رسم المصريون خطاً بيانياً شعبياً فيروسياً قبل أن تتجرأ منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة والسكان والمراكز البحثية والإحصائية على رسمه. وقت كان تصاعد وتيرة الإصابات في ذروته، أعلنتها القاعدة الشعبية العريضة حرة صريحة: "جرى تسطيح المنحنى وكفى". ووقت بدأت مرحلة تسطيح المنحنى بالفعل، كانت القاعدة العريضة قد انصرفت بالفعل بعيداً عن المنحنيات والتسطيحات، وصنعت لنفسها قواعد مطاطية حديثة خاصة بالحياة الطبيعية الجديدة.
الكمامات سلعة بائرة
الحياة الطبيعية الجديدة في مصر تعدت مرحلة حفظ ماء الوجه، وما تبقى في الجيب وتجنب دفع غرامة عدم ارتداء الكمامة بارتدائها أسفل الأنف ثم أسفل الذقن، وجرى التخلص منها تماماً لدى قطاع كبير من الشعب. حتى باعة الأرصفة ممن احترفوا بيع الكمامات "غير الطبية" الحاملة أخطاراً قاتلة على الأرصفة اعتبروها "تجارة بائرة". حسين، 18 عاماً، الذي يفترش الرصيف المتاخم محطة مترو أنفاق سعد زغلول (جنوب القاهرة) يقول وهو يشير إلى حفنة من الكمامات المتربة الملقاة وسط الصحون ولعب الأطفال وأدوات المطبخ البلاستيكية التي يبيعها: "خلاص. لم يعد لها زبون". ينظر حوله ويقول: "قلة فقط من ترتدي كمامة، وأغلبية هذه الفئة إما ترتدي كمامة من المفترض أنها لاستخدام واحد لبضعة أيام وربما أسابيع، فميزانية الناس لا تسمح ببند إضافي لها، أو ترتدي الكمامات القماش التي يجري غسلها وإعادة استعمالها".
ارتداء الكمامات، أو بالأحرى عدم ارتدائها، ليست الأمارة الوحيدة التي أشهرتها القاعدة العريضة من المصريين في وجه الفيروس، معلنة نهاية فترة الإجراءات الاحترازية شعبياً. النوادي الرياضية تشهد عودة تدريجية، لكن بوتيرة سريعة لأعداد الأعضاء المترددين عليها. فبعد أشهر الإغلاق الكامل، ثم أسابيع من اقتصار النشاط على بعض التمارين للفرق الرياضية بأعداد قليلة، جرى فتح أماكن الجلوس من مقاه وصالونات ومطاعم، وفُتحت أبواب النوادي على مصراعيها. صحيح أن الأمر لا يخلو من إجراء يستوجب ارتداء العضو الكمامة لحظة مروره من بوابة الدخول، لكن ما بعد المرور يبقى الجانب الأكبر من الإجراءات الاحترازية قيد الرغبة الشخصية والقناعات الفردية.
عودة تدريجية سريعة
العين المجردة تشير إلى إقبال متزايد من الأسر التي ظلت محافظة على إجراءات العزل والتباعد وقصر الخروج من البيت على شراء المستلزمات المهمة أو إنجاز المهام الحيوية على الخروج بغرض الترفيه. وهنا تبدو الاختلافات واضحة في درجات الحرص ومعدلات القبض على الصغار من أجل تعقيم الأيدي وقياس الحرارة.
حرارة مصر المرتفعة هذه الأيام أصبحت ضمن مبررات نبذ الكمامة وازدراء ارتدائها. فالميكروباص الذي جرى توقيفه وركابه والسائق ومساعده لأنهم لا يرتدون كمامة واحدة في انتهاك واضح وصريح للقرار الصادر قبل أسابيع، الذي يحتم على كل من يستخدم المواصلات العامة أن يرتدي كمامة مضى في طريقه بسلام ووئام، وذلك بعد ما رق قلب أمين الشرطة الذي وقف وهو يتصبب عرقاً بفعل شمس أغسطس (آب) الحارقة ورطوبته الخانقة. السائق أخبره أن ارتداء الكمامة سيعرضه والركاب للخطر، لأنها ستحول دون تنفسه، وهو الرأي الذي حاز موافقة جموع الركاب الذين اختلطت أنفاسهم بعرقهم المتصبب، وبدا الحديث عن ارتداء كمامات أشبه بالخيال غير العلمي.
