في الخامس والعشرين من مايو (أيار) من عام 2011 اعتزلت نجمة الحوارات الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري، وغادرت برنامجها الذي حمل اسمها لنحو عقدين من الزمان، قدمت خلالهما روائع يتذكرها المشاهد الأميركي على نحو خاص، والعالم بوجه عام.
غابت وينفري عن شاشة التلفزة، لكنها في واقع الأمر لم تغب عن الحياة العامة، ففي عام 2018 سرت إشاعات كثيرة حول نيتها الترشح لسباق الرئاسة الأميركية القادم، أي نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، غير أنها نفت الأمر، وإن كان الإعلان في حد ذاته قد سلط الأضواء من جديد على النجمة الأميركية السمراء اللامعة... ما الذي يستدعي الحديث عن أوبرا ثانية هذه الأيام؟
عودة تلفزيونية مسيّسة
في أواخر يوليو (تموز) الماضي أعلنت أوبرا أنها ستعود إلى برنامجٍ حواريٍ جديد سيُبَث عبر منصة "أبل تي في بلس"، ولعل ما أكسب هذا الإعلان زخماً من نوعٍ خاص، المسحة السياسية التي رافقته، إذ أشارت إلى أن أول حلقة ستتحدث فيها عن العنصرية في الولايات المتحدة، وذلك عقب الاحتجاجات الغامضة التي انطلقت فيها، على خلفية مقتل الشاب الأميركي من أصول أفريقية "جورج فلويد".
على هامش هذا الإعلان، نشرت أوبرا تغريدة على حسابها في (تويتر) قالت فيها، "حان الوقت لإعادة البشرية إلى الحوار"، مضيفةً أنها تأمل في إجراء "حوار يعمل على توحيدنا لا تقسيمنا".
الظهور الجديد لأوبرا سيكون على منصة "أبل ووينفري"، وسيحمل عنوان "الحوار مع أوبرا"، ومن غير جدول زمني محدد، غير أنه من الواضح أن طروحات أوبرا هذه المرة، ستكون مختلفة عما اعتادت تقديمه للعالم من قبل، إذ ستبحث في أطر معينة، غالبها موضوعات مؤثرة وذات صلة بالأوضاع العالمية الراهنة، من خلال استضافة قادة فكر وصفتهم بـ"الرائعين من جميع أنحاء العالم".
هل يمكن لصوت أوبرا أن يستقطب العقول الأميركية الرصينة، التي بدأت تستشعر الخطر المحدق بالنسيج الاجتماعي؟، لاسيما بعد فترة الصدامات التي عمت البلاد الأشهر القليلة الفائتة، والتي كادت تتسبب في اشتعال أزمات تهدد الاتحاد الفيدرالي ولو في المدى الزمني المتوسط وليس القريب.
شهوة السلطة تغازل أوبرا
يكثر الحديث عادة عن شهوة السلطة التي تغازل الفنان والإعلامي ورجل الأعمال، وكل من له علاقة بعالم الشهرة، فالسلطة مغرية إلى مدى بعيد، وتدفع الآخرين إلى دروبها.
الشاهد أن أوبرا قد راودتها شهوة السلطة منذ عامين تقريباً، كان ذلك بنوع خاص خلال حفل توزيع جوائز الـ"جولدن غلوب" في دورتها الخامسة والسبعين، التي جرت وقائعها في مدينة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، ذلك أنه في ليلة الاحتفال، وكما يقال عند أهل الفن، سرقت أوبرا الكاميرات من كافة الحضور، حيث تحدثت بلهجة إنسانية وبلغة المناضلين عن النسوة اللواتي عانين ويعانين في أميركا سواء في الماضي أو الحاضر.
في تلك الأمسية كانت أوبرا من الذكاء الشديد، فقد لفتت الأنظار ولو من باب خفي وخلفي إلى معاناة الأميركيين من أصل أفريقي، وسيرتهم المأساوية على الأراضي الأميركية.
الذين استمعوا إلى أوبرا في تلك الليلة استرجعوا من غير أدنى شك صدى أقوال الزعيم الأميركي الأفريقي "مارتن لوثر كنج"، وخطابه حول تحرير الإنسان الأسود، وقد كانت أوبرا بارعة بشكل هائل، إذ أعلنت في لهجة أقرب ما تكون للهجة زعيمة أممية، وليست لإعلامية قادرة أو بارعة، أن "يوماً جديداً يلوح في الأفق لكل الفتيات والسيدات اللواتي عرفن طعم المهانة الإنسانية".
