هي حكاية بطلاها، كمعظم الحكايات، رجل وامرأة. ولكن ليس بالمعنى المعهود لحكايات تجمع رجلاً بامرأة. بل بمعنى مختلف تماماً، وربما نقول فريداً من نوعه كما سنرى.
هي إيلا مايّار التي كانت زمن الحكاية، أواسط ثلاثينيات القرن العشرين، صبية مفعمة بالحيوية شديدة الذكاء لا يمكن شيء أن يقف في وجهها حين تقرر الإقدام على مغامرة. سويسرية في الثلاثين من عمرها تميل إلى الصمت، رياضية محبة للحياة تعشق السفر وتركز اهتمامها على المناطق المسلمة من القارة الآسيوية سواء كان ذلك في بلاد ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي أو الصين، إيران أو أفغانستان وغيرها من تلك البلدان التي زارتها مراراً وكتبت عنها مئات الصفحات توزّعت كتباً قُرئت على نطاق واسع.
وهو بيتر فليمنغ صحافي شاب يكتب تحقيقات في صحيفة "التايمز" اشتهرت كثيراً في ذلك الحين ما وفّر له شهرة واسعة سيستفيد منها لاحقاً أخوه إيان فليمنغ الذي سيضحي أكثر شهرة منه بفضل ابتكاره شخصية جيمس بوند التي سيقول البعض أن بعض ملامحها أتت مستعارة من بيتر نفسه. وكان هذا الأخير قد اعتاد أن يجمع تحقيقاته في كتب لم تقل شهرة وانتشاراً عن كتب تلك الحسناء السويسرية، ما جعلهما متنافسان في مجال واحد.
كتابان لحكاية واحدة
لكن ثمة مغامرة جمعت بينهما عام 1935 بعدما التقيا خلال رحلة يقوم كل منهما بها بمفرده في منشوريا الصينية، ثم التقيا بعد أسابيع قليلة في بكين. وهناك تبدأ المغامرة المشتركة التي تعنينا. فخلال لقائهما في العاصمة الصينية تبيّن للاثنين أنهما سينطلقان في مسار متشابه نحو أواسط آسيا على أن يفترقا بعد ألوف الكيلومترات كل منهما في طريق. لم لا نسير معاً؟ قال كل منهما من ناحيته... وعلى الرغم من التناقض في طباعهما والتناحر في آرائهما السياسية إذ إنه من مؤيدي الاستعمار وكل أنواع الإمبرياليات فيما هي تنادي بتحرير الشعوب وحصولها على حق تقرير مصيرها. وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات لمعت الفكرة في رأسيهما: لم لا نتوّج الرحلة المشتركة بكتاب يضعه كل واحد منا حول مجريات الرحلة انطلاقاً من وجهة نظره؟ يالها من فكرة! صرخ الإثنان معاً وانطلقا عابرين نحو سبعة آلاف كيلومتر طوال شهور عديدة. وكانا طوال الرحلة يتخانقان ويتناقشان ويحردان ويتصالحان مثل زوجين انتهى شهر عسلهما. كيف نعرف هذا؟
من الكتابين اللذين صدرا بعد حين، واحد له والآخر لها: يروي كل من الكتابين الوقائع ذاتها تقريباً. من دون أن يطّلع أيّ منهما على كتاب الآخر إلا بعد صدوره وانتشاره بين قراء النوع في أطرف مغامرة فكرية، وربما حياتية أيضاً.
حمل كتاب إيلا مايّار عنون "واحات محظورة" وصدر عام 1937 متأخراً عاماً عن تاريخ صدور كتاب بيتر فليمنغ الذي حمل عنوان "بريد تارتاريا". وربما لا نكون في حاجة هنا إلى الإشارة إلى أن الكتابين يعتبران اليوم من كلاسيكيات أدب الرحلات، كما وبشكل موارب نوعاً من دراسة الذهنيات. ليس فقط ذهنيات الشعوب والأقوام التي مرّ بها الإنجليزي والسويسرية طوال مسارهما الطويل، بل الذهنيتان السويسرية والإنجليزية من خلال العلاقة التي قامت بين الكاتبين، وتناول كل منهما أخلاقيات الآخر وتصرفاته وردود فعله ونوعية العلاقات التي أقامها مع سكان ومسؤولين محليين مرّ بهم.
