على الرغم من انحسار الأضواء واندثار الاهتمام بهذا النوع من الحروب، وعلى الرغم من انصراف الغالبية العظمى من المدونين والمغردين وغيرهم من شعب مواقع التواصل الاجتماعي الرابض على الأثير على مدار ساعات اليوم الـ24 ساعة إلى نوعيات أخرى من المواجهات ودرجات مغايرة من الخلافات، فإن هناك من يجاهد من أجل الإبقاء على نيران حروب الهاشتاغ مستعرة على الأقل في المواسم والمناسبات.
المناسبة هذه المرة هي 20 سبتمبر (أيلول) التي يقول الفريق الأول الداعي إلى "إحيائها" إنها "دعوة لإحياء الذكرى السنوية الأولى لاحتجاجات 20 سبتمبر 2019 التي عمت أرجاء مدن مصرية استجابة لدعوة المقاول الفنان محمد علي لإسقاط النظام"؛ ويقول الفريق الثاني إن "الغالبية المطلقة من المصريين لم تسمع أصلاً عن المناسبة حتى تحيي ذكراها".
تظاهرات المخالفات
المثير أن الفريق الأول استثمر هذه المرة في ملف المخالفات الذي فتحته الحكومة المصرية على مصاريعه بعد عقود من السكوت والتجاهل، وهي مخالفات البناء والاستيلاء على أراضي الدولة وممتلكاتها والتي تحولت إلى "أسلوب حياة" لملايين على مدار عقود. المخالفات والتعديات التي أطلق عليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي "خراب للدولة" يعتبرها آخرون ممن بنوا على أراض زراعية وشيدوا عمارات واشتروا شققاً وبنوا محلات تجارية واستولوا على أرصفة وهيمنوا على مناطق بأكملها "ظلماً للغلابة وجوراً على المساكين". وبالطبع لم يكن هناك فرصة أفضل أو أجواء أنسب لهواة الصيد في الماء العكر أفضل من هذه.
وفي ساعات قليلة، خُصصت صفحات على "فيسبوك" وابتُكرت هاشتاغات وكُتبت تدوينات وتغريدات وأعيد تدويرها وتشاركها لتبدو وكأنها غضبة ثورية من ملايين المصريين لقرار الدولة تطهير مصر من المخالفات والتعديات.
وعلى الرغم من منطقية الأسئلة المطروحة حول من يتحمل قيمة المخالفات؟ هل هو المواطن الذي اشترى من المعتدي؟ أم يتشاركان؟! إلا أنه لدواعي السرعة وتحت ضغط الحروب العنكبوتية التي لا تملك رفاهية المنطق أو رغد النقاش الموضوعي، قفز الفريقان المتناحران على أثير الشبكة أحدهما للهجوم ودعوة المصريين للتظاهر ضد قانون التصالح وسداد مبالغ مالية مقابل المخالفات وبالمرة إسقاط النظام، والآخر للرد على هذه الدعوات بتوصيفها بأنها "دعوات إخوانية مفضوحة" و"خيالات مريضة في أذهان أنظمة معادية وجماعات مجرمة".
لم تمر دقائق على التنويه ببدء حملات إزالة مخالفات في مناطق بعينها في محافظتي الإسكندرية والجيزة، حتى كان الفريق الأول قد استعد بالهاشتاغات وانبرى بتدوينات وتغريدات واصفة إزالة المخالفات بأقصى نعوت الظلم والجور والعدوان مع مقاطع فيديو مصورة عرفت طريقها في اليوم نفسه إلى مواقع التواصل الاجتماعي ومحطات تلفزيونية ومواقع خبرية محسوبة على دول وجماعات معادية للنظام المصري. في المقابل، شمر الفريق الثاني عن ذراعيه واستخدم الهاشتاغات نفسها وأبرزها "لا لقانون التصالح مامعناش فلوس" ليهاجم الفريق الأول ويتهمه بإثارة الفتنة والبلبلة مع تفنيد مقاطع الفيديو التي اتضح أن بعضها القديم، والبعض الآخر لمجموعات من الباعة الجوالين الذين "شُجعوا" على مقاومة الإزالة وترديد شعارات ثورية. ويستمر الشد والجذب دون هوادة.
