تأتي قضية تسمم المعارض الروسي الأشهر ألكسي نافالني في توقيت بالغ الحرج يواجه فيه الكرملين، والرئيس فلاديمير بوتين شخصياً، كثيراً من المتاعب والمشاكل التي شأنها شأن المصائب "لا تأتي فرادى". فمن تظاهرات الشرق الأقصى، التي اندلعت في خاباروفسك بالشرق الأقصى وعدد من كبريات المدن الروسية بعد اعتقال محافظها سيرجي فورجال، إلى انفجار الموقف في بيلاروس في أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية هناك، وبعد توتر شاب علاقات رئيسها ألكسندر لوكاشينكو مع روسيا ورموزها السياسية، ومنه إلى تسمم ألكسي نافالني في ظروف يكتنف الغموض كثيراً من جوانبها، وتبدو "القشة" التي تكاد تطيح ما سبق وحققته روسيا مع عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي من وفاق واتفاق... ولا أحد يقول إن ضوءاً يتبدى في نهاية النفق المظلم الذي تزيد حلكته لحظة بعد أخرى، ويوماً بعد يوم.
جاءت الأخبار التي باغتت الأوساط الاجتماعية والسياسية في روسيا وخارجها حول "تسميم" ألكسي نافالني بعد انتهاء جولة "تفقدية" قام بها في عدد من مناطق غرب سيبيريا لفضح تجاوزات ممثلي السلطة، في توقيت كانت فيه روسيا تبدو قريبة من التوصل إلى حلول مناسبة للخروج من أزمة مظاهرات خاباروفسك، بعد اعتقال محافظها فورجال المتهم في عدد من قضايا الفساد والتورط في اغتيال معارضيه. لم يكن أحد آنذاك يتصور أن تكون قضية "تسمم نافالني" ذات أبعاد سياسية أو جنائية، لو لم يتلقفها أنصاره ممن سارعوا بدق نواقيس الخطر، وكَيل الاتهامات للكرملين الذي قالوا إنه قد يكون وراء هذا الحادث. وما إن أعلنت وكالات الأنباء والقنوات التليفزيونية الغربية عن وقوع الحادث، مقروناً في بعض جوانبه بالاتهامات التي حظي منها الكرملين بالقسط الأعظم، حتى توقف الجميع عند عدد من التساؤلات، وفي مقدمتها، لمصلحة من؟ فيما تثور تساؤلات أخرى حول مدى حقيقة خطورة نافالني على النظام، وما يمكن أن يُلْحِقه ببوتين من أضرار.
هنا تحضر واقعة مماثلة، سبق وواجهت بوتين في مقتبل سنوات حكمه حين ارتكب "مجهولون" جريمة اغتيال الصحافية المعارضة لبوتين في الشيشان أنا بوليتكوفسكايا ذات التوجهات الليبرالية الغربية عام 2006. وتساءل بوتين آنذاك عن الأضرار التي ألحقتها أو يمكن أن تلحقها مقالات بوليتكوفسكايا بالنظام، وهي التي تكتب في صحيفة غير واسعة الانتشار. قال بوتين إن الضجة التي أثارتها حادثة الاغتيال تضر بنظام الحكم أكثر كثيراً من هذه المقالات، في الوقت الذي حامت فيه شبهات تورط عناصر شيشانية لأسباب ذاتية في هذه الجريمة. ومن هنا يبرز التساؤل عن وزن وقيمة نافالني كمعارض للنظام ومدى خطورته على بوتين، إذ أن قيمته الحقيقية تظل في وجوده كرمز معارض، وفي ما يكشفه من معلومات حول الفساد في النسق الأعلى للسلطة، لكنه لم يصل بعد إلى المستوى الذي يمكن أن يكون في وجوده أو نشاطه تهديداً لبقاء بوتين في السلطة، وهو الذي تحوم حوله أيضاً "شبهات الوقوع في شباك الأجهزة الغربية" منذ سنوات دراسته في إحدى الجامعات الأميركية وما بعدها. وكان نافالني تخرج من كلية الحقوق بجامعة الصداقة بين الشعوب في موسكو عام 1998، وحصل على إحدى منح جامعة ييل الأميركية، ليعود بعدها إلى عالم السياسة في روسيا واحداً من أبرز نجوم اليمين الروسي ممن تخصصوا في مقارعة وملاحقة السلطة بما ينشره عن رموزها من وقائع فساد.
