ربما سقطت عبارة "السرقة الأوروبية من العرب"، في كتاب الباحثة ديانا دارك، كالصاعقة على آذان البعض، وما زال السجال يتصاعد بين مؤيد ومستنكر.
وتصر دارك في كتابها "Stealing from the Saracen :How Islamic Architecture shaped Europe" ، الصادر هذا العام، على أن تفاصيل معظم الكنائس الغوطية في فرنسا، بواجهاتها ذات البرج المزدوج والمدخل المزخرف والنوافذ الوردية والقبو المضلع والبرج المدبب، تدين بأصولها إلى أسلافها في الشرق الأوسط.
وتعود دارك في كتابها، المنظم بترتيب زمني كورونولوجي، إلى ما قبل الحروب الصليبية، لتتحدث عن تأثيرات وجدت طريقها إلى أوروبا من الشرق الأوسط عبر فرنسا وإسبانيا وغيرهما من البلدان الأوروبية. وهذا ما كتبته في تغريدة بعد حادثة حريق كنيسة نوتردام، "إن التصميم المعماري لنوتردام، مثله مثل جميع الكاتدرائيات الغوطية في أوروبا، يأتي مباشرة من كنيسة قلب لوزة في سوريا التي تعود إلى القرن الخامس. لقد أعاد الصليبيون مفهوم البرج المزدوج الذي يحيط بالنافذة الوردية إلى أوروبا في القرن الثاني عشر. إنها محافظة إدلب، ولا تزال قائمة".
وأضافت، أن "الأقواس الثلاثية ذات الرؤوس المدببة الواضحة، جاءت من جنوب فرنسا ومرت بطريق الحج من خلال عدد من الأديرة وصولاً إلى كبرى الكنائس، ثم سجل الكهنة تفاصيل هذه المباني في كتبهم التاريخية، التي أوضحوا فيها مصدرها وعملية استيراد مواد ومعارف ومهارات البناء".
كاتدرائية نوتردام الفرنسية
أُدرجت كاتدرائية نوتردام بطرازها المعماري الغوطي على لائحة اليونسكو منذ عام 1991، وتحظى بأهمية خاصة، إذ بُنيت في مكان بناء أول كنيسة بباريس، "القديس استيفان"، ويزيد عمرها على 850 عاماً. وتعد من المعالم السياحية البارزة في فرنسا، إذ تتغنى الأمة الفرنسية بها كرمز فني وطني وإرث ثقافي وحضاري وذاكرة حية تختزن مجموعة من الأحداث الإمبراطورية والجنازات الوطنية وحفلات الزفاف الملكية.
وتؤكد دارك، أن أصولها ومعالمها المعمارية تعود إلى القرون المسيحية الأولى في سوريا، حيث نشأت العمارة المسيحية حاضنة ثقافات وطرز معمارية عديدة. فهذا الفن الغوطي الطاغي بعناصره، بدءاً من برجيها ودعاماتها وزخارفها وفسيفسائها ونوافذها المدببة بزجاجها الملون وصولاً إلى سقفها المقوس، تعود أصوله إلى شمال شرق سوريا، حيث الأم الأولى للعمارة المسيحية القديمة، "كنيسة قلب لوزة"، والبدايات الأولى للمسقط البازيليكي الذي تشتهر به كنائسها، بخاصة في درعا وبصرى وإدلب وحلب.
كنيسة قلب لوزة السورية
أما كنيسة قلب لوزة، فقد سُجلت في لائحة التراث العالمي لليونيسكو عام 2011 كجزء من المدن المنسية السورية. وجاء في الوصف التوضيحي المُقدم لليونسكو في ما يخص القيمة العالمية البارزة، ضمن الوثيقة المنشورة على موقع اليونيسكو برقم Ancient villages of Northern Syria 1348 بأنها "توضيح استثنائي لتطور المسيحية في الشرق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهي تتبع للتجمع الأول في جبل باريشا بمنطقة حارم، الذي يعد امتداداً طبيعياً للمدن المنسية في شمال غرب حلب. وفيما تعود لفترة من أغنى الفترات في تاريخ سوريا، تعد أبرز المعالم بالمنطقة لأهميتها التاريخية، إذ تظهر في بنائها التأثيرات المعمارية السورية القديمة. وتعتبر دارك، أن وجه الشبه بين الكنيستين يكمن في الأعمدة التي تقسم الكنيسة إلى ثلاثة ممرات واسعة، وصحن ورواقين جانبيين، مع ثلاثة أقواس كبيرة ترتكز على تيجان عريضة لتوزيع الوزن المحمل بالنوافذ الحجرية والسقف الخشبي الأصلي فوق الصحن.
أمثلة كثيرة
بدأ تطبيق الطراز الغوطي في الغرب نهاية القرن الحادي عشر، وظهر جلياً في النوافذ المرتفعة والأقواس المدببة والقباب المتصالبة مع ظهور أساليب إنشائية مختلفة مثل الدعامات الطائرة، التي تظهر بوضوح في كنيسة نوتردام مع الحفاظ على المسقط البازيليكي ذاته وبرجي المدخل في الجهة الغربية. فعندما كان القوس الدائري منتشراً في جميع أنحاء أوروبا، كان القوس المدبب ذو الأصول الشرقية متفوقاً تقنياً من حيث قدرة الحمل على مسافات مرتفعة، وكانت هذه الطريقة الوحيدة المثلى لبناء الأقبية المرتفعة في نوتردام.
وتتحدث دارك عن جهل الغرب في أصول ثقافتهم، وتذهب إلى وصف ذلك بـ"المتعمّد" لدى البعض، خصوصاً في إسبانيا التي لا تعترف بإرثها وماضيها الإسلامي وتحاول طمس معالمه. الأمر ذاته ينسحب، وفق دارك، على معالم تراثية كثيرة في الغرب، مثل ساعة "بيغ بن" اللندنية الشهيرة المنسوخة عن مأذنة المسجد الأموي الكبير في حلب، وقبة الصخرة بالقدس التي يتجسد تصميمها في كاتدرائية القديس مارك في البندقية، والجامع الكبير في دمشق الذي ألهم مصممي قاعة مدينة فلورنسا وسان ماركو كامبانيل في البندقية. أما مسجد قرطبة الشهير بأقواسه المتعددة المتقاطعة وزخرفته الإسلامية، الذي تحول إلى كاتدرائية بعد سقوط الأندلس، فقد استُنسخ في العديد من كنائس أوروبا، والأمثلة كثيرة.