تشكيك مزمن
من وجهة نظر علمية توثيقية، انخفضت أعداد الإصابات المسجلة في مصر انخفاضاً كبيراً. الأعداد اليومية المعلنة من وزارة الصحة والسكان تتأرجح بين الـ150 والـ220 إصابة على مدار الأسبوعين الماضيين. لكن أزمة الثقة المتوارثة بين كل ما هو حكومي من جهة، وكل ما هو شعبي من جهة أخرى لم تستثن الوباء. في بداية الجائحة، ووقت كانت الإصابات اليومية لا تتجاوز العشرة والعشرين يومياً، مالت أقاويل شعبية إلى التشكيك المزمن. "أكيد الأعداد أكثر، لكن الحكومة لا تعلن"، كانت الجملة المتداولة بين كثيرين. وحين بدأت الأعداد في الزيادة الفعلية، الذروة، تداول البعض مقولة أن "الحكومة ترفع الأعداد المعلنة حتى تجبر الناس على البقاء في بيوتهم". المثير أن الأعداد حين بدأت تنخفض مجدداً، عاودت المقولة الشعبية ظهورها حيث "أكيد الأعداد أكثر، لكن الحكومة لا تعلن".
إعلان عودة الحياة الطبيعية "الجديدة" المتعايشة مع كورونا الذي أعلن نيته ملازمة سكان الكوكب لحين إشعار آخر انعكس انتعاشاً في سوق التطبيقات العنكبوتية الترفيهية، وزيادة باقات اشتراكات الإنترنت لتملأ فراغاً خلفه الخوف من الفيروس لدى فئات أخرى ما زالت تتبع قدراً من الحرص، وتلتزم مقداراً من العزلة الاختيارية كلما استطاعت إليها سبيلاً. مسؤولو البنوك المختلفة يصرحون بأن نسبة العملاء الذين باتوا يستخدمون الإنترنت المصرفي تزيد بسرعة هائلة. أرقام الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات تشير إلى 99 في المئة زيادة في معدلات استخدام الإنترنت المنزلي منذ بداية أزمة انتشار الوباء. وفي تقرير صادر عن الجهاز أشار إلى أن استخدام تطبيقات مثل "تيك توك" و"يوتيوب" و"تلغرام" و"زووم" شهدت ارتفاعاً يقدر بـ24 و115 و1100 و3456 في المئة بالترتيب منذ بداية الوباء. وزاد استخدام "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب" بنسب 44 و12 و27 و67 في المئة بالترتيب. أما التطبيقات الترفيهية مثل "شاهد" فقد زادت 157 في المئة. كما ارتفعت معدلات تحميل الألعاب الإلكترونية نحو 75 في المئة.
الترفيه الرقمي
الارتفاع في نسب إقبال المصريين على الترفيه الرقمي ربما يكون مركزاً في طبقات اقتصادية أكثر من غيرها، لكنه ليس حكراً عليها. يقول أحمد بكر، موظف في خدمة العملاء بإحدى شركات الاتصالات، إنه لاحظ زيادة كبيرة في إقبال العملاء على باقات الإنترنت. "الأثرياء والطبقة المتوسطة والأقل نسبياً تغير أنظمة باقات الإنترنت. وأعتقد أن كثيرين يدفعون ما وفروه في فواتير الوقود والمواصلات والخروج في زيادة باقات الإنترنت سواء للترفيه أو العمل".
العمل يجري على قدم وساق حالياً في مراكز الدروس الخصوصية الافتراضية. وحروب القط والفأر بين الدولة ومنظومة الدروس الخصوصية تضيع على أثير الشبكة العنكبوتية، حيث ملاذات آمنة عديدة للمدرسين الخصوصيين، لا سيما أن غالبية الأهل تسهم في حماية المنظومة والمحافظة على سريتها. سلوى عبد الرحمن، 40 عاماً، أم لطالبة في الثانوية العامة، تقول: "وفرنا مصروفات باص المدرسة هذا العام، (يبدو أنها لن تضطر للذهاب إلى المدرسة إلا في ما ندر). لكن ما وفرناه من الباص نسدده وأكثر في قيمة الحوالات التي نسددها للمدرسين الخصوصيين على تطبيقات الإنترنت المختلفة".
