منذ إعادة افتتاح مطار بيروت أمام المسافرين قبل شهرين، حملت طائرات الـ "ميدل إيست" اللبنانية أعداداً كبيرة من اللبنانيين المهاجرين إلى أفريقيا، وقد رجع قسم كبير منهم بسبب العطلة الصيفية التي يعودون خلالها إلى لبنان سنوياً، وعاد قسم آخر منهم بسبب انتشار كورونا الكثيف في الدول الأفريقية، ومنها دولة ساحل العاج، التي تضم واحدة من أكبر الجاليات اللبنانية في أفريقيا. وعودة هؤلاء سببها ضعف وفشل القطاع الصحي في هذه الدول، وارتفاع عدد الوفيات بشكل كبير بين المصابين من مختلف الجنسيات، وهذه الحالة دفعتنا إلى طرح عدد من الأسئلة على العائدين، وأهمها، لماذا لم يؤسسوا قطاعاً صحياً قوياً وقادراً على حماية صحتهم وحياتهم في دولة وصلوا إليها قبل قرن وأكثر، وجمعوا فيها أموالاً طائلة تشهد عليها قصورهم الفخمة في القرى والبلدات التي ينحدرون منها. وهل بقي لبنانيو أفريقيا يتعاملون مع الدولة التي عاشوا وأنجبوا أجيالاً متتالية فيها، ووضعوا أسس ازدهارها الاقتصادي، على أنها "ممر" لا "مستقر"؟
هذه الأسئلة التي ولدها انفجار كورونا في أفريقيا، أجابتنا عنها مجموعة من العائدين الذين أمضوا عقوداً طويلة في المهجر الأفريقي، وقد وضعوا أمامنا صورة كافية عن أحوال الجالية اللبنانية في أفريقيا وساحل العاج تحديداً، والعلاقات بين أفرادها، وبينهم والأفارقة سواء من العمال أو رجال الأعمال أو السياسيين.
القديم على قدمه
خلال العقدين الماضيين أصاب مدينة أبيدجان عاصمة ساحل العاج، تبدلاً في حياة المدينة وشكلها وحجمها ووظائفها وعمرانها، وتغير عدد سكانها الأصليين وثقافتهم ووظائفهم، التي دأبوا على القيام بها منذ منتصف القرن الماضي. فبعدما كانت أبيدجان مدينة صغيرة حين بدأت هجرة اللبنانيين إليها، وكانت طرقها غير معبدة ولا تتمتع بالحد الأدنى من البنى التحتية والخدمات، باتت اليوم من أهم المدن الأفريقية على الشاطئ الغربي للقارة السوداء. ومنذ 30 سنة تحولت إلى مرفأ للدول المحيطة بها، لا سيما مالي وبوركينافاسو والدول البعيدة كنيجيريا والنيجر وأفريقيا الوسطى. وأنشئت شبكة طرق حديثة فيها، وطورت البنى التحتية من كهرباء ووسائل اتصالات، فجذبت المستثمرين الأجانب إليها من الأوروبيين وتحديداً الفرنسيين، الذين أنشأوا مصانع وشركات ضخمة فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما اللبنانيون، إلا قلة قليلة منهم، فقد ظلوا على حالهم التي كانوا عليها منذ هجرتهم الأولى إلى تلك المستعمرة الفرنسية الغنية بالموارد والمواد الأولية، ويقومون بالأعمال التجارية نفسها التي بدأوا بها.
وفي بدايات الهجرة، كان كل ما يفعله اللبناني، هو امتلاك محل تجاري لبيع القماش والمنتوجات الزراعية المحلية، وكان التجار اللبنانيون الذين يصيبون ربحاً من تجارتهم المبتدئة تلك، يتجهون نحو استيراد البضائع من أوروبا ومن ثم بيعها للتجار اللبنانيين المبتدئين والجدد، وكانت كلما اتسعت ثروة اللبناني وتضخمت يرسل جزءاً منها إلى أهله في لبنان، ليشيدوا له قصراً فخماً في قريته وليشتروا شقة له في بيروت أو في المدينة المجاورة للقرية التي هاجر منها. وكان إذا ما قرر أحد اللبنانيين أن يفتتح شركة يستثمر فيها أمواله، يؤسس شركة هو مالكها ورئيسها والمخطط لها ومالك جميع أسهمها ورئيس مجلس إدارتها. ولهذا كانت المدينة تتضخم بشكل عصري وتجارة اللبنانيين تتضخم بالطرق القديمة التي لا تدر مالاً في عصر التقنية والاتصالات والشركات المساهمة والعملاقة والإدارة الحديثة، فانحدر جزء كبير منهم إلى الطبقة الوسطى بعدما كانوا من أثرياء أفريقيا ولبنان.
