في أحدث ظهور للمرجع الديني الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني عبر وسائل الإعلام، أعلن دعمه إجراء الانتخابات المبكرة في يونيو (حزيران) 2021، وأصدر مجموعة توصيات بشأنها خلال لقائه مبعوثة الأمم المتحدة في العراق جنين هينيس بلاسخارت.
ويرى مراقبون أن توصيات المرجعية قطعت الطريق أمام ذرائع بعض القوى السياسية التي تحاول المماطلة، وعدم حسم القوانين المتعلقة بالانتخابات أو توفير البيئة الملائمة لإجرائها.
توصيات المرجعية
وشمل اللقاء مناقشة الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجهها البلاد، إذ قالت بلاسخارت، "تحدثت مع السيد السيستاني في ثلاثة أمور، منها إجراء الانتخابات في موعدها المقرر بقانون منصف وعادل لجميع الأطراف، وبسط هيبة الدولة وكف السلاح المنفلت، وفتح ملفات الفساد الكبيرة في البلد لمحاسبة الفاسدين".
ولم يكتف السيستاني بإعلان دعمه الانتخابات المبكرة وحسب، بل شدد على ضرورة توفير الظروف الملائمة لإنجازها.
وجاء في بيان أصدره مكتب المرجع السيستاني أن "الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها العام المقبل تحظى بأهمية بالغة"، مشدداً على أهمية "توفر الشروط الضرورية التي تضفي على نتائجها درجة عالية من الصدقية".
وأشار إلى أن "التأخر في إجرائها أو إجراءها من دون توفير الشروط اللازمة، سيؤديان إلى تعميق مشكلات البلد"، محذراً السياسيين من "الندم" في حال المضي بانتخابات يقاطعها الشعب.
ودعا السيستاني إلى السيطرة على المنافذ، ومكافحة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة ومحاسبة القتلة، كما دعا إلى الحفاظ على السيادة الوطنية.
في المقابل، جدد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي التزامه بإرشادات المرجعية "التي تمثل منطلقات وأولويات الشعب العراقي، ودليلنا الدائم نحو تحقيق تطلعات شعبنا في الانتخابات المبكرة الحرة والنزيهة والعادلة"، متعهداً باستمرار الحكومة في الخطوات التي بدأتها على طريق الحفاظ على السيادة، وفرض هيبة الدولة ومحاربة الفساد، برغم ما واجهت وتواجه من تحديات وعراقيل.
وأعلن الكاظمي تصميم الحكومة على محاسبة "المتورطين في دماء العراقيين"، فيما أشار إلى انتهاء المرحلة الأولى من إجراءات التحقق والتقصي، كاشفاً عن قرب بداية "المرحلة الثانية المتمثلة في التحقيق القضائي، وتحديد المتورطين في الدم العراقي وتسليمهم إلى العدالة".
موقف صارم
ويأتي حديث المرجع الأعلى وسط الخلافات الكبيرة بين القوى السياسية في شأن قانون الانتخابات، وعدم توصلها إلى صيغة نهائية في شأنه، في حين يشير مراقبون إلى أن موقف المرجعية "صارم" في توفير المتطلبات الأساسية لضمان نزاهة الانتخابات، وعدم تكرار تجربة انتخابات 2018.
في السياق ذاته، يقول الكاتب أحمد الشريفي إن بيان السيستاني "رسالة واضحة مفادها أن أداء حكومة الكاظمي ليس بالمستوى المطلوب"، مبيناً أن الأزمة التي أدت إلى انهيار حكومة عبد المهدي "ما زالت حاضرة، وهو ما تحذر منه المرجعية".
ويضيف إلى "اندبندنت عربية"، "هناك تباطؤ في حسم الملفات الرئيسة المرتبطة بالانتخابات المبكرة تحديداً، وما يتعلق بإبعاد المال السياسي والسلاح المنفلت من التأثير في نتائجها".
ويعتقد الشريفي أن "الكاظمي لم يستوعب الرسالة، في أن خياراته باتت محصورة بين فتح ملفات الفساد والقتل، أو بقاء الوضع على ما هو عليه وإدخال البلاد في حال فوضى"، مرجحاً "خضوع الكاظمي إلى تسويات مع الأحزاب السياسية الرئيسة، وعدم تنفيذ ما ورد في بيان المرجعية".
ويشير إلى أن "السيستاني حسم الجدل حول موعد الانتخابات، شرط أن تأتي بنتائج ليست في مصلحة الأحزاب المتنفذة"، مبيناً أن "التوافق في شأن قانون الانتخابات الحالي لن يكون مقبولاً على مستوى الشارع العراقي، لأنه يعني تكرار تجربة الانتخابات الماضية".
ناقلة الرسائل
ويعارض موقف السيستاني رغبة القوى السياسية في تأجيل إجراء الانتخابات المبكرة، إذ تخشى بعض الكتل الشيعية تلك الانتخابات بعد تراجع شعبيتها، على إثر الاتهامات التي طالتها بالوقوف خلف عمليات القمع والقتل في انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) العراقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى مراقبون أن الكتل السياسية تتخذ من الخلافات حول قانون الانتخابات والظرف المالي الذي تمر به البلاد، ذرائع رئيسة لتأجيلها، وهو ما يشير إليه رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، معتبراً أن "السيستاني قطع الطريق أمام الكتل التي اتخذت مسار المناورة في ما يرتبط بتأخير إقرار قانون الانتخابات".
