يبدو الموقف حول بيلاروسيا، مختلف في واشنطن، وسط التصريحات والتصريحات المعاكسة بين موسكو ودول الاتحاد الاوروبي، فحتى الآن لم يتحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول احتجاجات بيلاروسيا، باللهجة التي اعتاد زعماء البيت الأبيض التعليق بها، على احداث مشابهة، في دول مختلفة، وما صدر عن وزير الخارجية مايك بومبيو لم يخرج عن لغة البيانات الدبلوماسية المعتادة.
توصل وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق بشأن احتمال فرض عقوبات على مسؤولين في بيلاروسيا، رافضين نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في التاسع من أغسطس (آب)، وحضّ مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل موسكو على عدم التدخل في بيلاروسيا بعدما تعهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتقديم دعم عسكري لرئيسها.
قوة احتياطية
في المقابل، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أيام، تشكيل قوة احتياطية أمنية لمساعدة بيلاروسيا، إذا لزم الأمر، وشدد بوتين، على أنه لن يتم استخدام القوات الأمنية الروسية في بيلاروسيا، إلى أن تتخطى العناصر المتطرفة حدودها وتبدأ بأعمال السرقة والنهب هناك، وقال في مقابلة أجراها مع قناة "روسيا-1"، إن نظيره البيلاروسي "ألكسندر لوكاشينكو طلب مني تشكيل احتياط من ضباط إنفاذ القانون، وقد فعلت ذلك"، وأضاف الرئيس الروسي "لكننا اتفقنا أيضاً على أنه لن يتم استخدامه حتى يخرج الوضع عن السيطرة"، وكان لوكاشينكو قال في تصريحات له، منتصف الشهر الجاري، إنه اتفق مع بوتين على العمل من أجل منع خلق تكتل من الدول يهدف إلى فصل روسيا عن الغرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن النظر الى تصريح بوتين حول "تشكيل قوة احتياطية امنية" لمساعدة بيلاروسيا، كتحذير للغرب، في حال إذا شجع الغرب المعارضة البيلاروسية على التصعيد، فيمكن لروسيا وقتها أن تتدخل حيث يسعى بوتين من خلال ذلك، إلى اختبار رد فعل الغرب على استعداد موسكو للتدخل بقوة في المواجهة البيلاروسية، وإلى أي مدى سيسمح له بالقيام بذلك، ومن جهة أخرى، تحذير روسي للمعارضة من استخدام العنف، واختبار رد فعل قادة الاحتجاجات في محاولة للحصول منهم على اعلان مطلق بالولاء العلني لموسكو.
ليست ثورة ملونة
وبحسب المعلومات، سيكون موقف روسيا، وفق ثنائية دعم رسمي للوكاشينكو، ومنع حازم لأي محاولات للتدخل في الموقف من الخارج، وفي الوقت نفسه، الاعتراف بأن الاحتجاجات في بيلاروسيا ليست ثورة ملونة، او تكرار لسيناريو أوكرانيا.
لا يمكن انكار حقيقة ان تجربة أوكرانيا كانت سلبية بالنسبة للكرملين، وأفسدت علاقات روسيا مع العالم كله تقريباً، ومن المستبعد ان يتم السماح بتكرار ذلك منذ البداية، وظاهرياً، يبدو أن لوكاشينكو لن يستسلم، علاوة على ذلك، تمكن من أخذ زمام المبادرة وسيعود إلى الأساليب التي كان يستخدمها مع أي تحرك داخلي، وهو ما سيجعل موسكو بغنى عن أي تدخل.
وعلى عكس أوكرانيا، أو جورجيا، في بيلاروسيا، لا توجد أقاليم انفصالية، وهناك استياء عام للسكان من النظام ورغبة في تغييره، وهذه قضية داخلية بحتة ولا مكان للاعبين خارجيين فيها، ومعظم البيلاروس مؤيدون لروسيا، فالدولتان مرتبطتان باتفاق اتحادي، وكان الجانب الإشكالي هو مواقف الرئيس لوكاشينكو المتذبذب.
النأي بالنفس
فقد طالبت موسكو بالتنفيذ الكامل لاتفاقية الاتحاد الموقعة عام 1999، ومن بين أمور أخرى، نصت هذه الاتفاقية على المواطنة المشتركة، والبرلمان المشترك، وعملة واحدة، "التكامل الكامل"، وفي الواقع، اتحاد كونفدرالي لجمهورية بيلاروسيا والاتحاد الروسي، وكان إنشاء دولة اتحادية كاملة هو السبب الذي جعل روسيا ملتزمة بالحفاظ على الإعانات الاقتصادية لبيلاروسيا ودعم لوكاشينكو.
