يكاد منسوب مياه النيل يصل بارتفاعه إلى نقطة اللاعودة، ومن وسط الدمار والخسائر التي نتجت من الفيضانات في السودان تداول الناس إضافةً إلى مسبباته، ما كان بالإمكان فعله لتلافي هذه الكارثة. من ضمن البحث عن منفذ لتصريف المياه أو تنفيسها عبر ممرات غير مأهولة بالسكان، برزت مطالب بفتح بوابات السد العالي في مصر كمحاولة لتقليل حدة انهمار المياه وحجم الضرر. وبينما تم التقليل من فائدة هذه الخطوة، لفتت أيضاً الانتباه إلى عدد من السدود التي أنشئت في أوقات مختلفة في كل من السودان وإثيوبيا على مجرى النيل، ولم يكن لها أثر مباشر في تخفيف حدة الفيضانات، بل على العكس هناك إشارات إلى أن تركيبتها سواء من ناحية الحجم مثل سد النهضة في إثيوبيا أو الهشاشة مثل سد بوط في السودان، قد تكون أسهمت في تفاقم الفيضانات بدلاً من احتوائها. وما يرفع من درجة الانتباه إلى هذا الاتجاه هو توقيت ملء سد النهضة في مرحلته الأولى في يوليو (تموز) من العام الحالي، ثم انهيار سد بوط على نهر النيل الأزرق في أوائل أغسطس (آب).
أهم السدود
لم يقتصر إنشاء سدود النيل على التاريخ السياسي الحديث وحده وإنما يقال إن أول السدود في التاريخ بني منذ حوالى 4000 سنة قبل الميلاد، بغرض تحويل مجرى نهر النيل في مصر لإنشاء مدينة ممفيس، عاصمة مصر فى عصر الدولة القديمة، والعاصمة الإدارية والعسكرية فى زمن الدولة الحديثة. كما ارتبطت نشأة المدينة بقيام الوحدة بين دلتا النيل والصعيد أيام الملك مينا. أما السدود الحديثة في مصر، فهي السد العالي الذي أنشئ في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بمساعدة الاتحاد السوفياتي، بغرض التحكم في تدفق المياه والتخفيف من آثار فيضان النيل وتوليد الكهرباء. وتعتزم مصر إنشاء سد شلاتين للحماية من السيول وللاستفادة من مياهه. أما أهم السدود في السودان، فهي سد الروصيرص الذي أنشئ منذ عام 1952 لتخزين المياه من نهر النيل الأزرق لاستخدامها في ري الأراضي الزراعية وتمت تعليته عام 2013، ما زاد من قدرته على توليد الكهرباء المائية. وأقامت الحكومة السابقة عام 2009 سد مروي الذي يقع على مجرى نهر النيل في الولاية الشمالية، وأثار جدلاً واسعاً بسبب استخدامها العنف ضد أهالي المنطقة وتهجيرهم من دون تعويضات. وما زاد من استقواء وحدة السدود المنفذة للمشروع على المواطنين هو أنها كانت تتبع مباشرة لرئاسة الجمهورية، وكذلك سد بوط وسنار على النيل الأزرق أيضاً. أما في إثيوبيا، فإضافةً إلى سد النهضة، هناك سد بليسه ومشاريع سدود أخرى تعتزم أديس أبابا إنشاءها على النيل الأزرق وهي: كارادوبي ومابيل ومانديا.
حاجات مائية
بالنظر إلى الحاجات المائية لدول حوض النيل، فإن مصر تعتمد على النيل بأكثر من 95 في المئة من حاجاتها للمياه، في حين تحتاج إثيوبيا إلى 1 في المئة من مياه النهر وكينيا إلى 2 في المئة تقريباً وتنزانيا 3 في المئة والكونغو 1 في المئة وبوروندي 5 في المئة والسودان 15 في المئة.
