يتمثل أحد العناصر غير المنصفة للضربة التي وجهها فيروس كورونا لاقتصاداتنا في الأثر الذي تركه في العاملين غير الثابتين. فبالنسبة إلى البعض (مثلاً، أولئك الذين يوصلون الوجبات إلى المنازل) شهدت حركة الطلب ازدهاراً. لكنها كانت كارثة على معظم هؤلاء العاملين، من سائقي سيارات الأجرة في المدن الكبرى إلى العدد الضخم من العاملين في قطاعي الترفيه والضيافة. وستترك المعاناة الطويلة من أجل الوصول إلى الحالة الطبيعية الجديدة أشخاصاً كثيرين وراءها.
غير أنها تشكل أيضاً فرصة لإعادة التفكير في عقود العمل، لا سيما إزالة الحواجز بين التوظيف بدوام كامل وراتب من جهة وبين العمل الحر بدوام جزئي من جهة ثانية، ما يجعل في النتيجة كلاً من النمطين أكثر إنصافاً.
ويُظهِر مثلان، من ضفتي الأطلسي، في الأيام الأخيرة بعضاً من التفكير الجديد حول كيفية القيام بذلك. ففي الولايات المتحدة، دعا دارا خسروشاهي ، الرئيس التنفيذي لـ"أوبر"، إلى إلزام الشركات العاملة في اقتصاد العمل المؤقت بإنشاء صناديق للمزايا تعطي العاملين المال الذي يمكنهم إنفاقه على المنافع التي يرغبون فيها، مثل التأمين الصحي. وفي المملكة المتحدة، مضى جيستي غروين الذي يرأس "جست إيت" Just Eat للوجبات الجاهزة، إلى أبعد من ذلك. فهو يرغب في توظيف العاملين المؤقتين لدى المجموعة في أوروبا خلال السنتين المقبلتين، ومن ثم سينظر في وضع العاملين في "غراب هاب" Grubhub، وهي الشركة الأميركية التي استحوذت عليها "جست إيت" أخيراً.
ويعرف الصحافيون أمثالنا الذين غطوا قطاع الأعمال لسنوات كثيرة أن عليهم أن يعاينوا الأخبار وراء الكلمات حين يقول أصحاب العمل إنهم يرغبون في توفير معاملة أفضل للعاملين.
وفي رأيي يبدو الموضوع في حالة "أوبر" واضحاً وضوح الشمس. فالشركة تتعرض حول العالم لهجوم يشمل طعوناً قانونية متتالية مقدمة بين ولاية كاليفورنيا ولندن وتنص على أن سائقي الشركة هم في الحقيقة موظفون ويجب أن ينالوا الحقوق الكاملة على هذا الاساس. وحذّر خسروشاهي من أن "أوبر" قد تقفل أبوابها لأشهر عدة في كاليفورنيا إذا لم يُنقَض الحكم القضائي الحالي القائل بأن سائقيها موظفون. وتنظر المحكمة العليا في بريطانيا الشهر المقبل بقضية رفعتها "ترانسبورت فور لندن" TFL (الشركة المشغلة لنظام النقل في لندن الكبرى) ضد "أوبر"، وتتصل بالأمان. بيد أنه من المتوقع أن تحكم المحكمة إما بوجوب الاستمرار في اعتبار سائقي الشركة متعاقدين، أو بضرورة احتساب عقودهم مماثلة للتوظيف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن وجهة نظري، من الصعب ألا يرى المرء الرئيس التنفيذي لـ"أوبر" يحاول من خلال الخطوة الأخيرة تفادي هذه التحديات التي يواجهها نموذجه للأعمال، بدلاً من اكتشافه حاجة مفاجئة إلى أن يعرض على السائقين صفقة أفضل.
وفي حالة "جست إيت"، يبدو الدافع مختلفاً تماماً. فغروين ملياردير هولندي أنشأ أكبر خدمة لإيصال الطعام خارج الصين. ومن بين الصفقات الأخرى، اشترت شركته "تايك أواي" Takeaway منافستها الألمانية "ديلفري هيرو" Delivery Hero قبل سنتين، إلى جانب المجموعة البريطانية "جست إيت" في وقت سابق من العام الحالي، و"غراب هاب" الأميركية في يونيو (حزيران).
وهذا إنجاز مدهش. لكن حين تكون أنت الطرف الفاعل المهيمن في قطاع ما، تتمثل إحدى طرق منافستك مع الآخرين في عرقلة قدرة المنافسين الأصغر على تحقيق شروطك نفسها.
هل تذكرون كيف ضاعف هنري فورد فجأة رواتب عامليه إلى خمسة دولارات في اليوم عام 1914، وقال قوله الشهير إنه يريدهم أن يكسبوا ما يكفي من المال ليشتروا سياراته؟ ما من شك في أنه فعل، لكنه رغب في الواقع في أمرين، الأول خفض استمرار دخول وخروج الموظفين السريع من الشركة وكان ذلك يجري بوتيرة مرتفعة جداً، والثاني اجتذاب العاملين الأفضل بعيداً من منافسيه الأضعف، ما أجبرهم بالتالي على رفع رواتبهم أيضاً. وبالمناسبة، كان نصف الدولارات الخمسة في اليوم تلك راتباً ونصفها الآخر مكافأة. وللحصول على المكافأة وجب على العاملين وعائلاتهم الخضوع لشروط مختلفة، مثلاً، لو كانت زوجاتهم تعمل خارج المنزل فلن ينالوا المكافأة.
وأنا واثق أن غروين صادق في رغبته في إعطاء موظفيه المؤقتين حقوق العاملين، لكن الجانب الآخر من عقد التوظيف هو شرط التكيف مع شروط صاحب العمل. وهذا أمر مناسب لأشخاص كثيرين، بيد أن حرية العمل في الوقت الذي تشاء وكيف تشاء تعوض بالنسبة إلى آخرين، منافع الراتب الشهري. ويتنامى العمل الحر بوتيرة ثابتة في المملكة المتحدة. وفي نهاية العام الماضي، فاق عدد العاملين لحسابهم الشخصي خمسة ملايين شخص، أو أكثر من 15 في المئة من القوة العاملة، مقارنة بـ3.2 مليون شخص عام 2000. ولا يرغب الجميع في العمل الحر لكن يبدو أن أكثرية واضحة تحبذه.
لذلك يجب ألا يهدف التشريع إلى إجبار سائقي "أوبر" أو عاملي إيصال الوجبات لدى "جست إيت" على أن يصبحوا موظفين إذا لم يرغبوا في ذلك. وإذا أرادت الشركات التي يعملون فيها تحسين الشروط والأحكام فلا بأس. ويجب أيضاً عدم السماح بحصول توظيف مقنّع حين يكون الناس موظفين في الحقيقة وعاملين لحسابهم الخاص أمام القانون. فهذه إساءة استخدام للسلطة. وبدلاً من ذلك، علينا، على جانبي الأطلسي، تكييف تشريعات العمل مع واقع ممارساته المتغيرة وتغير الخيارات.
فالعالم المتقدم كله في خضم تجربة ضخمة تدور حول السؤال التالي: كيف نعيد هيكلة كل شيء في حين يعمل كثر من موظفينا من المنزل؟ ويتلخص الاتجاه الواضح في تحول أشخاص كثيرين إلى نموذج هجين، يقع في منتصف الطريق بين التوظيف بدوام كامل والعمل الحر بصورة تامة. وسيتطلب نجاح الأمر خُلُقاً وانضباطاً من العاملين وأصحاب العمل.
© The Independent