شد وجذب سياسي
الشد والجذب بين جماعات وكيانات ودول معارضة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من جهة، ومجموعات وقطاعات شعبية تقف على الضفة المقابلة، فإما مؤيدون له أو معارضون، لكن لا يسلكون مسلك حروب الهاشتاغ تدور رحاها هذه الآونة. لكن شتان بين هذه الآونة، وآونة أخرى ولت دبرها.
تدبير الثورات عن طريق الشبكة العنبكوتية والإبقاء عليها حية ترزق من خلال ابتداع هاشتاغات مثيرة وصناعة "تريند" هادر يوحي بأن الأرض تهتز من تحت الثوار أمر مر عليه ما يزيد على عقد كامل. العقد الذي مر بدأ باحتفاء الكوكب بثورات عربية أشعلتها الشبكة العنكبوتية وأبقت عليها مضطرمة خيوط العنكبوت الكثيرة والمتشابكة والقادرة على الإيحاء بأن الافتراض واقع، وانتهى بخفوت الاحتفاء وتصاعد التساؤلات المشككة في مصداقية ما تبثه الشبكة والطاعنة في شفافية القضايا التي تحولها الهاشتاغات من مسائل شخصية إلى قضايا قومية. المؤكد أن مراجعات مصداقية الهاشتاغات لم تكن لتحدث إلا بعد ما طال "الدول الديموقراطية الليبرالية" جانباً غير قليل من سموم مواقع التواصل الاجتماعي.
طباخ السم يتذوقه
"يبدو أن طباخ السم يتذوقه بشكل أو بآخر" يقول محسن الفار (43 عاماً) مهندس، والذي يقول عن نشاطه العنكبوتي وتحديداً على "تويتر" في الأعوام القليلة الماضية "جهود فردية لوضع كل في حجمه القريب من الطبيعي". يدرك الفار أن جانباً غير قليل من المحتوى الذي يتم ضخه وإعادة تدويره في مواقع التواصل الاجتماعي ليس محتوى يعبر عن آراء وتوجهات أفراد أو مؤسسات إعلامية وسياسية فقط. يقول "على رغم أنني كنت حتى عام 2013 ممن يسخرون من الأصوات المحذرة من قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على خلق رأي عام بناء على معلومات غير حقيقية أو أخبار كاذبة أو تحليلات موجهة، وذلك بسبب سنوات طويلة من التوجيه الرسمي المعنوي، فإنني اكتشفت بنفسي في أكثر من مرة كم الأخبار الكاذبة بحرفية شديدة، ناهيك عن الكم الهائل من الحروب التي تخوضها دول وكيانات ضد أخرى من أجل تغيير السياسات وإسقاط الأنظمة وتنصيب من يرونه أجدر من يخدم مصالحهم". الفار يغرد بكثافة باسم مستعار كلما لاحظ هجمة جديدة تلوح في الأفق أو حملة معادية تظهر عبر هاشتاغ وإعادة تغريد من قبل لجان إلكترونية. تغريداته المكثفة في هذه الأحوال تحوي هاشتاغاً غالباً يكون رداً مناقضاً للهاشتاغ المعادي وذلك عملاً بمبدأ "داوها بالتي كانت هي الداء".
داء الهاشتاغات
داء الهاشتاغات، سواء المعادية للأنظمة أو المؤيدة لها، التي تحمل أخباراً كاذبة أو ذات مصداقية، أعيا الجميع. السنوات التالية للربيع أتت محملة بخيوط الحرب الجديدة المثيرة، وقواعدها غير المعروفة أو المأهولة. انبهر من انبهر بقدراتها على الحشد والتجييش والتوجيه، ووقع البعض الآخر ضحية لما سبق دون وعي أو معرفة، وبقيت فرقة قليلة رابضة على ضفة التشكيك في اعتبار كل هاشتاغ حقيقة لا ريب فيها، وكل "تريند" واقع لا محالة. لكن أرض الواقع كانت تؤكد أن الجميع واقع تحت تأثير حروب الهاشتاغ وصراعات التريند، بمن فيهم من لم يتصل يوماً بالشبكة العنكبوتية.