مايّار تدافع وفليمنغ يتثاءب
قلنا أعلاه إن الكتابين يرويان الوقائع نفسها ولنضف: من وجهتَي نظر متناقضتين بل متناحرتين، إذ فيما يعبّر فليمنغ بين صفحة وأخرى عن سأمه وتأففه متسائلاً متى سينتهي درب الجلجلة ذاك، تكتب إيلا بشغف عن حبها للناس الذين تلتقيهم وعن تعاطفها بخاصة مع قضية مسلمي الصين ووقوفها في صفهم في المعركة التي يخوضونها هي التي كانت في كتاب سابق لها عنوانه "من جبال السماء إلى الرمال الحمراء" قد أبدت تعاطفها مع مسلمي الجمهوريات السوفياتية الخائضين أعتى المعارك ضد ستالين... ومن هنا جعلت من "واحات محظورة" حلقة جديدة في سلسلة كتابات خاضت الرحالة السويسرية الحسناء من خلالها معركة حرية الشعوب في آسيا. بل إن خوضها معركة مسلمي الصين في "واحات محظورة" كان الموقف الأكثر وعياً من الناحية السياسية في مسارها الفكري هذا إذ تقول معبّرة عن كون سنكيانغ (منطقة المسلمين الأساسية في الصين) ضحية الجغرافيا: "إن الصين التي بقيت طوال ألفي عام الجارة القوية لسنكيانغ التي يتجمع فيها سكان من أصول تركية وفارسية ومغولية، وجدت نفسها على الدوام مضطرة للسيطرة على هذه المنطقة البعيدة جداً عن نقطة المركز في سلطتها لأسباب إستراتيجية في كل مرة تحل فيها فترة من الفوضى. كان ذلك بالنسبة إليها الوسيلة الوحيدة التي تمكّنها من التحسّب ضد الهجمات التي تقوم بها قبائل همجية كانت، على الرغم من وجود سور الصين العظيم الذي أنشئ قبل ثلاثة قرون من ظهور السيد المسيح، تتسلل بين الحين والآخر إلى داخل حدود الإمبراطورية. وفي الوقت نفسه كانت السيطرة الصينية على حوض تاريم تؤمن لها أمن قوافلها العابرة على طريق الحرير، والتي كانت المعبر الوحيد بين إمبراطورية كاتاي (الاسم القديم للصين) وأوروبا...". (من "واحات محظورة" ص.166 الطبعة الفرنسية الأولى).
لقد بدا واضحاً أن هذا النوع من التفكير كان يشغل بال إيلا مايّار فيما كان بيتر فليمنغ يتثاءب مكتفياً بالقول بين الحين والآخر إن الاستعمار الأوروبي هو وحده ما يؤمّن الحلول المنطقية لكل تلك المعضلات. فهل سيدهشنا بعد ذلك أن نجد جيمس بوند لا يتوقف عن الدفاع عن الإمبراطورية البريطانية في الروايات التي سوف يكتبها إيان فليمنغ لاحقاً مجسّداً فيها أفكار شقيقه؟
مهما يكن سيبقى أن إيلا مايّار التي تهمنا هنا هي التي عُرفت في القرن العشرين بوصفها واحدة من أشهر الكاتبات الرحّالات إلى جانب ألكسندرا دايفد نيل وفريّا ستارك وجان ديلافوا وغيرهنّ من النساء اللواتي اخترن الصعب حين جعلن مجاهل آسيا ميدان تحركهنّ ليصدرن عنها نصوصاً في منتهى القوة والجمال لا تزال حتى اليوم قادرة على تصوير ما يمكن المرأة فعله حين تتخلّص من أعباء الحياة اليومية والأفكار المسبقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وماذا عن خطيبة فايمنغ؟
عاشت إيلا مايّار أربعة وتسعين عاماً قضت معظمها في الكتابة والتجوال لترتاح في النهاية حين بلغت الرابعة والثمانين في بيت ريفي جبلي عند سفوح جبال الألب في بلدها، تستقبل الصحافيين وتروي لهم ذكرياتها لا سيما حول تلك الرحلة الاستثنائية. والطريف في الأمر أنها حين سألتها صحافية فرنسية عما إذا قامت هناك علاقة ربطتها ببيتر فليمنغ خلال الشهور الطويلة التي قضياها معاً وحيدين في قفار بعيدة موحشة معرّضين لمخاطر أكيدة، أجابتها مبتسمة بمكر: ما رأيك أنت؟ مضيفة: "على أية حال من المؤكد أن خطيبة بيتر في لندن لم تكن سعيدة بتشاركنا في رحلة واحدة. ولا أعتقد أنه كان من السهل على أحد أن يقنعها بأن رحلتنا كانت رحلة عمل مشتركة لا حكاية رجل وامرأة!".
وُلدت إيلا مايّار العام 1903 قرب بحيرة ستقول دائماً إنها طبعت حياتها قبل أن تنتقل للعيش في الجبال السويسرية ما يزيد من إحساسها المبكر بالطبيعة، وكانت تهوى التجوال البحري في المتوسط بالمركب الشراعي، ما أدخلها عالم المغامرات وجعلها تنتقل عام 1930 للعيش في موسكو قبل أن تتجول عابرة مناطق القوقاز مشياً على قدميها... ولقد تلت تلك رحلات وكتب عديدة أوصلتها إلى رحلات داخل الذات لدى لقائها بمعلم روحيّ هنديّ هو رامانا ماهاراشي سيكون ذا تأثير هائل فيها، هي التي ستواصل جولاتها بعد الحرب العالمية لتستقر أخيراً في قرية شاندولين الجبلية حتى رحيلها عام 1997 بعدما أهدت متحف "الإيليزيه" في لوزان مجموعة هائلة من صور التقطتها خلال رحلاتها العديدة.