لم تنجُ المواقع الأثرية والتراثية السودانية من تهديدات سطوة الفيضان، الذي لم يتوقف عند اجتياح وتدمير المناطق السكنية والزراعية والمرافق الخدمية، بالسواد الأعظم من الولايات السودانية، بل امتدت براثنه، لتهدد ذاكرة البلد وهويته وتاريخه، إذ تواجه خطراً نتيجة التهديدات المباشرة وغير المباشرة، للعديد من المواقع الأثرية التاريخية، جراء دخول مياه الفيضان إلى بعضها واقترابها الشديد من البعض الآخر، في مناطق آثار مملكة الفونج بسنار وطوابي عهد المهدية بمناطق الخرطوم الثلاث، بالخرطوم وبحرى وأم درمان.
ووصلت مياه الفيضان مطلع هذا الأسبوع إلى المدينة الملكية بالبجراوية، (عاصمة مملكة مروي الأثرية)، بولاية نهر النيل بمحلية شندي، إثر تعرض الموقع الأثري لتدفق خطير من مياه الفيضان، وغطت المياه فناء منطقة المدينة والباحة خلف وحول الحمام الملكي، الذي تضم غرفته مجموعة أثرية من التماثيل لعازفات موسيقى وزخارف ورسومات حيوانية ملونة، في صورة متحف مصغر، وغمرت المياه المساحة حول الحمام الملكي، الذي يشمل آثاراً مخفية تحت الأرض قيد التنقيب.
وأعلن مصدر مسؤول في الهيئة القومية للآثار والمتاحف، في حديث لـ"اندبندنت عربية"، أن مياه الفيضان تسببت في تشرب أسفل حوائط مبنى الحمام الملكي، الذي يقع في منطقة طرفية من المدينة الملكية، جراء ملامسة مياه الفيضان لأسفل حوائطه سُحبت بمضخة مياه، قبل أن تتجاوز المياه مبنى الحمام، لتهدد المدينة بأكملها، التي تضم قصوراً ومعابد مهمة، مثل معبد الإله آمون، الذي شيده الملك نتكاماني والملكة أماني تيري، في العصر الذهبي لمملكة مروي، ويُعتبر ثالث أكبر معبد له بوادي النيل بعد معبدي الكرنك وجبل البركل، إلى جانب قصر الإمبراطور أغسطس. ويعتبر الحمام الملكي من المتاحف الأثرية المهمة التي تشكل مزيجاً من الطراز اليوناني المصري، بنكهة سودانية، ويُغذى الحمام بالمياه عبر ممرات مائية سفلى من النيل مباشرة، تمر عبر آبار للتنقية ثم تُصرف بعد استخدامها عبر مجار أخرى. كما تضم المدينة الملكية مباني أثرية أخرى، بعضها حجري، والآخر من الطين.
إنقاذ مملكة مروي
وأفلحت جهود كبيرة في إنقاذ الآثار الشاخصة في منطقة مملكة مروي، قام بها فريق متخصص، ضم أثريين ومرممين وشرطة حماية السياحة والآثار، وعدداً من المؤسسات الأكاديمية على رأسها جامعة الخرطوم، انضم إلى وحدة الآثار في الموقع ومكتب الآثار في مدينة شندي، بمعاونة الحكومة المحلية وأهالي المنطقة المجاورة، ما مكن من إنقاذ المدينة الملكية من الدمار بإقامة حواجز ترابية وحجرية وبأكياس الرمل لمنع تدفق المزيد من مياه الفيضان، وسحب المياه التي دخلت بواسطة المضخات. وشرع مسؤولو الهيئة القومية للآثار والمتاحف بالمركز وفرعها في الولاية، في دراسة الوضع واتخاذ المزيد من الإجراءات اللازمة، لحماية وتأمين هذه المنطقة الأثرية المهمة المُسجلة ضمن التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
ومن جانبه قال مارك مايو، مدير الوحدة الأثرية الفرنسية في السودان، لدى زيارته الموقع، إن منطقة "البجراوية" الأثرية، عاصمة المملكة المروية خلال القرن الرابع قبل الميلاد مهددة بالفيضان بسبب ارتفاع منسوب مياه نهر النيل إلى مستوى قياسي.