منافسة بوتين
لتأكيد صعوبة أن يكون نافالني منافساً لبوتين، فإنه لم يحقق قدراً مناسباً من النجاح على الصعيد الشعبي، وعلى مدى ما يقرب من عشرين عاماً، إلا في انتخابات "عمدة موسكو"، أمام مرشح السلطة سيرجى سوبيانين على منصب عمدة العاصمة عام 2013، وحصل فيها على نسبة 27،24 في المئة، ليتفرغ بعد ذلك لرئاسة تنظيمه الحزبي "روسيا المستقبل" محدود العضوية، غير الواسع الانتشار. على أن ذلك لا يمنع الاعتراف بأن نافالني، وفي حقيقة الأمر، يظل أكثر العناصر المعارضة شجاعة ومشاكسة ودأباً على مواجهة النظام، وكشف سوءاته، وتجاوزات الكثيرين من رموزه وممثليه، والخروج في المظاهرات المناوئة لسياساته، ما جعله هدفاً للاعتقال والسجن الإداري لفترات متباعدة أكثر من مرة، ومن هنا تكون قيمته التي جعلته "بطلاً شعبياً". وتعلنه جريدة "التايم" الأميركية واحداً من أكثر الشخصيات المئة المؤثرة في العالم لعام 2012.
ومن هذا المنظور لا بد من التساؤل عن مدى حقيقة تورط النظام في واقعة "تسمم" نافالني؟ وهل بلغ المسؤولون حد ارتكاب مثل هذا الإجراء، في مثل هذا التوقيت المواكب لاستمرار كثير من المتاعب التي يواجهها الكرملين شرقاً في خاباروفسك في الشرق الأقصى، وغرباً في بيلاروس؟
وثمة من يتساءل أيضاً عما إذا كان من الممكن أن يسمح المسؤولون في الكرملين في حال تورطهم أو تأكدهم من وقوع هذه الجريمة، بوصول الأطباء الألمان على متن طائرة خاصة لنقل نافالني إلى ألمانيا؟ وهل كان النظام يحتاج إلى مثل هذه الطريقة للتخلص من نافالني، في الوقت الذي كان يستطيع فيه تحقيق ذلك بوسائل أخرى، كثيراً ما تلجأ إليها أجهزة الأمن في كثير من بلدان العالم؟
"شريط وثائقي"
التساؤلات كثيرة، ومعظم الإجابات تقول إن "موسكو الرسمية" لا يمكن أن تقوم بهذا التصرف. لكن ذلك لا يعني وبطبيعة الحال، دحض أو نفي احتمالات ارتكاب أطراف أخرى مثل هذه "الجريمة". ذلك لأن نافالني كان سافر إلى نوفوسيبيرسك وتومسك لتقصي جوانب كثير من قضايا الفساد لإعداد "شريط وثائقي" لطرحه على جماهيره ومواطنيه قبيل انتخابات المحليات التي سوف تجرى في 13 سبتمبر (أيلول) الجاري هناك. وذلك يعني في طياته وجود أصحاب المصلحة في التخلص منه وطمس جرائمهم التي توصل إليها نافالني ونشر بعض جوانبها في الشريط الوثائقي الذي أذاعه عمن وصفهم بـ"مافيا حزب الوحدة" الحاكم في هاتين المدينتين، ودعا فيه إلى عدم التصويت لأمثال هؤلاء النواب في الانتخابات المرتقبة في 13 سبتمبر الحالي، وراء القيام بمثل هذا التصرف.
كما يشار أيضا إلى احتمالات وجود العناصر التي يمكن أن تكون ارتكبت مثل هذه الجريمة، نكاية في النظام الذي يتربص به كثيرون من خصومه في الداخل والخارج. ومن هؤلاء يمكن التوقف عند أصحاب المصلحة ممن تنطبق عليهم البديهية القانونية، "لمصلحة من"؟، ومنهم الاستخبارات الأوكرانية التي دبرت بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية، حسب تصريحات الرئيس الروسي بوتين، عملية "توريط" عناصر مجموعة "فاغنر" للحراسات الروسية المسلحة في انتخابات بيلاروس، وما أسفر عن ذلك من توتر في العلاقات الروسية البيلاروسية، بل والعلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين ولوكاشينكو. وتأكيداً لذلك تحدث جينادي جودكوف عقيد الاستخبارات الروسية السابق وعضو مجلس الدوما "المفصول" حول احتمالات ارتكاب رجال بوتين لمثل هذه الجريمة دون علمه. ورداً على ما يتردد حول أن وجود نافالني على قيد الحياة واستمراره كرمز للمعارضة السياسية "مفيد" لبوتين أكثر من تصفيته جسدياً، قال جودكوف إن بوتين كان عليه الإسراع بالاعتراف بذلك، وإجراء التغييرات اللازمة ومنها إقالة الحكومة وتقديم المسؤولين إلى المحاكمة، وهو ما كان يمكن أن يضيف إلى رصيده كثيراً في الساحة السياسية العالمية. ومن منظور الإجابة أيضاً عن السؤال "الكلاسيكي"، لمصلحة من؟