لكن هذه الأيام وبعد مرور سنوات على الأحداث الثورية والثورية المضادة وتلك المطالبة بالتوقف عن كل حراك سياسي بعد ما تحول جانب من الحراك إلى خراب، وآخر إلى دمار، وثالث إلى استقطاب واستنفار وانتهاز لحالة الإنهاك للإمعان في بث الفتنة وإشاعة أجواء من عدم الاستقرار الافتراضي لعله ينتقل إلى الواقع.
أرض الواقع لا تنبئ بثورة
أرض الواقع في مصر هذه الأيام لا تنبئ بثورة أو تنضح بملامح غضبة شعبية أو أمارات نزول الشارع بهدف إسقاط نظام أو إحداث تغيير. ورغم ذلك فإن الحياة على "تويتر" تشير إلى عكس ذلك. مصطفى مؤمن (52 عاماً) محاسب، يقول إنه "ليس مؤيداً أو معارضاً للنظام". يصف نفسه بـ"المقيم الموضوعي". يقول "هناك كثير من الإيجابيات التي تحدث في مصر، وإنجازات كثيرة في البنى التحتية وفتح ملفات ظلت مغلقة لعقود مثل الاستيلاء على أراضي الدولة والبناء المخالف وغيرها، لكن هناك أيضاً مشكلات عدة في ارتفاع الأسعار وقيمة الخدمات. لكن هذا وضع طبيعي لا يستدعي تطبيلاً للحكومة أو ثورة عليها". ولأن مؤمن متابع جيد لما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو يقول "أتجول على فيسبوك فأجد الأمور طبيعية وعادية. البعض يكتب تدوينات تأييد وحب للرئيس والإنجازات، البعض الآخر يسخر مما يجري، فريق ثالث يتابع أمور المرور أو الفنانين والفنانات أو يكتب كتابات دينية وهلم جرا. حياة عادية جداً. أذهب إلى تويتر، فأجد عالماً آخر تماماً. قائمة الهاشتاغات الأكثر تداولاً تصنع عالماً افتراضياً بكل معاني الكلمة. ميليشيات إلكترونية تدعو إلى ثورة ضد النظام لصالح جماعات وكيانات يعلمها الجميع وتجعل من هاشتاغ (ثورة تاني من جديد) أو (يا نجيب حقهم يا نموت زيهم) أو ما شابه الهاشتاغ الأكثر تداولاً، ثم بعدها بدقائق ينافسها هاشتاغ آخر على الصدارة مثل (ما فيش ثورة تاني) أو (كسر حقهم)، وهكذا".
"نازلين" و"مش نازلين"
هذه الأيام تدور عمليات الشد والجذب على "تويتر" بين من يروج لهاشتاغ "نازلين يوم 20"، والفريق المضاد الذي رد بهاشتاغ "مش نازلين يوم 20". الدعوة للنزول بهدف إسقاط نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم تعد تخيف البعض أو تشككه في مجريات اليوم الموعود. حتى التغطيات الإعلامية الغربية للدعوات خفتت ولم تعد تتعامل معها باعتبارها دعوات شعبية عارمة تعكس غضباً شعبياً جارفاً بالضرورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منصة "ذو كونفرسيشين" الإلكترونية التي تحوي مقالات ودراسات لأكاديميين وباحثين أشارت في 26 نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي إلى دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأميركية عن أثر الهاشتاغ على السياسة، فوجدت أن القراء يظهرون قدراً أقل من الاهتمام بالأخبار والموضوعات الصحافية التي تحوي هاشتاغاً. وقال بعض القراء إنهم يعتبرون المقالات والأخبار الصحافية التي تحوي هاشتاغاً باعتبارها أكثر تحيزاً لطرف أو توجهاً دون آخر، معتبرين الهاشتاغ محاولة لجذب انتباه المتابعين لزاوية معينة في القضية وليس القضية نفسها. وخلصت الدراسة إلى توصية بألا يعتبر الساسة والناشطون والمؤسسات الصحافية والشركات التقنية ما يرد على مواقع التواصل الاجتماعي أو التوجهات التي تسيطر عليها باعتبارها تحصيل حاصل أو حقيقة غير مشكوك فيها. كما حذرت الدراسة من أن اللجوء إلى هاشتاغ جذاب حتى في القضايا الاجتماعية قد يعطي انطباعاً للمتابعين بأن المحتوى "المهشتغ" منحاز أو موجه.
