسبب معلوماته المُضللة، ما اضطره إلى إصدار بيان يعترف فيه بأن روسيا "تستخدم مجموعة من الإجراءات لتشويه سُمعة نائب الرئيس السابق بايدن وسُمعة ما تعتبرها (مؤسسة) مناهضة لروسيا".
لكن يمكننا أن نتوقع استمرار روايات الخديعة والعمليات غير المشروعة والتدخل الأجنبي العدائي مع اقتراب الولايات المتحدة من موعد الانتخابات الأكثر أهمية في تاريخها الحديث.
© The Independent