ألهبت أوبرا وينفري في هذه الليلة حماس الأميركيين في طول البلاد وعرضها، ما دعا صحيفة" الواشنطن بوست"، لأن تنقل عن النائبة الديمقراطية عن "ساوث كارولينا" وقتها "جيلدا كوب-هانتر"، قولها، "يا الله نحتاج لهذا الحماس... أتمنى أن تأخذ الأمر بجدية... هي أوبرا التي تستطيع أن تجمعنا معا".
الإعلام أفضل من السياسية
التماس بين دائرتي الإعلام والسياسة واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة، وعلى المرء أن يختار مقعد القيادة، من البيت الأبيض أو شاشات التلفزة.
لم تكن أوبرا يوماً بعيدة عن أطر الحياة السياسية الأميركية، فالذين قُدِّر لهم أن يتابعوا ليلة إعلان فوز باراك أوباما، شاهدوها والدموع تملأ عينيها، وهي تستند إلى القس جيسي جاكسون، الذي خاض من قبل غمار السياسة بدوره.
كانت أوبرا من الذين ساندوا أوباما مالياً ودعائياً، ما مكنه من الدخول إلى البيت الأبيض، فقد تحدثت على سبيل المثال أمام 18 ألف شخص في ولاية أيوا لإظهار الدعم للشاب الأسمر الذي تجرأ على الأمل، وفي تلك الليلة تحدثت أوبرا للحشد الكبير بالقول، "إنها المرة الأولى في حياتي التي أشعر فيها أنني مضطرة إلى أن أقف، وأعلن تأييدي للرجل الذي أعتقد أنه يملك رؤية جديدة لأميركا" .
تكرر المشهد عينه مرة أخرى أمام 29 ألف أميركي في مدينة كولومبيا بولاية ميزوري، ففي حشد أغلبه من الأميركيين الأفارقة قالت أوبرا، "إن حلم مارتن لوثر قد وقف عند حدود الحلم، أما نحن فلا يجب علينا الاكتفاء بالحلم فقط، علينا أن نحول الحلم إلى واقع".
أوبرا قريبة من الناس
ما الذي جعل أوبرا وينفري محببة إلى قلوب الملايين من الأميركيين من السود والبيض، ديمقراطيين وجمهوريين، لاتينيين وآسيويين؟، ما دعا كوادر الحزب الديمقراطي لوضعها بالفعل على قوائم الأسماء التي يمكن أن تقود أميركا، قبل أن تعدل عن هذه الفكرة، وتمضي في إطار محاولة تغيير وجه أميركا عن طريق المنصات الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي الرائجة أكثر من قنوات التلفزة، التي برعت على شاشاتها قبل ثلاثة عقود.
يمكن القطع بأن لأوبرا ملكة غير مسبوقة في التنقل ما بين الفرح والترح، تأخذك إلى عالم الأغنياء فتبهرك، وتجول بك في دنيا الفقراء فتبكيك.
الذين كتبوا سيرة الفتاة الفقيرة، التي بلغت أوج المجد لاحقاً، يتوقفون كثيراً أمام أدوارها الخيرية، وهي التي تألمت كثيراً جداً في طفولتها، ما حفر في ذاكرتها أحداثاً لا تمحى، ولهذا رأيناها تقف بقوة وراء تجريم التعرض للأطفال والتحرش بهم، ففي العام 1991 أطلقت أوبرا حملة تأسيسية لإعداد قاعدة بيانات وطنية عن أسماء المدانين بتهمة التحرش بالأطفال، مدفوعة بمرارة طفولتها، حيث قدمت شهادة أمام اللجنة القضائية لمجلس الشيوخ دفاعاً عن قانون حماية الأطفال، وقام الرئيس بوش الأب وقتها بالمصادقة على مشروع قانون أوبرا، الذي اعتُمِد في عهد بيل كلينتون عام 1993، وبذلك كانت حجر الأساس في الدفاع عن حقوق الطفل الأميركي لجهة جرائم التحرش والاعتداء، وهو ما يذكره الأميركيون لها بكثير من الفخار.
