إذا كان أدب الجزء الجنوبي من القارة الأميركية قد ارتبط دائماً بأدباء كبار، هم في غالبيتهم من الرجال، بحيث يقال عادة إننا بالكاد نعثر على أديبة كبيرة امرأة في أميركا اللاتينية، بين الزمن الذي فازت فيه الشاعرة الدبلوماسية التشيلية غابرييلا ميسترال (1914–1957) بجائزة نوبل للآداب (1945)، والأعوام الأكثر راهنية التي بدأت تظهر فيها أعمال مواطنتها الروائية إيزابيل آليندي؛ فإن الأدب الرجالي في تلك القارة لم يقصّر في الكتابة عن المرأة، وجعلها غالباً شخصية محورية في الروايات. ومع هذا كان على ذلك الأدب أن ينتظر آليندي وروايتها الكبيرة الأولى "بيت الأرواح"، قبل أن يفتح المجال واسعاً أمام الأدب النسائي. ومع ذلك فإن إيزابيل آليندي الكاتبة التي تسير اليوم بسرعة نحو عامها الثمانين، ولا تزال في عز صباها وحسنها، كما لا تزال مرشحة جدية دائمة للفوز بجائزة نوبل، متفرّدة ليس فقط في منافستها لأبناء القارة الرجال في كتابة الرواية، ولكن أيضاً في العمل السياسي. ولئن كانت إيزابيل آليندي عُرفت بأعمالها الأدبية فإنها عُرفت كذلك بحدثين كبيرين طرآ على حياتها أحدهما مفجع، في ما ينتمي الثاني إلى النضال الوطني الذي خاضته ضد الدكتاتور بينوشيه الذي قاد ذات يوم انقلاباً على ابن عم أبيها الزعيم سلفادور آليندي، وأطاح به بل صفّاه جسدياً حتى.
حسناء غائبة عن الوعي
بالنسبة إلى الحدث الأول، وهو الأهم طبعاً، نجدها تعبّر عنه في واحد من كتبها وهو تلك السيرة المكتوبة روائياً بعنوان "باولا" بدأت كتابتها عام 1992 وأصدرتها في عام 1994 في وقت كانت تراقب فيه مكبّلة بالعجز والفاجعة، ابنتها الصبية التي وقعت في الكوما إثر إصابتها بمرض عضال، وهي جاهلة ما إذا كانت ستعود لتراها واعية وعلى قيد الحياة يوماً. لكن الصبية ستموت في أواخر العام 1992 دون أدنى قبس من عودة إلى الحياة. لقد كانت تلك، الفاجعة الأكبر التي أصابت إيزابيل في حياتها الخاصة. وهي عبّرت بأسى عن تلك الفاجعة في كتاب "باولا" وهو اسم ابنتها، جامعة فيه بين الأحداث الخاصة بالابنة، وسيرة عائلة آليندي، والمآسي التي ما انفكت تضرب العائلة. ومن هنا يمكن لهذا الكتاب أن يُعتبر أيضاً نوعاً من سيرة ذاتية مجتزأة لإيزابيل نفسها، التي منذ "بيت الأرواح" (1982)، نعرف أن الحياة لم تكن هدية حلوة بالنسبة إليها، هي التي ولدت وعاشت وتشردت تحت شعار المنفى إلى درجة أنها حتى اليوم لا تزال تعيش في الولايات المتحدة، حيث نالت جنسيتها وسبق لأسرتها أن عاشت في البيرو وبوليفيا كما في بيروت عاصمة لبنان. وهذا كله نجد أصداءه في كتاب "باولا" الذي حكت فيه إيزابيل بشكل خاص جمودها وذهولها أمام ابنتها الغائبة عن الوعي سنوات طويلة معلقة بين الحياة والموت. لكنها حكت أيضاً ولادتها عام 1942 في ليما عاصمة البيرو، التي كان سفير تشيلي فيها، والدها توماس ابن عم سلفادور آليندي، الذي سيصبح لاحقاً رئيس تشيلي في حكم اشتراكيّ قضى عليه الدكتاتور بينوشيه وطغمته بتمويل من وكالة المخابرات المركزية الأميركية في عام 1973، أي أياماً قبل القضاء (وإن بطريقة مختلفة) على شاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا، الذي تروي إيزابيل في واحد من كتبها – صدر أخيراً مترجماً إلى العربية بعنوان "سفينة نيرودا" -، كيف أنه جهز في عام 1939 سفينة هرّب بها مجموعة من المناضلين ضد الدكتاتور الإسباني فرانكو إلى تشيلي.