طبقات اللبنانيين في أبيدجان
الطبقة الغنية أو الميسورة، وهي طبقة الملاك وأصحاب الشركات والمصانع، وهم قلة من اللبنانيين الذين استطاعوا مجاراة التحول والتطور. ويسكن الميسورون في أحياء يقطنها الأجانب من فرنسيين وإنجليز، والسياسيون العاجيون. ومنازلهم عبارة عن "فيلا" كبيرة تحيطها حديقة ومسبح، ويعمل فيها حارس وسائق سيارة وبستاني يهتم بالحديقة وخدم لا يقل عددهم عن الـ 10 يعملون في الطبخ والأشغال المنزلية المختلفة. وجميع هؤلاء العمال من المواطنين الأفارقة، ويدرس أبناء الطبقة الميسورة في المدارس الفرنسية، حيث يطمح معظمهم إلى إكمال دراستهم الجامعية في الجامعات الفرنسية، وبات اللبنانيون من هذه الطبقة يعرفون أن تعليم أولادهم سيساعدهم في تولي أموالهم من بعدهم، ليدفعوا بالشركات نحو التطور والعصرنة.
الطبقة الوسطى، وهي الطبقة الأقل عدداً، يعمل اللبنانيون من هذه الطبقة في محالهم التجارية الخاصة، أو موظفين في مصانع وشركات اللبنانيين وبرواتب أعلى بقليل من رواتب الحد الأدنى للأجور، التي حددتها الدولة العاجية، ويدرس أولاد هذه الطبقة في المدارس اللبنانية، ويسكنون في المناطق الشعبية ويحيون حياة شبيهة بتلك التي يعيشها موظف من الفئة الرابعة في لبنان، وهم لا يعودون إلى لبنان لأنهم يرون أن حالهم فيه ستكون أسوأ مما هي عليه في أبيدجان.
وطبقة المعدمين، وهم أكثرية الجالية اللبنانية في أبيدجان، ويعمل هؤلاء في أعمال المياومة، أو في محالهم التجارية التي كسدت بضائعها في الأسواق، أو في وظائف متواضعة لدى أقرانهم اللبنانيين، ويدرس أبناؤهم في مدارس أبيدجان الرسمية، وكثيرون منهم يطلبون المساعدة من اللبنانيين الميسورين، وبعضهم لا يستطيع تحصيل مبلغ مالي يكفي ثمن بطاقة العودة إلى لبنان، وقد قام لبنانيون، أفراداً وجمعيات وأحزاباً بمبادرات عدة لجمع الأموال لمساعدة هؤلاء في العودة إلى لبنان.
الاندماج المستحيل
يقيم الميسورون اللبنانيون علاقات مع سياسيين في ساحل العاج معظمهم في السلك العسكري والأمني والجمارك، وهذه العلاقات تساعدهم في تمرير أعمالهم وتهريب بضائعهم، وفي ما عدا ذلك لا علاقة قريبة أو بعيدة بين اللبنانيين والمواطنين العاجيين، ولم يحصل أي زواج بين لبناني وعاجية أو بين لبنانية وعاجي إلا في ما ندر، وقد كانت عقود القران القليلة هذه نافلة و"غير مستحبة" في صفوف أبناء الجالية اللبنانية.
ويبدو أن اللبناني يرفض الانسلاخ عن "لبنانه" ليلتصق ببلاد أخرى قصية، وفي حال حاول الاندماج فسرعان ما ينبري أهله في لبنان مطالبين إياه بالعودة إلى الجذور والعلاقات العائلية والطائفية والمناطقية، وهو إذا لم يعد يقيمها هنا، فإنه يقيم هذه العلاقات هناك في بلاد الاغتراب وكأنه في لبنان تماماً، بل، قد يعود لينتخب في الانتخابات النيابية على حساب زعيم أو حزب يؤمن له "تيكيت" الطائرة. فالأحزاب اللبنانية أقامت مراكز لها في أبيدجان العاصمة، وتتزاحم هذه الأحزاب على ضم اللبنانيين إلى صفوفها وبناء حسينيات ومساجد وكنائس ومدارس دينية. ومن المعروف أن أموال المغتربين اللبنانيين تتدفق في الحملات الانتخابية اللبنانية بلدية كانت أم نيابية، وبات معروفاً أن عدداً كبيراً من الطائرات تنقل المغتربين من أفريقيا إلى لبنان عند كل استحقاق انتخابي.
والمثير للغرابة أن ولادة جيلين من اللبنانيين أو ثلاثة في ساحل العاج لم يغير من عادات وذهنية اللبنانيين، إلا قليلاً.