ينظر الملايين من الأميركيين أيضا لأوبرا نظرة ذات موثوقية ومصداقية، لا سيما حين تتناول شأن العدالة الاجتماعية، والاهتمام بالفقراء والمهمشين في ذلك البلد الرأسمالي بامتياز.
في العام 1997 أسست أوبرا شبكة عرفت باسم "شبكة أوبرا الملائكية"، كان الهدف الرئيس منها التبرع لشراء ملابس للمحتاجين، ومن خلال هذه المساعدات المالية قامت ببناء 200 منزل لإيواء المشردين، كما استخدمت 30 مليون دولار من المساعدات لإنشاء منحة تعليمية جامعية للطلاب المحتاجين، وقامت بتشجيع الناس الذين يقدمون التبرعات، عبر منحهم لقب ملاك، وترشيحهم للفوز بجائزة مالية قيمتها 100 ألف دولار، وكانت الجائزة تمنح كل يوم اثنين من كل أسبوع لشخص استخدم حياته لتحسين حياة شخص آخر.
يراهن الذين يقفون خلف برنامج أوبرا الجديد، على أن نفوذها الإيجابي والخلاّق، سوف يتجاوز حدود أميركا الجغرافية، إلى بقية أرجاء العالم، في محاولة لا تخطئها العين في الطريق إلى إعادة ملامح، ومعالم "الحلم الأميركي" الذي بدأ في الأفول.
لعبت أوبرا دوراً مادياً ومعنوياً بالغ التأثير في مساندة ضحايا الأعاصير، التي ضربت أكثر من دولة حول العالم، وذلك من خلال تلك الشبكة، شبكة الملائكة، التي هدفت إلى تشجيع العمل التطوعي.
هل يمكن لأوبرا عبر البرنامج الحواري الجديد أن تضحي حلقة وصل جيدة مع كل أصحاب البشرة السمراء داخل أميركا وخارجها؟
أغلب الظن أنه كذلك قولاً وفعلاً، ففيما جسور مودتها موصولة بأبناء جلدتها عبر الولايات الأميركية من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، نجد نفوذها الأخلاقي وسمعتها الجيدة منتشرة في القارة السمراء بنوع خاص، فمن أهم أعمالها تبني أكثر من 50 ألف طفل أفريقي، وذلك من خلال توفير سبل الحياة اللازمة لهم من خلال مدارس ومكتبات ومنازل، وقد زارت أكثر من دولة أفريقية، وتركت هناك بصماتها الرائدة.
لم تكتف أوبرا بأفريقيا بل تخطتها إلى الهند، وهناك كفلت المئات من الفتيات الهنديات اللواتي أُصِبن بأمراض مؤلمة من جراء زواجهن المبكر.
أوبرا تصالحية في زمن العنصرية
يمكن القطع بأن أوبرا وجه من الوجوه الأميركية التسامحية والتصالحية الشهيرة، تلك القادرة على هدم جدران العنصرية، وإقامة جسور الحوار بين كافة الأعراق والأجناس التي تجمعها "بوتقة الانصهار" الأميركية الشهيرة.
وفي الحديث عن أوبرا يقول البعض إن مداركها المعرفية تتجاوز بكثير ما يعرفه الرئيس ترمب، لا سيما ما يخص أحوال العالم، وخطوط السياسة الدولية وخيوطها، فأوبرا ليست مجرد إعلامية ناجحة فقط، وإنما هي قارئة محققة ومدققة، ومثقفة عصامية تعد نموذجاً لملايين الفتيات والسيدات في الداخل الأميركي.
أفضل ما يمكن أن تقدمه أوبرا من خلال برنامجها الجديد، هو نموذجها الشخصي المتفرد، المليء بالشفافية والنصاعة، ذلك الذي يمكن أن يعتبر من جديد مثالاً للشباب الأميركي الباحث عن الحقيقة وسط أكوام الزيف والخداع، حتى النظرة للثروة عند أوبرا لها منظور آخر... ماذا يعني ذلك؟
في العام 2003 كانت مجلة "فوربس" تشير إلى أن أوبرا أضحت أول امرأة أميركية من أصول أفريقية تحوز مليار دولار، وفي أعقاب هذا التصنيف المثير في حياتها كان التساؤل الذي طرح عليها من جانب بعض وسائل الإعلام، "ماذا يعني لك هذا الثراء؟".