رحلة أخرى أكثر سعادة
الحقيقة أن في حياة إيزابيل تلك الحكاية الأخرى، التي لا بد من أن نستعيدها هنا، بعدما أشرنا إليها في أول هذا الكلام، والتي لا تتعلق هنا بأدبها أو حتى بحياتها الأدبية، بل تبدو في واحد من مظاهرها أشبه بأن تكون نسخة معدّلة ومعصرنة عن تلك الحكاية التي ترويها في "سفينة نيرودا". وتتعلق الحكاية هنا بالدكتاتور بينوشيه وسننطلق فيها من سؤال لا بد من طرحه، هل يمكن القول إن ديكتاتور تشيلي كان يحفر (يوم حدثت تلك الحكاية) "قبره بيده"، أم أنه كان يتصرف تبعاً للمقولة العربية القائلة مكرهٌ أخوك لا بطل؟. وما سمح به بينوشيه في ذلك اليوم، هل يمكن النظر إليه الآن على أنه مبالغة في تقدير الديكتاتور لقوته الذاتية، واتكاله على مؤيديه باعتبارهم الشعب كله أو غالبيته، أم على أنه دليل ضعف في وقت كانت فيه سنوات مرت منذ انتصر انقلابه العسكريّ؟
مهما كان من أمر الجواب عن هذا السؤال يبقى أن ذلك اليوم من يوليو (تموز) 1988، كان اليوم الذي شهد ما يمكننا تسميته "بداية النهاية" لحكم بينوشيه، و"بداية سنوات" سوف تقوده لاحقاً إلى "بهدلة" ما بعدها من "بهدلة"، حين سيقبض عليه الإنجليز بناء على طلب قضاة إسبان. ولئن كانت هذه الحكاية الأخيرة حكاية أخرى ليس هنا مجالها، فإن المجال هنا يتسع للإشارة إلى "الخطأ" الجسيم، الذي اقترفه بينوشيه ونظامه، في حق أنفسهم في مثل هذا اليوم من ذلك العام.
إيزابيل تتزعم طائرة العودة
الحكاية يمكن اختصارها في ما يلي، في ذلك اليوم تزعمت إيزابيل آليندي، ابنة ابن عمّ زعيم تشيلي السابق سلفادور آليندي، الذي كان جنود بينوشيه الانقلابيون أجهزوا عليه قبل ذلك بعقد ونصف العقد من السنين، مجموعة من المنفيين، من مثقفين ومناضلين سياسيين في طريق عودتهم إلى سانتياغو، عاصمة تشيلي. ولقد حدث ذلك بعد ساعات قليلة من صدور قرار عن الديكتاتور التشيلي بينوشيه ينص على إلغاء الحظر الذي كان قائماً دون عودتهم إلى الوطن.
كان الحدث كبيراً، طبعاً، بالنسبة إلى ألوف التشيليين من الذين كانوا قد هربوا من المذابح والمحاكمات، وعاشوا موزعين بين فرنسا وإسبانيا والمكسيك وبلدان أخرى. وكان أولئك المنفيون يشكلون زبدة العقل التشيلي، فكرياً وسياسياً واجتماعياً. ومن هنا كان ذلك الخواء الكبير الذي حل على الحياة الفكرية في تشيلي غداة سقوط الجبهة الشعبية، واستيلاء العسكر على الحكم. ولنذكر هنا أن واحداً من كبار الزعماء الشيوعيين التشيليين، وهو الوزير السابق خوسيه أويارشي كان على متن الطائرة نفسها التي كانت تقل إيزابيل آليندي ورفاقها. وكانت تلك أول طائرة تقوم برحلة العودة، إذ ستتبعها في الأيام والشهور التالية طائرات أخرى. وعندما وصلت الطائرة إلى مطار العاصمة التشيلية كان في استقبالها جمهور غفير، لاحظ بسرعة الدموع منهمرة على وجنات العائدين، وعلى رأسهم إيزابيل التي كانت تستعيد في تلك اللحظات بالذات صورة اليندي، القريب والزعيم، ممتشقاً سلاحه يحاول أن يقاوم الفاشيين في اللحظات الأخيرة قبل سقوطه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتصار إيزابيل الأكبر
بالنسبة إلى بينوشيه، كان السماح للمنفيين بالعودة جزءاً من "خطة مصالحة وطنية شاملة" كما قال أنصاره، استعداداً لإجراء استفتاء في الشهر التالي سيُسأل الشعب خلاله، عما إذا كان يريد للجنرال الديكتاتور ولاية جديدة. وكـان بينوشيه يتصور أن الإجراء الذي اتخذه سوف يرفع شعبيته، لكن ما حدث كان العكس، إذ إن الشعب التشيلي، ما أن وجد بعد أسابيع، أن القيود قد رفعت عن عنقه بعض الشيء، وما أن استأنس بوجود المنفيين بين أحضانه، وأحس أن في إمكانه أن يقول رأيه بكل صراحة ووضوح، حتى صرخ "لا" في وجه بينوشيه، إذ أسفر الاستفتاء عن نسبة 53 وأكثر قليلاً في المئة من الأصوات قالت "لا" لعودة الديكتاتور. وأتى ذلك وسط تظاهرات غاضبة صاخبة كان المنفيون أنفسهم في مقدم المشاركين فيها. ومنذ تلك اللحظة أدرك بينوشيه أنه إنما خادع نفسه وظلمها حين سمح للمعارضين بالعودة. فيما سجلت إيزابيل آليندي ما اعتبرته الانتصار الأكبر في حياتها.