"سيّدات القمر" و"نكات المسلحين" عملان عربيان شملتهما القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية. وقد لا يكون ترشيحهما يعني إنجازاً شخصياً للروائية العمانية جوخة الحارثي والكاتب الفلسطيني مازن معروف فحسب، بل إنّه حدث عربي يمنحنا جرعة من الأمل والتفاؤل في الأدب العربي لا سيما الجديد والشاب، وسط سجالات حادّة حول جدوى الكتابة في زمن الحروب والموت.
انضمت رواية جوخة الحارثي ومجموعة معروف القصصية إلى أحد عشر عملاً إبداعياً آخر من دول العالم، لترسّخا حضور الأدب العربي عالمياً. ولعلّ هذا التقدّم الذي يحرزه الأدب العربي، عاماً تلو آخر، يغدو دافعاً لمزيدٍ من الترجمات إلى لغاتٍ تسمح للقارئ الأجنبي بأن يتعرّف إلى أدبٍ يُكتب في البقعة الأكثر اشتعالاً من هذا العالم.
روايات جوخة الحارثي بعامة مستلهمة من البيئة العُمانية الغنية بالموروثات الشعبية، وتُنسج تفاصيلها من خيوطٍ تصل الجغرافية الخارجية بذوات الأبطال وعوالمهم الداخلية. تكتظ روايتها "سيّدات القمر" بنساء يُمثلنَ نماذج إنسانية تستحق أن يتأملها القرّاء في الغرب، بغية تحطيم الأفكار النمطية التي تحيط بالمرأة العربية أو الخليجية عموماً.
وعن قدرة "سيدات القمر" على استحواذ انتباه لجنة "مان بوكر"، على الرغم من خصوصية عالمها المرتبط بالموروث العماني، تعلّق الحارثي قائلةً لـ "اندبندنت عربية": "وصول الرواية إلى هذا الترشيح كأنه يفتح عالمك الخاص، الحميمي، الذي تشكل عبر سنوات في خيالك وعلى الورق، على العالم بأسره. أشعر بارتباط عميق مع الموروث العماني، لا أنظر إليه كفلكلور، أحب أن أكتبه، أحب أن يرى الناس العام في الخاص، والمشترك في الفرديّ. فالجوهر الإنسانيّ يتخطى الحدود، وتجارب الحب والفقر والموت والألم والحرية تتزيّن بلبوس مختلفة من الخصوصيات الثقافية، لكنّ إحساسنا الإنساني بها هو نفسه أينما كنا".
تعتقد الكاتبة والأكاديمية جوخة الحارثي بقيمة الأدب وقدرته على التغيير، وأنّ انتشار الأدب العربي في العالم من شأنه أن يبدّل النظرة الثابتة إلى البلدان العربية كمناطق حروب ونزاعات، ويُحيلها نظرةً أعمق إنسانياً. وعمّا إذا كانت تتوقع وصول روايتها إلى القائمة القصيرة، تجيب الحارثي: "وجود نص روائي- من أي مكان في العالم- في محفل أدبي عالمي هو دائماً من ضمن الاحتمالات والتوقعات. ولكن بالنسبة إلى روايتي فإنني لم أفكر في الأمر، وحين اختيرت ضمن القائمة الطويلة كان ذلك مفاجئاً لي تماماً. لكنني أقرأ هذا الترشيح بتفاؤل وأمل في أنّ الباب سيشرع أكثر في السنوات المقبلة أمام الأدب العربي كي يتبوأ مكانته اللائقة في مصاف الأدب العالمي".
ولأنّ الجائزة تُمنح مناصفةً للكاتب والمترجم، كان لا بدّ أن نسأل جوخة الحارثي عن ترجمة "سيّدات القمر" التي صدرت بالعربية قبل تسع سنوات تقريباً، وقد علّقت بالآتي: "بعدما صدرت سيدات القمر في العام 2010، حظيت بمراجعات إيجابية، والكتب مثل البشر، لها حظوظها الخاصة. هكذا دعيت إلى الجمعية الإنغلوعمانية في لندن للحديث عن الرواية، ومن ثم تحمست الجمعية لتمويل ترجمتها. وكان من حسن الطالع أن اختاروا المترجمة القديرة مارلين بوث، أستاذة الأدب العربي في جامعة أكسفورد. وعلى مدار أشهر طويلة، تبادلت مع المترجمة النقاش حول الفصول واحداً واحداً، وأرسلت لها عديد الصور لبعض الأشياء ومفردات الطبيعة العمانية التي استخدمتها في الرواية للمساعدة على تصورها مثل المندوس والفلج. في النهاية الكتاب المترجم كتاب جديد، علينا أن نقبل بذلك، وإلا تعذبنا بلا طائل في محاولة حصار الصورة الشعرية هنا أو المثل الشعبي هناك بترجمة حرفية. لكنّ العمل لم ينتهِ بانتهاء الترجمة إذ اشتغلتُ مرة أخرى مع المحرّرة الأدبية في دار النشر، حتى اتفقنا أخيراً على جميع التفاصيل ونشر الكتاب في العام 2018 عن دار "ساندستون برس".