منطق روسيا في هذا الموقف بسيطً للغاية، ففي المواجهة مع الغرب، من الضروري الحفاظ على علاقات تحالف وثيقة مع بيلاروسيا لضمان أمن حدودها الغربية، والتكامل السياسي طريقة مثالية للقيام بذلك.
ورداً على ذلك، ساوم لوكاشينكو بمهارة عالية، الا أن موسكو كانت واضحة: إما إطلاق التكامل الحقيقي حتى ديسمبر (كانون الأول) 2019، أو إنهاء الدعم الاقتصادي، بما في ذلك المتعلق بقطاع الطاقة، واختار رئيس بيلاروسيا الخيار الأخير، ما زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي في الجمهورية، قبيل الانتخابات الرئاسية.
وحاول لوكاشينكو أن ينأى بنفسه عن روسيا خلال الحملة الانتخابية، موضحاً الطبيعة متعددة الاتجاهات لسياسة بيلاروسيا ورفضها التركيز حصرياً على روسيا، واستقبل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مطلع العام 2020، والذي تعهد بتزويد بيلاروسيا بكل ما تحتاجه من موارد الطاقة وبأسعار تنافسية، وعرض واشنطن لمينسك في مجال الطاقة أثار حساسية موسكو، حيث تعتمد مينسك على روسيا، في ضمان حاجاتها من النفط والغاز، كما أن بيلاروسيا، المعبر الثاني من حيث الأهمية بعد أوكرانيا لأنابيب إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا .
حركة الاحتجاج
ويمكن الاستنتاج، مما سبق، أن هزيمة حركة الاحتجاج الحالية في بيلاروسيا تتعارض مع مصالح روسيا، ويمكن الإشارة هنا إلى عامل مهم آخر لا يسع الكرملين إلا أخذه في الاعتبار، وهو الرأي العام الروسي، الذي كان في السابق موالياً بشكل عام للوكاشينكو، الا أنه، بعد أعمال العنف الأخيرة، تحول التعاطف نحو المعارضة.
والاحتجاجات التي شارك فيها عشرات الآلاف ضدّ لوكاشينكو، بالتحديد هي التي تحرمه من فرصة العودة إلى نهجه السابق في المناورة مع الغرب على حساب موسكو، مع عدم تجاهل ان المعارضة البيلاروسية، لم تلوح في مينسك بأعلام أوروبية خلال التظاهرات الشعبية.
وتتردد روسيا حتى الآن، في خيار التدخل العسكري "العلني"، ولا شيء اليوم، يجبر بوتين على اتخاذ قرار ارسال قوات روسية الى بيلاروسيا، وعلى العكس، قيّم المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، أخيراً، بشكل إيجابي تصريحات مجلس تنسيق المعارضة حول الرغبة في الحفاظ على علاقات ودية مع روسيا.
جناح قوي مؤيد لروسيا
وتكشف الاحداث ان الاتحاد الأوروبي غير قادر على حل الخلاف بين اليونان وتركيا، وعاجز عن إظهار أي تأثير في معظم الأزمات التي تعصف بمحيطه وتهدد وجوده، مع غياب دور أميركي حاسم، بالإضافة لتباين المواقف بين دوله حيال أكثر من ملف.
على الأرجح، ستستغل موسكو الوضع الحالي لتشكيل جناح قوي مؤيد لروسيا في المعارضة البيلاروسية، ويمكن الاعتماد عليه سياسيًاً، من دون القلق من خسارة بيلاروسيا كشريك اقتصادي وحليف عسكري، وعدم السماح بجعل بيلاروسيا، أوكرانيا، أو جورجيا ثانية، وربما فتح الباب نحو سيناريو أرمينيا.
بالمجمل، يمكن ملاحظة أن الأحداث في بيلاروسيا، بدأت للتو في الظهور، وأن الشكل النهائي لا يزال غير معروف، لأنه يعتمد على الكثير من المتغيرات.
ويبقى القول إن إعلان بوتين تشكيل قوة احتياطية أمنية لمساعدة بيلاروسيا، يوضح استعداد روسيا لأي سيناريو، وتراقب موسكو عن كثب تطورات الأزمة السياسية في مينسك، وستكون مستعدة للتدخل العسكري بسرعة (ليس بالضرورة بشكل علني)، إذا حاول أي من دول الناتو، أو الحلف ككل، استخدام قواتها المسلحة في الجمهورية السوفياتية السابقة.