فنان الشعب، لقب استحقه بلا جدال سيد درويش، فالعبارة تليق به مثلما لا تليق بأحد قبله أو بعده، وبالرغم من محاولة مشاهير غيره نسب اللقب لأنفسهم، لكنه كان مفصّلاً على مقاسه.
هذا الموسيقار شاسع الموهبة وغزير الإنتاج، الذي كتب التاريخ الموسيقي العربي من جديد. الفنان الذي عاش حياة قصيرة بالطول والعرض، وقدم أعمالاً كبيرة وكثيرة لا تتناسب مع سنوات عمره الضئيلة، فحضوره الدائم في اليوميات ليس مجالاً للمناقشة، فهو الشخص الذي يردد تلاميذ المدراس المصرية نغماته بشكل ثابت في طابور الصباح، مترنمين بكلمات النشيد الوطني التي اقتبسها من خطاب الزعيم الوطني مصطفى كامل "بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي"، ذكرى رحيل سيد درويش الـ 97 تمر هذا الأيام، إذ فارق الحياة عام 1923 قبل أن يكمل عامه ال 32.
ثائر الموسيقى وسيد الأغنيات الوطنية
السيد درويش البحر، بحسب اسمه في الوثائق الرسمية، هو رائد النهضة الموسيقية في القرن الـ 20، نشأ في العاصمة المصرية الثانية "محافظة الإسكندرية"، واستقى من حيويتها وطبيعتها الساحرة تمرده على القوالب، ووسط احتلال إنجليزي خانق للبلاد، والحركة الوطنية في أوجها، والحركة الثقافية مشتعلة، خرج سيد درويش (مواليد 17 مارس (آذار) 1892) بموهبته كمطرب وملحن وشاعر، ليكون شبيهاً بعصره المليء بالكبار، مع بعض السمات الخاصة التي أدخلته التاريخ، عبر إنتاج نادر في جودته و كمّه أيضاً، مقارنة بعمره الصغير، ليصبح ثائر الموسيقى في عصر امتلأ بالثورات الوطنية.
عشرات الموشحات والأدوار والأهازيج والطقاطيق والأناشيد والمسرحيات والأوبريتات، وبينها "العشرة الطيبة والباروكة وشهرزاد"، كما تعامل مع أبرز الفرق الفنية في عصره، مثل فرق علي الكسار وجورج أبيض ونجيب الريحاني، وتفوق على ملحني وقته المخضرمين وبينهم كامل الخلعي.
الفتى المقبل على الحياة كان يتنقل هنا وهناك، تزوج في سن صغير، وكان يعمل في المقاهي وأعمال البناء كي يكسب قوت عائلته، حيث درس سيد درويش في صباه بالمعهد الديني بمدينة الإسكندرية، وفي عمر الـ 16 بدأ العمل، وكان يسرق العقول بصوته، ويهوّن على العمال يومهم الطويل، ولكن جاءته الفرصة في يوم عادي في المقهى، حين عرض عليه الأخوان سمير وأمين عطاالله السفر إلى بلاد الشام، وبالفعل ذهب معهما في جولة ليتعلم أصول كتابة النوتات الموسيقية قبل أن يكمل الـ 20 من عمره، وقدم أول لحن له بعنوان "يا فؤادي ليه بتعشق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذاع صيته فقرر أن يذهب إلى بوابة الشهرة الأكبر حيث الفرق الغنائية الكبرى، وكان من أكثر المتحمسين له الشيخ سلامة حجازي، ومن هنا كانت رحلته إلى القاهرة في عام 1917، وتعاون من خلال الأوبريتات والأغنيات والأدوار مع كبرى الفرق المسرحية في شارع عماد الدين، وبعد عامين فقط اندلعت ثورة 1919، فأنشد "قوم يا مصري ... مصر دايماً بتناديك"، وبعدها "أنا المصري كريم العنصرين"، إذ كان من أشد المنصارين للحركة الوطنية ومتحمساً بشدة لزعمائها، وبينهم سعد زغلول الذي أنشد له أيضاً "يا بلح زغلول"، وهي من الأعمال الراسخة في الوجدان الشعبي كذلك.
فيروز وصباح فخري وسعاد محمد أبرز من أعادوا أداء ألحانه
أعمال سيد درويش في غالبيتها حملت هماً اجتماعياً ووطنياً وحساً سياسياً لاذعاً، وبينما كانت الانتقادات تتصاعد بسبب الاحتلال الإنجليزي وكذلك عدم الرضا عن قرارات الملك فؤاد الأول، قدم درويش أعمالاً شهيرة مثل "شد الحزام والتحفجية" و"الحلوة دي" و "أهو ده اللي صار"، وقد أعادت السيدة فيروز غناء الأخيرتين مع أعمال أخرى له، كما تألق الفنان الكبير صباح فخري في أداء "يا شادي الألحان وأنا عشقت"، وغيرها.