"سيّدات القمر" هي الرواية الثانية للكاتبة العمانية المعروفة جوخة الحارثي، وفيها تسوق قرّاءها نحو عوالم مجتمعها العماني بعاداته وتقاليده وطقوسه الخاصة جداً. وتقدّم عبر شخصيات تتأرجح بين الواقعية والرمزية تحوّلات المجتمع العماني، بدءاً من الاحتلال البريطاني حتى فترة التحديث والتمدّن، مروراً بالحروب الأهلية والنزاعات المستمرة.
"نكات للمسلحين": قصص الحرب
يبدو وصول كتاب مازن معروف القصصّي هو المفاجأة الأكبر لكونه اختير مع مجموعة قصصية أخرى في لائحة تطغى عليها الروايات. وهذه المفاجأة لا ينكرها مازن معروف الذي لم يفكّر في احتمال وصول عمله إلى القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية، ربما لاعتقاده "المغلوط"، بحسب تعبيره، بأن مزاج الجوائز الأدبية العالمية يميل عادة نحو الرواية وليس القصة القصيرة. مضيفاً: "أقول هذا على الرغم من أن عدداً من كتّاب القصة القصيرة توّجوا دوماً بأهم الجوائز الأدبية منذ مطلع التسعينات حتى اليوم من أمثال غاو شينغجيان، نادين غورديمير، وج.م.غ لوكليزيو، ومو يان، وأليس مونرو وحتى سفيتلانا ألكسيفيتش وغيرهم".
يضيف الشاعر والمترجم الفلسطيني المقيم في آيسلندا: "لو ألقينا نظرة سريعة على القائمة الطويلة للبوكر هذا العام نجد أن هنالك أحد عشر عملاً روائياً ومجموعتين قصصيتين، "نكات للمسلحين" إحداها. لا ننسى أن هذه المجموعة كانت قد فازت بجائزة "الملتقى" والجامعة الأميركية – الكويت، في دورتها الأولى، ومن هنا كانت انطلاقتها نحو دور النشر الأجنبية. لكنّ بلوغها اليوم القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر يمثل إنجازاً رمزياً للأدب العربي الراهن ويعزّز من مؤشرات جدارته. وبالتالي يساعد في تسليط الضوء على أسماء أدبية كبيرة ونتاجات أدبية مهمة في منطقتنا".
عندما قرأتُ اسم مازن معروف ضمن الأسماء المرشحة للجائزة العالمية، تذكرت قصة كان قد أخبرني إياها مازن جعلته يهجر الشعر ويتجه صوب القصص ليكتب مجموعته الجميلة هذه. من هنا كان سؤالي له: "هل ثمة شيء قدري قادك إلى كتابة القصة ومنها إلى هذا النجاح؟"، يُجيب مازن: "نعم أؤمن بذلك. ما حدث هو أن آخر مجموعة شعرية لي كانت قد سُرقت مني. كانت مكتوبة بخط اليد على دفتر صغير أخضر اللون، وكنت أحملها في حقيبة كتف صغيرة لأن هذا ما تعلمته، أن تحمل حقيبة كتف صغيرة هو جزء من تشكيل صورتك ككاتب. سذاجة طبعاً. وبينما كنت جالساً في مقهى مقابل مبنى الأكاديمية السويدية، حيث تقرر جائزة نوبل للآداب، قام لصّ- وبكل هدوء- بحمل الحقيبة بما فيها ومشى. فتشت حاويات القمامة المحيطة بالمقهى، وحين يئست ذهبتُ لتقديم بلاغ في أحد المخافر السويدية. طردني البوليس بلباقة حين قلت إن أثمن ما في الحقيبة هو دفتر ملاحظات صغير. آمل في ألا يكون هذا اللص متخصّصاً بسرقة الكتّاب الذين يستسلمون بنظرهم لمبنى الأكاديمية السويدية فينوّمهم مشهدها مغناطيسياً. لكنّ هذا الحدث، كان متجانساً تماماً مع واقع أنني كنت قبلها بسنوات قد بدأت تخصيص وقت كبير من قراءاتي للقصة القصيرة. وأذكر أن ترجمات بسام حجار وصالح علماني ومحمد برادة وإدوارد الخراط أفادتني كثيراً. لكنّ المجموعة التي فُقِدَتْ تركت مكانها فجوة بيني وبين الشعر. لم أعد إليه نادراً. أحياناً أفكر أن تقنيات كتابة القصيدة انتقلتْ معي إلى القصة القصيرة وهو ما يعزيني".