، يمكن التوقف عند من سوف يستفيد أكثر من إلصاق الجريمة باسمي بوتين وروسيا، من خصومهما لتحقيق أكبر قدر من المكاسب. ومن هذه المكاسب ما يمكن أن يتحقق لأوكرانيا وفي بيلاروس، فضلاً عما يمكن أن تجنيه الولايات المتحدة من وقف مشروع "التيار الشمالي-2"، وإرغام ألمانيا وبقية بلدان الاتحاد الأوروبي على استبدال مصادرها من الطاقة، والاعتماد على الصادرات الأميركية. وفي هذا الصدد تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول عدم وجود أية أدلة لدى الولايات المتحدة بشأن احتمالات تسميم نافالني، وإنه سوف يغضب كثيراً في حال تأكيد ذلك، مشيراً في نفس الوقت إلى أن بلاده لا تشكك فيما توصلت إليه ألمانيا من أسباب تسميم نافالني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الاتهامات الغربية
على أن ذلك كله يظل في إطار التوقعات، وقراءة ما بين سطور التصريحات والاتهامات، في وقت ثمة من يقول فيه أن الحادث لا علاقة له بما تروجه بعض الدوائر الغربية حول "عودة أجهزة المخابرات الروسية إلى استخدام "نوفيتشوك"، الغاز المحظور عالمياً، على غرار ما جرى لتصفية سيرجى سكريبال ضابط المخابرات الروسية السابق، اللاجئ إلى بريطانيا وابنته يوليا منذ قرابة عامين". لكن أحداً لم يثبت ذلك بعد، أو يقدم ما يفيد تأكيد ارتكاب مثل هذه الجريمة. وفي هذا الصدد كشف رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو خلال استقباله ميخائيل ميشوستين رئيس الحكومة الروسية في مينسك يوم الخميس الماضي 2 سبتمبر (أيلول) عن "التقاط مخابرات بلاده حديث شخصية ألمانية مع نظيرها البولندي حول أن عملية "تسميم" نافالني تستهدف الحيلولة دون صرف أنظار بوتين عما يجرى في بيلاروس من أحداث، وإغراقه في لجة القضايا الداخلية لبلاده". وقال إنه يطلب تسليم هذه المعلومات إلى المخابرات الروسية لاتخاذ اللازم.
وفي أول رد فعل رسمي من جانب موسكو تجاه هذه القضية، قال سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية إنه ليس لدى بلاده ما تخفيه بهذا الشأن. وأضاف أن الجانب الروسي قام بكل ما يستطيع، واتخذ ما يلزم من إجراءات لعلاج نافالني. لكنه أعرب عن دهشته إزاء تبنى ألمانيا لسيناريوهات وصفها "بالقديمة" التي طالما حددت "أساليب توجيه الاتهام من منصات علنية"، لتعود لاحقاً لتلتزم الصمت تجاه مطالبنا حول تقديم الأدلة والقرائن، وتطبيق الاتفاقات الخاصة بالتعاون القانوني، وتسليمنا الردود اللازمة على ما تطرحه النيابة العامة الروسية من تساؤلات وطلبات". على أن هناك أيضاً من الدهشة الكثير، ومنها ما يتعلق بما نقلته مجلة "دير شبيغل" الألمانية عن أحد الأطباء الألمان ممن شاركوا في تقديم تقريرهم الطبي حول حالة نافالني إلى الحكومة الألمانية، بشأن عثور الخبراء الألمان على آثار سم على زجاجة مياه كان نافالني استخدمها أثناء رحلته. وقالوا أيضاً إنهم عثروا على آثار "السم" في تحاليل الدم والبول وعلى جسد نافالني، وهو ما حاولت مصادر روسية التأكد منه لدى كيرا يارميش السكرتيرة الصحفية لنافالني دون جدوى، وما قالت موسكو إنه يتناقض مع ما جرى الاعتراف به من وقائع قبل نقله إلى ألمانيا.
قصارى القول، إن هناك ما يشبه الإجماع في روسيا حول أن وجود نافالني حياً، ورغم ما يعتري نشاطه في مضمونه وجوهره، من وهن وهوان، يظل في حد ذاته مصدر "عكننة" للكرملين، إلى جانب كونه مصدراً هاماً للمعلومات حول أبعاد الفساد، الذي سبق واعترف بوتين بأنه "المشكلة التي استعصت على الحل خلال ولاياته الأولى". لكن التورط في تسميمه، لا يمكن إلا أن يخدم في حقيقة الأمر سوى "الفاسدين في الداخل" من جانب، ومن جانب آخر القوى المناهضة للكرملين سواء داخل روسيا أو خارجها من دوائر الاتحاد الأوروبي والناتو، التي سبق وأعلنت عداءها لروسيا وكشفت عن مخطط "تقسيم روسيا" والإطاحة بفلاديمير بوتين، في إطار تنفيذ فكرة "الثورات الملونة" التي تكاد تطيح حلقتها الأخيرة برئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو، مقدمة للإجهاز لاحقاً على النظام القائم في الكرملين.