حدث ذلك قبل 50 عاماً، في صيف 1970، ولئن كان جان– بول سارتر قد اعتاد قبل ذلك أن يشاكس بكتبه فلسفية كانت أو مسرحية، روائية أو كتب ذكريات، فإنه هذه المرة راح يشاكس بطريقة أخرى تماماً لم يسبقه إليها أي مثقف من بلده، فرنسا، على الرغم من أن المفكرين الفرنسيين كانوا ومنذ عصر التنوير مروراً بسنوات الثورة الفرنسية وبصخب بدايات القرن العشرين وصولاً إلى أولئك الكتاب والمفكرين الكبار الذين كانت أفكارهم في خلفية ربيع باريس وغيرها من المدن الفرنسية والأوروبية إلى جانب مدن أخرى في العالم، كانوا في طليعة الحركات التغييرية والمطلبية بحيث ارتبطت أسماء المثقفين الفرنسيين بالقضايا الكبرى ليصل ذلك إلى أوجه مع إميل زولا الذي كان، حتى مجيء سارتر، المثقف المثال في الدفاع عن حقوق الإنسان والقضايا العائلة. ولسوف يكون سارتر ذروة ثانية في هذا النوع من التحرك، ولكنه سيدفع الثمن باهظاً حين قاده انخراطه في تحرير صحيفة "قضية الشعب" اليسارية المنبثقة من تحركات "مايو الفرنسي" والنزول بنفسه إلى الشارع لبيع نسخ منها لمن يحب أن يشتري. والحقيقة أن تلك الطريق التي اختارها سارتر، كبير مفكري فرنسا في ذلك الحين، كانت طريقاً لم يسبقه إليها أحد، ومن هنا كان اعتقال الشرطة له بسبب ذلك الحراك بالتحديد، كردّ فعل من النظام لم يسبقه ما يماثله في أي عهد آخر من العهود الفرنسية المتعاقبة. فصحيح أن سلطات فرنسية معينة في أزمنة معينة وصلت إلى حد اعتقال كتّاب ومحاكمتهم، ولكن ليس لأنهم كتّاب ولا لأنهم مناضلون بقلمهم أو بنشاطهم الفعلي، بل لدوافع أخرى تتعلق بالقضايا الجنائية أو ما شابه ذلك، من دون أن نتوقف هنا طويلاً عند كتّاب اعتقلوا بل أُعدموا بسبب تعاونهم مع الاحتلال الألماني.
"لنتعلّم من الناس لا لنعلّمهم"
أما بالنسبة إلى سارتر، فإن اعتقاله كان تحديداً لأنه كان يكتب في "قضية الشعب" وهي، للمناسبة، المطبوعة غير القانونية التي سوف تولد من رحمها لاحقاً واحدة من كبريات الصحف الفرنسية منذ نحو أربعة عقود، "ليبراسيون" التي سوف يكون سارتر خلال سنوات حياته الأخيرة واحداً من مؤسسيها وكتابها الكبار. ولكن يوم اعتقل صاحب "الغثيان" و"التشابك" و"دروب الحرية" لم تكن "ليبراسيون" قد وُجدت بعد، وكانت الشرطة تعتبر سارتر متحركاً خارج القانون. وهكذا اعتقلته وأرسلته إلى مركزها لتقوم قيامة فرنسا كلها من أقصاها إلى أدناها، ولتجد السلطات نفسها في ورطة ما بعدها ورطة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل هذا يبدو بعيداً اليوم، ومع هذا هي سنوات قليلة جداً، في حسابات عمر الزمن، تلك التي تفصلنا عن العصر الذهبي لتدخل المثقفين في السياسة، ذلك العصر الذي كان فيه المؤلف والفنان والفيلسوف لا يتوانى عن النزول إلى الشارع دفاعاً عن القضايا التي يؤمن بها، وعن الأفكار التي يريد لها أن تنتشر. وكان لسان حال المثقف الكبير في ذلك الحين ما قاله ميشال فوكو: "أنا لا أنزل إلى الشارع لكي أعلم الناس، وإنما أنزل لكي أتعلم منهم". وكان كبار المثقفين الفرنسيين وغير الفرنسيين يشاركون فوكو ذلك الشعار بحيث كان عاراً على المثقف أن يبقى حبيس برجه العاجي مهما كانت قوة فصاحته وعمق انخراطه "الفكري" في الحركات الاحتجاجية والمطلبية.
وإذا شئنا أن نتحرى الأمور لنعرف من هو المثقف الذي كان أكثر حضوراً من غيره في حياة النضال المطلبي في ذلك الحين، سيأتينا الجواب فوراً: إنه جان- بول سارتر. فهذا الكاتب الكبير، والكبير على الرغم من أنه كان مثيراً للسجال دائماً، كان، على الرغم من كل شيء، يجد متسعاً من الوقت ليقوم بتلك "النضالات الصغيرة" التي كان يرى أنها تنعشه وتنمّي فيه إنسانيته وقدرته على التواصل مع الآخرين، وكانت النضالات تشمل المشاركة في التظاهرات، وتوقيع البيانات، والكتابة تعليقاً في الصحف على أحداث ساخنة، كل هذا إضافة إلى الأعداد العنيفة التي كان يصدرها من مجلة "الأزمنة الحديثة"، لا سيما منذ بداية سنوات الستين.