وأوضح عالم الآثار الفرنسي أن مفتشي الآثار بنوا سدوداً في المكان لمنعها من إتلاف هذه التحفة الأثرية.
وسجل وفد من الحكومة المركزية زيارة عاجلة إلى الموقع الأثري برئاسة وزير الثقافة والإعلام، فيصل محمد صالح، للاطمئنان على الإجراءات التي اتخذت لحماية الموقع وتأمينه.
حملة استنفار لحماية الآثار
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبهم، أطلق العاملون في الهيئة القومية للآثار والمتاحف، مبادرة بتنظيم "حملة استنفار قومية" لحماية المواقع الأثرية وتأمينها على مستوى السودان، ووجدت تجاوباً كبيراً من المؤسسات الأكاديمية والمغتربين من أبناء الوطن، والمهتمين بالآثار والتراث، وابتدروا الدعم المادي باستقطاع 500 جنيه من راتب كل موظف في الهيئة، دعماً للحملة.
المشهد نفسه يهدد ولاية سنار مع اقتراب مياه الفيضان الشديد من مواقع آثار مملكة الفونج (1504 – 1820) بعد الميلاد، أقدم مملكة إسلامية بعد مملكة الأندلس على ضفاف النيل الأزرق في ولاية سنار، التي خلف فيها الفيضان خسائر فادحة، كأكبر الخسائر من بين ولايات السودان الـ18.
في السياق ذاته، أكد وكيل وزارة السياحة والآثار، غراهام عبد القادر لـ"اندبندنت عربية"، أن وزارته تتابع عن كثب تطورات دخول مياه الفيضان إلى المدينة الملكية بالبجراوية الأثرية، وتقوم شرطة حماية التراث القومي باتخاذ الإجراءات اللازمة، بالتنسيق مع الدفاع المدني ووحدتي الآثار بكل من مدينة شندي والبجراوية، لمنع أي تمدد جديد للمياه إلى عمق المدينة الملكية، والتحسب للاحتمالات كافة، بتقوية التروس والجسور الواقية.
وأوضح عبد القادر أن طابية شمبات في منطقة الخرطوم بحري، والتي تعود لفترة الدولة المهدية، واجهت تهديداً حقيقياً، لولا تضامن جهود أهالي تلك المنطقة، مما مكن من احتواء التهديد وإنقاذ الطابية، كما أن طابية أم درمان، التي تعود للحقبة التاريخية ذاتها، ستكون مهددة بشكل كبير ومباشر في حال استمر وضع مناسيب الفيضان على ما هو عليه، مشيراً إلى احتياطات عدة اتخذت لحماية الطابية.
وقال عبد القادر "لا بد من التخطيط المستقبلي والتحسب بالاستعداد لمواجهة التغيرات المناخية التي تجتاح العالم، بإحداث معالجات رئيسة، حيث لم يسبق أن واجهت المناطق الأثرية شمال الخرطوم مخاطر مماثلة من قبل".
80 في المئة على الضفاف
من جهته، كشف فوزي حسن بخيت، كبير مفتشي الآثار في الهئية القومية للآثار والمتاحف، لـ"اندبندنت عربية"، أن 80 في المئة من الآثار الشاخصة ومواقع التراث السوداني تقع على ضفاف الأنهار ومجاري الأودية، وضمنها آثار منطقة البجراوية، بطبيعة الإنسان منذ القدم، ونزعته للاستقرار بجوار مكامن الحياة، شأن كل الحضارات، حيث التفت كلها حول النيلين الأزرق والأبيض ونهر النيل ووديان هور بدارفور والمقدم بكردفان والعلاقي في الولاية الشمالية ومن ثم فإنها جميعاً تحتاج إلى خطط لتأمين حمايتها آنياً ومستقبلياً.
وصنف بخيت التهديدات التي تواجهها المواقع الآثرية إلى نوعين، فئة أولى، تتعرض إلى تهديد مباشر، وهي مواقع مملكة مروي في ولاية نهر النيل، التي تضم المدينة الملكية، إضافة إلى مواقع أخرى على ضفتي النيل، في كل من ديم القراي المتاخمة لمملكة مروى، بينما ظل موقع النقعة والمصورات، البعيد نسبياً عن مجرى النيل، تاريخياً تهدده السيول والأمطار.