وتحصل مصر بموجب اتفاق تم توقيعه بين القاهرة والخرطوم عام 1959 على 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، فيما يحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب من مياهه البالغة 84 مليار متر مكعب سنوياً، أي أن البلدين يحصلان على حوالى 87 في المئة من مياه النهر. وتعترض إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا وكينيا وجمهورية الكونغو على الاتفاقيات السابقة وتطالب بما وصفته بـ"تقاسم أكثر عدلاً" لمياه النهر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً لهذا الشعور من دول المنبع بالتوزيع غير العادل لمياه النيل، فإنها قامت بعرض سياسات التنمية الزراعية والصناعية، التي تتطلب بناء سدود على البحيرات وعلى بعض روافد النهر وظهرت في الأفق عام 1995، خصوصاً بعدما شرعت أديس أبابا في بناء خزانات في الهضبة الإثيوبية، مما هدّد بتخفيض حصص المياه المكتسبة لمصر.
لم تكن دول حوض النيل في ما قبل مدركة لحجم حاجتها إلى مياه النيل، فهي لم تستفد إلا من نسبة ضئيلة من مياهه للري الزراعي، لأنها كانت تعتمد على الري من الأمطار الكثيفة. ولكن تغير الحال بالتوسع في المشاريع الزراعية نتيجة لتزايد الكثافة السكانية في هذه الدول، وتحول الاتجاه إلى الاستفادة من مياه النيل حين بات أمراً محتوماً بل بدأت إرهاصاته في الظهور بالاتجاه شرقاً نحو دعم من اقتصادات آسيوية. وقد أوضح أكلوغ بيرارا، رئيس مركز التنمية الشاملة في واشنطن عام 2016، أن "إثيوبيا والدول الأفريقية الأخرى لديها روابط تجارية واستثمارية قوية مع اقتصادات غير غربية. ومن ذلك أن الصين قد عرضت مليارات الدولارات على إثيوبيا على شكل قروض تجارية لتمويل السدود الضخمة، بما في ذلك مليار دولار لتمويل سد النهضة".
ومثلما استفادت دول المصب من إقامة السدود لتوليد الطاقة الكهربائية كالسد العالي في مصر وبعض السدود في السودان، فإن بعض دول الحوض مثل إثيوبيا وأوغندا استفاد أيضاً من مياه النيل بإقامة السدود لتوليد الطاقة الكهربائية.
موقف متذبذب
تم الاتفاق والتوقيع على "مبادرة دول حوض النيل" عام 1999، من تسع دول هي بوروندي والكونغو وإثيوبيا ومصر والسودان وكينيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا. وفي ظل تفاقم بعض التوترات والنقص الحاد في المياه، تعددت جلسات المفاوضات حتى وصلت إلى اتفاقية عنتيبي، وهي اتفاقية إطارية للتعاون وقعت عام 2010 كتعديل لمبادرة حوض النيل عام 2009. وأقرّت الاتفاقية من قبل ست دول هي دول المنبع بوروندي وإثيوبيا وكينيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا، بينما لم توقع دولتا المصب مصر والسودان، لأنهما رأيا أنها تتجاوز الحقوق المكتسبة لكليهما من مياه النيل.
ظل موقف السودان في ما يتعلق بقضية المياه التي تجمعه بدول حوض النيل والسدود المقامة عليه متذبذباً بين الموقف السياسي والفني. فبعد توقيعه على اتفاقية حوض النيل عام 1999 في تنزانيا، عاد ليحتج وينسحب من مبادرة حوض النيل عام 2009 في كنشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية إثر عدم توقيع مصر على الاتفاقية. ثم تراجع وجمّد عضويته في المبادرة، ثم عاد وقبل بها مع تجميد مشاركته في مشاريعها. والتذبذب ذاته حدث في موقف الخرطوم تجاه سد النهضة، فقد اعترضت في البداية على بنائه، لأنه سيفقد السدود السودانية أكثر من نصف فاعليتها، كما سيفقد الأراضي السودانية خصوبتها، ولكنها تراجعت بتأييد رسمي مع ثبات في الرفض الشعبي في ظل النظام السابق.