ويعتقد الشمري بوجود "توافق وتخادم" بين مختلف الكتل الشيعية والسنية والكردية حول موضوع تأجيل الانتخابات.
ويكشف الشمري في حديث إلى "اندبندنت عربية"، عن أن "ممثلة الأمم المتحدة استشفت من خلال لقاءاتها بقادة تلك الكتل محاولات الاتفاق على تأجيل الانتخابات"، مبيناً أنها "حملت هذا التصور إلى المرجعية لقطع الطريق أمام أي اتفاق سياسي بهذا الصدد".
ويشير إلى أن "ما يدعم عدم رغبة القوى السياسية، وتحديداً الشيعية منها التي تعلن قربها من المرجعية، في إقامة الانتخابات المبكرة هو عدم إعلانها تأييد بيان السيستاني، أو التأكيد على إقرار قانون الانتخابات وتعديل قانون المحكمة الاتحادية"، مردفاً أن "تحدي إرادة المرجعية قد يعيد تصعيد الشارع العراقي تجاه تلك القوى".
ويختم أن "السيستاني دعم وعد الحكومة العراقية، وحفّزها على استكمال متطلبات الانتخابات المبكرة، ما قد يدفع بالقوى السياسية إلى تقديم تنازلات بسيطة تمكّن بعض القوى الجديدة من الحصول على مساحة بسيطة في البرلمان المقبل، من دون تقديم ضمانات حقيقية في شأن نزاهة الانتخابات"، متوقعاً "ألا تتنازل الكتل الرئيسة عن سيطرتها على القرار السياسي".
ويلاحظ أستاذ الإعلام غالب الدعمي أن "المرجع الأعلى عبّر عن دعمه الانتخابات المبكرة، شرط توفر معايير النزاهة فيها وضمان عدم التزوير، فضلاً عن ضبط السلاح المنفلت".
ويضيف، "المرجعية أعطت دعماً واضحاً للكاظمي، وحاصرت النزاع في خصوص ملفي الانتخابات المبكرة ومحاربة الفساد"، مبيناً أنها "إشارة واضحة إلى كون نجاح الكاظمي مرتبط بتنفيذ تلك المتطلبات".
تجاوب غير مقنع
وبرغم التجاوب السريع لرئيس الوزراء العراقي مع بيان المرجع الأعلى، إلا أن مراقبين رأوا أن تجاوب الكاظمي لم يكن "مقنعاً"، واكتفى بإعلانه الالتزام بتلك المحاور برغم عدم تحقيقه "التعهدات" التي قطعها عند تسلمه المنصب.
في السياق ذاته، يقول الكاتب والصحافي سامان نوح، إن كل ما تحدثت به المرجعية هو "تعهدات حكومية سابقة لم يلتزم بها الكاظمي حتى الآن". وبالرغم من صياغة مبررات تتعلق بصعوبة مواجهة أحزاب نافذة تمتلك السلطة والمال والقوة التشريعية، فإن الكاظمي يمتلك "دعم جزء كبير من الشارع الذي ينتظر منه خطوات واضحة في مواجهة مفاسد تلك القوى".
ويضيف أنه في مقابل الدعم الصريح والمباشر من السيستاني "تعهد الكاظمي بالالتزام بتلك الخطوات، بعد أشهر من تسلمه منصب رئاسة الوزراء بصلاحياته الواسعة، والتي لم يستطع من خلالها تحقيق منجزات حقيقية لا على صعيد محاسبة المتورطين بملفات الفساد أو حسم قضية السلاح المنفلت، ولا في ملف قتل النشطاء الذي تفيد تسريبات بأن الحكومة تعرف المتورطين في بعض تلك العمليات، ولم تتخذ إجراءات بحقهم".
ويقرأ نوح في التعاطي الحالي للكاظمي مع الملفات "تسوية سياسية في الأسابيع الماضية مع القوى الشيعية الرئيسة". ويقول "بغض النظر عن التفاصيل يبدو أن هناك اتفاقاً على عدم فتح ملفات الفساد الكبرى وقضايا القتل والاغتيالات ومحاسبة المتهمين فيها، في مقابل عدم تصعيد الفصائل النافذة لتحركاتها ضد الحكومة، والاستمرار في اتخاذ القرارات عبر آلية التوافق والمحاصصة".
ويتابع أن الكاظمي ربما يحاول "تأجيل المواجهة إلى حين تقوية صفوفه، لكن السؤال الأهم إلى أي مدى يستطيع العراقيون الانتظار لبدء التحرك لحسم الملفات الحساسة"، لافتاً إلى خشية الشارع من أن يمتد الانتظار لفترة طويلة، "وتنتهي الأمور بعد أشهر إلى تسوية سياسية وليس إلى مواجهة حاسمة للملفات الرئيسة".