عن وصول مجموعته "نكات المسلحين" (دار الريس، 2015) ورواية "سيدات القمر" (دار الآداب، 2010) إلى قائمة مان بوكر الطويلة، يعلّق مازن معروف قائلاً: "الحضور العربي في جائزة عالمية مهم جداً، "خصوصاً أننا- أنا والروائية جوخة الحارثي- نشأنا في بيئتين جغرافيتين وسياسيتين مختلفتين. كما أن حضورنا في القائمة الطويلة يعني أن الأدب العربي اليوم ينافس برواية ومجموعة قصصية على واحدة من أهم الجوائز الأدبية في العالم".
ومن يقرأ تعليقات مازن معروف منذ بداية الإعلان حتى الآن يُدرك تماماً امتنانه للمترجم جوناثان رايت. وحول سؤالنا عن الترجمة يجيب: "جوناثان رايت يعمل بذاكرتين. ذاكرة المترجم الضليع لا باللغة العربية وحسب بل بلهجاتها المختلفة واحتمالات تحديثها كذلك. وأيضاً ذاكرة جوناثان الإنسان الذي أقام وتنقّل بين مدن مختلفة في الشرق الأوسط، وبالتالي فإنه يعرف من أين يأتي النص السرديّ الذي يكون منكباً على ترجمته كما ظروفه كالجغرافيا، والخصوصية الثقافية، والتقاليد المجتمعية وغيرها". ويضيف قائلاً: "التعاون مع جوناثان رايت أتاح لي أن أرى كتابي بعينين جديدتين. أظن أنه عكس كل ما حرصت على تظهيره من خلال القصص. المترجم في النهاية هو كاتب العمل في اللغة المنقولة وأول قارئ للعمل في اللغة المنقولة كذلك. لذا هو شريك في النسخة الإنكليزية للكتاب. كما أنه يمتلك قدرة رفيعة على التقاط المناخ اللغوي والأسلوبي. أكنّ احتراماً كبيراً له، ولا أخفي عليك إنني أصاب دوماً أمامه بشيء بالارتباك كلما التقينا. قرأتُ قبل سنوات في إحدى المكتبات الآيسلندية ترجماته لقصص حسن بلاسم وأذكر أنني دهشتُ وتمنيتُ أن أحظى بشرف التعاون معه إلى أن أبلغني أنه يعمل على ترجمة "نكات للمسلحين" إلى الإنكليزية. هو شخص مرن ومتواضع، على أهميته كمترجم وخبرته الرفيعة مع الأدب العربي. التقينا في برايتون قبل شهرين، وعرفت للمرة الأولى أنه كان مقيماً في الحمرا وعلى بعد عشرات الأمتار فقط من بيتنا في الثمانينات. المترجم لا يزال جندياً مجهولاً نسبياً، وأرى في قرار لجنة مان بوكر الدولية منح الجائزة الأولى مناصفة للكاتب والمترجم إنصافاً للمترجم قبل أي شيء".
"نكات المسلحين" تُرجمت إلى تسع لغات تقريباً، وتدور قصصها حول صبيٍّ يروي الأحداث بلسانه، فينتقم بقصصه الفنتازية ممن يُشكلون مصدر خوفه وقلقه في الواقع: الأب أولاً، والمسلّحون ثانياً.
الحرب جزء أساس في قصص المجموعة، إنها حاضرة بأسلحتها ومسمياتها وشخصياتها العنيفة حيناً، والمعطوبة أحياناً. لكن الحرب عند مازن معروف لا تأخذ معنىً ميلودرامياً أو تراجيدياً، لكأنّه يلجأ إلى الطرافة كحلّ فني، إن لم نقل كحلّ إنساني. إنه يمرّر الدعابة في تعبيره عن الفاجعة، معتمداً "اللعب بالمأسوي"، وهذا ما نلمسه أولاً من عنوان المجموعة "نكات المسلحين".