واعتبر كبير مفتشي الآثار، أن المواقع الأثرية في الولاية الشمالية تواجه تهديداً من الفئة الأولى، والتي تضم مواقع دنقلا العجوز، عاصمة مملكة المقرة المسيحية، وما فيها من قصور وكنائس وأديرة منذ العهد المسيحي، إلى جانب مواقع جبل البركل التي تحتوي على معابد وقصور تعود لمملكة نبتة، المسجلة أيضاً ضمن التراث الإنساني العالمي لدى منظمة اليونسكو، إضافة إلى موقع الخندق الأثري شمال مدينة الدبة على ضفة النيل، وموقع سبو للرسوم الصخرية في منطقة الشلال الثالث، فضلاً عن موقع جزيرة صاي بقلاعه الضخمة التي ترجع إلى العهدين الفرعوني والعثماني، ومقابر منذ العصور الحجرية أو ما يُعرف بما قبل التاريخ، إضافة إلى موقع مدينة سوبا الأثرية، عاصمة مملكة علوة المسيحية ما بين القرن التاسع والقرن الـ15 الميلادي، والتي تضم قصوراً وكنائس تعرضت للتعدي والتهديد المزدوج، من مياه الفيضان والبشر أيضاً.
دراسات للحماية العاجلة والمستقبلية
وأضاف "من المواقع التي تواجه تهديداً مباشراً آنياً طوابي، فترة الدولة المهدية، وعددها تسع طواب تنتشر كلها على ضفاف النيل، في كل من مناطق أم درمان والقماير ووشمبات والدباغة، في ولاية الخرطوم التي يحاصرها الفيضان الآن، ويتعاظم الخطر كون كل تلك الطوابي مباني طينية سريعة التأثر بالمياه والرطوبة والنزز (التشرب من أسفل التربة).
واستطرد بخيت قائلاً "هناك مواقع أثرية أخرى تواجه تهديدات غير مباشرة، على الرغم من كونها أيضاً تنتشر على ضفتي النيل الأزرق، ومعظمها تحت التنقيب، تنتمي إلى العهد المسيحي ما قبل التاريخ وبعد مملكة مروي، في كل من الكسمبر وأم عليلة والشبارقة وبرمكو والبرياب".
وبحسب وكيل وزارة السياحة والآثار، فإن الجهود الرسمية والشعبية لحماية المواقع الأثرية تتزامن مع دراسة شاملة تجريها الوزارة مع الجهات المختصة، تتضمن مشروعاً كبيراً لحماية الآثار يجري تصميمه بواسطة الهيئة القومية للآثار والمتاحف، تتضامن فيه جهود الدولة وهيئة اليونسكو والولايات والمجتمع المحلي، إلى جانب حماية وتأمين الحفريات الجارية تحت الأرض، المستمر فيها العمل منذ فترة طويلة، حيث تعمل أكثر من 40 بعثة أثرية في السودان، مبيناً أن وزارته تعد دراسة عاجلة توثق لما حدث في المدينة الملكية بالبجراوية، وإعداد وثيقة تحدد نوع الحماية الممكنة والمطلوبة لمناقشتها مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، بحكم تسجيل هذا الموقع لديها ضمن التراث العالمي الإنساني.
ويتعرض السودان إلى موجة فيضانات غير مسبوقة في مناطق واسعة اجتاحت أكثر من 16 ولاية من ولاياته الـ 18، وارتفعت مناسيب الفيضانات بصورة لم تشهدها البلاد منذ حوالى 100 عام في 1946. وخلفت الفيضانات أضراراً وخسائر مفجعة في الأرواح والممتلكات، من منازل ومرافق عامة ومزارع وحيوانات، وتشردت مئات آلاف الأسر، كما خلفت وراءها وضعاً صحياً متردياً نتيجة تراكم مياه الفيضان واختلاطها بالصرف الصحي في العديد من المناطق.
وتوقعت وزارة الري والموارد المائية أن تبدأ موجة الفيضانات في الانحسارالتدريجي، بانخفاض مناسيب مياه نهر النيل وروافده المختلفة، اعتباراً من نهاية هذا الأسبوع.