سارتر ومسؤولية المثقف
في كل تلك التحركات كان سارتر يرى أن الدافع الأول إنما هو مسؤولية المثقف. فالمثقف، بالنسبة إليه، ليس صاحب برج عاجي يعتلي كرسيه ويتأمل العالم من فوق. المثقف هو ذاك الذي يبقى على تواصل دائم ويومي مع القضايا والناس الذين يدافع عنهم. وهكذا، بعدما خاض سارتر النضال طويلاً إلى جانب استقلال الجزائر، رأى في أحداث 1968 الفرنسية فرصة ذهبية للتحرك، فإذا به منذ اندلعت تلك الأحداث يتحرك إلى جانب المجموعات اليسارية المتطرفة. ولقد وصل في تحرّكه إلى ذروته خلال السنتين التاليتين على اندلاع الأحداث، لا سيما حين راح يسهم في تحرير "قضية الشعب"، ثم نزل إلى الشارع لبيع أعداد الصحيفة، مع رفيقته سيمون دي بوفوار حين ارتأت السلطات منع الصحيفة. وكانت حركته هذه، الحركة العابقة بالتحدي، هي التي دفعت السلطات إلى اعتقاله يوم 26 يونيو (حزيران) 1970. ولعل أطرف ما في ذلك الاعتقال الذي لم يدم على أي حال طويلاً، أنه جاء وكأنه رد لصالح سارتر على تساؤل كان الصحافي اليميني دومنيك جاميه قد طرحه عند بداية ذلك الشهر، فأمام مرأى سارتر نازلاً إلى الشارع ليبيع الصحيفة ويؤلب الشبان، كتب جاميه يومها يقول: "كيف يمكن الاستفادة من سارتر، إذن؟ هل يمكن الاستفادة منه في زرع القنابل، في إيواء الإرهابيين، في تحطيم الزجاج؟ كل هذا لا يتلاءم مع سنه، بل إنه أبداً في الماضي لم يتلاءم مع سنه، لهذا نراه في الماضي يحقق من النجاح في الأدب ما يوازي فشله في التحرك العملي، بخاصة أن أحداً لم يمكنه أن يأخذ على محمل الجدية ثوري الاجتماعات والمناضل المشروط هذا. ومن ناحية ثانية، فإن سارتر تجاوز عتبة من العمر ومن الشهرة تجعله في منأى عن أي مطاردة أو اعتقال أو ملاحقة. بل إنه لا يصلح حتى لكي يكون شهيداً. ومن هنا لم يبق له إلا أن يكون رمزاً كبيراً لليسار البروليتاري. رمزاً مخدوعاً ومتواطئاً في الوقت نفسه (...). إن أهل اليسار قد بالغوا حتى اليوم في انتقاد أولئك العجائز اليمينيين الذين يرسلون الشبان ليقتلوا في الحروب، أما نحن فإننا لن نكون أكثر تسامحاً مع عجائز اليسار المتطرف الذين من دون أن يبذلوا أي مجازفة، يعبثون بحرية الأطفال الضائعين وبحياتهم".
آخر المثقفين الكبار
إذن، بعد أسابيع قليلة من كتابة جاميه لهذه الكلمات، جاء الرد من قبل الشرطة الفرنسية التي اعتقلت سارتر أثناء توزيعه لأعداد صحيفة "قضية الشعب". ومن نافل القول إن ذلك الاعتقال الذي أثار يومها ضجة كبيرة، أسهم مساهمة أساسية في إضفاء مزيد من الصدقية على سمعة جان- بول سارتر كمناضل عضوي، بالمعنى الغرامشي للكلمة، - أي المناضل الذي لا يكتفي بالجلوس في برجه العاجي متأملاً كاتباً ساخطاً متأففاً، بل ينزل إلى الميدان ممارساً النضال الحقيقي- فلا يتوانى عن دعم تأملاته وأفكاره، في الشارع وأمام الملايين. ولقد كان في ذلك ما أثار حماسة رفاق له مثل كلود مورياك وميشال فوكو وجان جينيه، بل حتى اليميني الليبرالي ريمون آرون، إذ رأيناهم بعد ذلك لا يتوانون عن النزول إلى الشارع. ولكن ذلك كان آخر عهد المثقفين الكبار بذلك النوع من النضال، قبل أن تحل التلفزة محل كل شيء، ويصبح النضال مجرد استعراضات إعلامية يقوم بها سادة متأنقون زينوا وجوههم بالطلاء ودرسوا حركاتهم وابتساماتهم ومظاهر غضبهم ناهيك بألوان قمصانهم وستراتهم، بشكل مسبق يرون أنه يليق بالشاشة الصغيرة!