جواب أوبرا جاء مثيراً كعادتها، "لم يكن هذا أمر يشغلني، فقد كان تركيزي يدور في إطار المثابرة والاستمرار، وكذا النظر إلى الأخطاء التي ارتكبتها ومحاولة تصحيحها وتخطيها، فالذي لا يتعلم من أخطائه لن تستقيم به أمور الحياة".
منزلقات المهانة ومدارك المجد
لم تدارِ أوبرا يوماً بداياتها المؤلمة، والمعاناة التي عاشتها، ومنزلقات المهانة الآدمية التي تعرضت لها، غير أن سلاحها الرئيس كان الكتاب، وفعل القراءة الثمين كفل لها الترقي إلى مدارك المجد.
في التاسعة عشرة من عمرها، وبخلفية فكرية زودتها بها قراءة معمقة في غالبية مناحي الحياة، كان للقدر أن يستجيب للوجه الأسمر الذي تحداه باسماً رغم المعاناة.
في تلك الفترة العمرية حصلت أوبرا على أول وظيفة لها كمراسلة لإحدى قنوات إذاعة "وولف" الأميركية، ولم يكن هذا باليسير، غير أنها مع الوظيفة كانت تظهر تقدماً ملحوظاً في دراستها، الأمر الذي مكنها من إكمال دراستها الجامعية في ولاية تينسي، حيث كانت من أوائل الطلاب الأميركيين من أصل أفريقي في الجامعة.
كان العام 1976 في حياة أوبرا عام الانطلاق إلى الآفاق الرحبة إذ انتقلت إلى بالتيمور، وهناك قدمت أول برنامج تلفزيوني لها بعنوان "الناس تتكلم".
تالياً ومن دون أي خبرة في التمثيل اختارها المخرج الأميركي الكبير ستيفن سبيليرغ لتمثل معه في فيلم "اللون البنفسجي"، الذي رُشِحت عنه لجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة مساعدة، وكان باب الشهرة لها.
بحلول عام 1984 كانت أوبرا تنتقل إلى واحدة من كبريات المدن الأميركية، شيكاغو، لتقدم برنامج "صباح الخير يا شيكاغو"، الذي كان متعثراً في ذلك الوقت.
خلال أقل من عام جعلت منه أوبرا البرنامج الأكثر مشاهدة في المدينة، الأمر الذي شجع منتجي البرنامج على تمديد مدته إلى ساعة كاملة، وفي العام 1985 سُمِّي البرنامج "ذا أوبرا شو"، على اسمها.
بحلول العام 1986احتل برنامج أوبرا المركز الأول ضمن قائمة البرامج الأكثر مشاهدة على مستوى الولايات المتحدة، وتسلمت صاحبته ثلاث جوائز "إيمي"، عن فئة التقديم، والإخراج، والبرنامج المتميز.
كانت انطلاقة أوبرا عبر الفضاءات الإعلامية الأميركية ماضية دوماً إلى الأمام وبات هناك سر ما... ماذا عن ذلك؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مستقبل برنامج أوبرا الجديد
تساءل الكثيرون عن سر تميز برامج أوبرا دون بقية برامج "التوك شو"، وقد أجابت عن هذا التساؤل أكثر من مرة، فقالت ذات مرة، "أعتقد أن الأمر مرتبط بذلك الخيط الذي يربط بين أذهان البشر وعقولهم، فكلنا نرغب في الأشياء نفسها وتجاربنا الإنسانية متشابهة إلى حد ما، ليس هذا فحسب، بل إن الشعور الذي تنقله إلى من تحاوره بأنه موازٍ لك، قريبٌ منك، وأنك لا تعدّ نفسك أعلى منزلة منه، أمرٌ يجعل الحوار أكثر تلقائية وراحة، لهذا فقد أضحى كثير من الذين حاورتهم أصدقائي ويدعونني لزيارة منازلهم وتناول الغذاء معهم".
هنا يمكن القول أن برنامج أوبرا الجديد غالباً ما سيكون نقطة مهمة في هذه الأوقات الساخنة على صعيد الولايات المتحدة، لأنه سيعيد الحوار بين الأميركيين وبعضهم بعضاً، من خلال بناء الجسور وهدم الجدران... أوبرا تعاود صعود مدارك النجاح على حطام العنصرية.