توجيه الرأي العام
توجيه الرأي العام في مصر لم يعد كما كان قبل عشر سنوات. فايزة سيدهم (62 عاماً) موظفة متقاعدة، ومتابعة جيدة للإعلام بأنواعه. تقول: "المصريون تغيروا بسرعة رهيبة. لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي هذا الملاك الطاهر الذي لا يحوي إلا رافعي شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية. الناس الآن- حتى البسطاء- أصبحوا أكثر وعياً. يعرفون أن هذه المواقع تستخدم لأغراض مختلفة. ويكفي أن دعوات التظاهر مثلاً التي تظهر بين الحين والآخر على هذه المواقع لا تجد أي صدى في الشارع، لا سلباً أو إيجاباً، وذلك باستثناءات قليلة".
وتضيف "هذا الوعي ينطبق على طرفي النقيض. فحتى الطرف الآخر الذي يدافع عن الحكومة أو يفرط في الإشادة بها أو لا يرى سوى إيجابيات لا يؤثر كثيراً في الشارع". وتشير إلى أن عملية النضح الشعبي هذه حدثت من قبل مع برامج الـ"توك شو". "فبعد ما كانت الملايين مثبتة أمام الشاشات وتعتبر هذا المذيع أو هذه المذيعة المصدر الوحيد للأخبار الصادقة والتحليلات الثاقبة، لم يعد الأمر بهذه السهولة، وأصبح لكل منا طريقته الخاصة في متابعة الأخبار وتحليلها وتقييم الأوضاع".
موجات كر وفر
الوضع الحالي على "تويتر" يشير إلى موجات من الكر والفر. يظهر هاشتاغ "نازلين يوم 20" فيباغته هاشتاغ "مش نازلين يوم 20". تخفت المواجهة العنكبوتية قليلاً ليعاود الفريق الأول الهجوم عبر هاشتاغ "نازلين في وقت مفاجئ" و"مش عايزينك" و"اغضب يا مصري" ليأتي الرد سريعاً بهاشتاغ "نازلين لكم في وقت مفاجئ" و"عايزينك" و"افرح يا مصري" وهلم جرا.
لكن ما يجري بعد هذه الصولات والجولات من الهاشتاغات والهاشتاغات المضادة يلقي الضوء على فائدة أخرى تعود بالنفع على من يبادر بشن حروب الهاشتاغ. ابتكر هاشتاغاً، ادفع بأذرعك العنكبوتية لتتداوله، اجعله ترينداً وهنا تصبح الوجبة جاهزة للاستخدام. مؤسسات إعلامية مختلفة ستتعامل مع التريند باعتباره حدثاً ضخماً. تقارير صحافية ستكتب على اعتبار أن الإيقاع الشعبي على "تويتر" لا يعكس سوى الإيقاع الشعبي في الشارع. جمعيات وجماعات حقوقية ستصدر بيانات لدعم الحراك والمساندة. وأنظمة سياسية ستدعم أو تندد أو تنتظر، وكل ذلك بناء على هاشتاغ مجهول النسب.
وعلى الرغم من أن "تويتر" اتخذت، أخيراً، العديد من الإجراءات لمواجهة المحتوى المزيف أو المضلل أو الإشاعات، وذلك بعد التأكد من كذبها، فإن الهاشتاغات تبقى عصية على التأكيد أو النفي، لأنها تظل "وجهة نظر" غير قابلة للقياس.