مكتب التنسيق
اختلاف الحياة الطبيعية الجديدة التي عادت إليها ملايين المصريين في كنف كورونا لم تؤثر كثيراً في منظومات أزلية متحجرة عصية على التحديث أو التجديد. منظومة "مكتب التنسيق"، تلك المرحلة التي يشبهها البعض بـ"البرزخ" بين بعبع الثانوية العامة وغاية مُنى التعليم الجامعي وأمله، لم تتغير كثيراً في كنف "كوفيد 19". ما زال الصراع من أجل اللحاق بما يسمى بـ"كليات القمة" من طب وهندسة محتدماً بين القاعدة العريضة. لكن ضوءاً خافتاً في نهاية نفق مكتب التنسيق المظلم يلوح في الأفق. مروان سليم، 19 عاماً، وحاصل على شهادة الدبلومة الأميركية هذا العام، يقول إنه قرر أن يكون مجال دراسته مناسباً لـ"العصر الجديد". العصر الجديد يعرفه سليم بأنه "عصر يعيش فيه العالم على أثير الإنترنت. البيع والشراء والمعاملات البنكية والتعليم والسفر والترفيه والعلاج وإنجاز الأعمال والمعاملات سيصبح مقرها الرئيس شبكة الإنترنت. لذلك سأتخصص في دراستي الجامعية في تكنولوجيا الحوسبة التجارية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد يكون سليم ضمن الفئة القليلة التي تنبهت إلى مقومات الحياة الطبيعية الجديدة، وما تستلزمه من دراسة وتخصص في مجالات مختلفة عن تلك السائدة منذ مطلع تاريخ مكتب التنسيق، لكن سوق العمل في الحياة الجديدة تقول الكثير. محمود فضيل، 35 عاماً، الذي شغل منصب مسؤول الموقع الرسمي والدعم التقني بإحدى الجامعات الخاصة على مدار خمس سنوات. يقول: "منذ مارس (آذار) الماضي، أصبحت مسؤول الدعم التقني لتطبيقات التعليم عن بعد، وأبرزها (زووم). في الأسابيع القليلة الأولى كنت أقدم المساعدات والدعم الفني للمحاضرين والطلاب الذين انتقلت دروسهم إلى (زووم) بعد إغلاق الجامعة. لكن في الفصل الدراسي الصيفي، استعنت بمهندس كمبيوتر شاب ليكون مسؤولاً عن الدعم التقني في التعليم عن بعد، نظراً إلى حجم العمل الكبير جداً. واضح تماماً أن وظيفة الدعم التقني للتعليم عن بعد ستحتل مكانة الصدارة في سوق العمل ليس المستقبلي، لكن الذي يلوح في الأفق في ظل كورونا".
أفق الوباء
لكن، الأفق في ظل كورونا لا يقتصر على خلق فرص عمل لم تكن موجودة أو منتشرة من قبل، لكنه يحمل تجاهلاً شبه كامل من قِبل آخرين للمستجدات والتغيرات المتوقعة. التحذيرات المتواترة من قِبل وزير التعليم العالي والبحث العلمي خالد عبد الغفار حيث توقعات باستمرار أزمة كورونا مدة عام على الأقل، بينما كشف مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية محمد عوض تاج الدين، أن الإجراءات الاحترازية والوقائية مستمرة بشدة حتى مارس المقبل على الأقل، إلا أنها والعدم سواء بالنسبة إلى كثيرين.
كثيرون هذه الأيام لم يكتفوا فقط برفع شعار Business as Usual، في ما يتعلق بإنجاب الأطفال، لكنهم أضافوا صفتي التواتر والتسارع في إنجابهم في كنف كورونا. أيام العزل وأسابيع الإغلاق أدت إلى إضافة 500 ألف رأس جديدة في 125 يوماً فقط، وذلك حسبما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في منتصف يونيو (حزيران) الماضي. أين سيذهب كل هؤلاء؟ أو من سينفق على تعليمهم؟ أو من سيضمن لهم عملاً وسكناً وعلاجاً؟ يقول مصطفى النوبي، 29 عاماً، عامل في مخبز، وأحد المساهمين في هذا الضخ خلال الأسابيع القليلة الماضية بفخر شديد: "رزقني الله عبد الرحمن من شهرين، لينضم إلى عبد الله وعبد العزيز ومنة الله". السؤال عن مصير تعليم أولئك الصغار وتغذيتهم وعلاجهم وعملهم لا يقابل إلا بقول واحد منه: "لهم رب اسمه الكريم".
الرب الكريم
الرب الكريم الذي يعول عليه الكثيرون من المصريين العناية بالأبناء والبنات الذين يضخونهم من دون هوادة بشكل متسارع في زمن كورونا يلجأ إليه الجميع على أمل انتهاء الوباء، والعودة إلى الحياة الطبيعية القديمة. ورغم ذلك، فإن المساجد والكنائس التي أعيد فتحها لا تشهد إقبالاً منقطع النظير يناسب حجم البكاء على شبكات التواصل الاجتماعي طوال أشهر الإغلاق. بشعارات "قفلوا بيوت الله"، و"أغلقوا الجامع حسبنا الله ونعم الوكيل"، و"قفلوا الكنيسة ربنا ينتقم منهم" وغيرها من عبارات اختفت من على الأثير، لكن اختفى معها كذلك الكثيرون من المصلين. حمادة زكريا، 50 عاماً، محاسب، يقول: "منذ طفولتي وأنا أصلي في البيت، باستثناء صلاة الجمعة والتراويح في رمضان". يقر زكريا أنه كان دائم انتقاد قرار إغلاق المساجد في أثناء ذروة انتشار الوباء على صفحته بـ"فيسبوك". لماذا؟ يقول: "لأن المسجد المفتوح يبعث على الاطمئنان".
الفصل شبه التام بين الشعور بالطمأنينة، لأن دور العبادة مفتوحة حتى ولو كانت خالية، وبين القواعد العلمية والصحية التي تؤكد أن التكدس في الأماكن المغلقة يعظم من خطر الإصابة، مشهد يلخص الكثير من قرار المصريين تسطيح المنحنى وإعلان كورونا وكأنه لم يكن.