قصص الغرام كثيرة في حياة الشيخ سيد درويش، فالرجل عرف بتعدد علاقاته العاطفية، واستغل هذا الزخم ليكون محفزاً له ليبدع أكثر في أغنياته وموسيقاه، وتردد مثلاً أن أغلب أغنياته الرومانسية كانت نتاج أزمة عاطفية أو موقف لا ينساه مع حبيبته، وبينها مثلاً "زوروني كل سنة مرة" و"أنا مت في حبي وجم الملائكة يحاسبوني" و"أنا هويت وانتهيت"، والأخيرة تميزت في أدائها كثيراً المطربة سعاد محمد حينما أعادت غنائها، وحتى اليوم لا يزال عشرات المطربين يعيدون أداء ألحانه الطازجة والعصرية جداً.
حياة سيد درويش كانت حياة فنان يستكشف الحياة في العصر الذهبي لفنون المسرح والغناء، وفيما هو يجرب لوناً موسيقياً هنا وهناك، ويعيد تشكيل الوجدان الشعبي الغنائي، وعلى جانب آخر في حياته الشخصية، كان يجرب ألواناً كثيرة من الاختيارات، حيث أشيع عنه تناوله الخمر والمواد المخدرة، ومن هنا جاءت قصة وفاته الغامضة التي تعددت الشائعات في شأنها، لتنحصر بين رواية تشير إلى أنه قد يكون فارق الحياة بعد تناوله جرعة زائدة من المخدرات، بينما الأخرى تؤكد أنه قتل مسموماً على يد الإنجليز، لكن الشاعر بديع خيري كذّب هذه الرواية قبل رحيله، وبرّأ سيد درويش من التعاطي، مؤكداً أنه أقلع قبل وفاته، كما أن الأسرة اكتشفت خطاباً بخط يده يقول فيه إنه أقلع بالفعل عن تعاطي الخمور والممنوعات وحتى الحفلات الساهرة، وكان ينشد أغنيات اجتماعية يحث فيها على ضرورة التوقف عن تلك العادات.
ميراث سيد درويش
يعتبر المطرب إيمان البحر درويش من أشهر أحفاد سيد درويش، والذي يتمسك برواية تسميمه ويدافع عنها باستماتة، ويبدي غضبه من التمسك بترديد قصة وفاته بسبب الإفراط في التعاطي، كما يدافع عن تراثه، وكان أصدر بياناً شديد اللهجة حول هذا الأمر باعتباره من ضمن الممثلين القانونيين لورثة الراحل، وحذر من استغلال ألحان سيد درويش من دون الرجوع للورثة، ومما جاء فيه "نرجو التأكد قبل إذاعة أي محتوى موسيقي أو غنائي لمورثنا الشيخ سيد درويش، وجود تصريح موثق من الحارس القضائي على تركة سيد درويش، وهما إيمان البحر درويش ومحمد حسن درويش، المعيّنان من المحكمة باتفاق الورثة جميعهم كحراس قضائيين، والتأكد من حصول من ينوي استغلال ألحان مورثنا على الإذن بحق الاستغلال من أصحاب الحقوق، وهم ورثة سيد درويش أو من يمثلهم قانوناً، وفي حال قيام أية قناة بإذاعة النشيد الوطني، واستغلاله كدعاية أو أي ألحان أخرى في مسلسلات تحوي ألحان مورّثنا، فإنها تتحمل المسؤولية كاملة مع الشركة المعلنة أو المنتجة، لأنه من الواجب احتراماً لأحكام القوانين التي تحمي حقوق المؤلف والملحن وحقوق الملكية الفكرية، أن تقدم الشركات المعلنة تنازلات موثقة أو عقوداً تثبت حقها في هذا الاستغلال ومدته وطرق استغلاله كما ينص القانون، كما أننا لن نتهاون كحراس قضائيين على تركة الشيخ سيد درويش في الدفاع والحفاظ على حقوق الورثة، وسنقوم باتخاذ اللازم قانونا ً لكل من تسوّل له نفسه الاستيلاء على حقوق ورثة سيد درويش من دون وجه حق، والذين أقسموا على الحفاظ على مكانة هذا الرجل العظيم الذي تفخر به مصر بنشيدها القومي".