وقد كان السودان يعتمد على دعم موقفه في قضية السد من دولة جنوب السودان، إلا أنه قد يصلح وصف دولة جنوب السودان بأنها "دولة منبع ومصب معاً"، فبتكونها من أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال، وبتميز طبيعة مناخها بسافانا غنية إلى استوائية، تكون مصدر مياه لستة أشهر من الأنهار الآتية من حوض بحر الغزال والهضبة الإثيوبية والاستوائية. وبناء على ذلك، فهي ليست في حاجة ملحة لمياه النيل للزراعة إلا في فترة معينة، يمكن الاتفاق على سد نقص المياه فيها. كما يمكن العمل على الاستفادة من المياه المتدفقة من بحر الغزال والمياه الواصلة من البحيرات الاستوائية والمتبخرة من مستنقعات بحر الغزال والزراف والتعاون كذلك مع السودان الشمالي ومصر لاستغلال المياه في توليد الطاقة والصناعة والخدمات والنقل النهري.
تهديد بالانهيار
لم يحسم السودان رؤيته حول السد على الرغم من مناقشة الآراء الفنية الإيجابية والسلبية، إذ رجح التعامل معه بناء على الترويج الإثيوبي بأنه إضافةً إلى مد السودان بالطاقة الكهربائية، فإن كمية المياه المخزنة ستعمل على انتظام فيضان النيل. كما ذكرت إثيوبيا أن التخزين في أعوامه الأولى قد يسبب عجزاً في كمية المياه قبل أن تعود إلى طبيعتها، واقترحت أن يتم تعويض هذا النقص من مخزون بحيرة ناصر عند السد العالي.
جاء الفيضان بعكس كل هذه التوقعات. ففي ما يتعلق بسد النهضة، شكّك متخصصون في المياه في قدرته على مواجهة الفيضانات. وذكر صبحي فرج، أستاذ جغرافية البيئة بجامعة المنوفية بمصر، في دراسة سابقة أن "سرعة اندفاع المياه وحمولتها من رواسب الطمي كبيرة الحجم واصطدامها المتكرر بجسم السد ستؤدي إلى أن يفقد سعته التخزينية ويتدفق الماء بعنف متحولاً إلى فيضان، كما يمكن أن يؤدي إلى حوادث مشابهة سنوياً وإلى أن يقلّل من عمره الافتراضي".
كما أوضح أن المشروع كان ينبغي أن يكون أصغر حجماً لتحقيق الكفاءة وتقليل التكلفة، على النحو المقترح من الجانب المصري، وأن "السد قد زيد في حجمه بنسبة 300 في المئة عما ينبغي أن يكون عليه. ومن ثم، فأكثر من نصف التوربينات نادراً ما ستستخدم". وأضاف أن "موقع السد الحالي بالقرب من الأخدود الأفريقي العظيم النشيط تكوينياً، وفي مناطق تتميز بشدة الانهيارات الصخرية وزحف التربة وتدفق الطمي، قد يسبب فشلاً للمشاريع المائية، كالانهيار الذي حدث لنفق قريب من المنطقة. كما أن ملء بحيرة السد بسعتها الضخمة التي تبلغ 74 مليار م3 سيحدث ضغطاً عظيماً على القاع، مما ينذر بحدوث نشاط زلزالي في محيط البحيرة، ويهدّد أيضاً بانهيار السد، وتدمير سدَّي الروصيرص وسنار السودانيين وغرق المناطق الواقعة في مسار النهر".
إذاً يمكن استنتاج أن انهيار السدود يحدث نتيجة لتحرك أحد أجزائها أو أساساتها، بالتالي عدم مقدرتها على الاحتفاظ بالماء، الأمر الذي يؤدي إلى تدفق كميات كبيرة من المياه ويعرض حياة الناس وممتلكاتهم للخطر. كما أرجعت أسباب انهيار السد إلى مرور مياه بموجة عالية فوق قمة السد خلال ذروة الفيضانات، مما يعكس قصور الدراسات حوله. وهذا ينطبق على السدود الأخرى أيضاً، إذ كشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في أوائل أغسطس (آب) من هذا العام أن سبب انهيار سد بوط على النيل الأزرق الذي يستخدم لتخزين حوالى 5 ملايين متر مكعب، هو اندفاع كميات كبيرة من المياه الآتية من وديان جبال الأنقسنا بسبب الأمطار والفيضانات، وقد تمكن من حجزها مؤقتاً إلى أن أدت إلى انهياره في النهاية.