حديث الصواريخ لا يغطي المأزق الفلسطيني. وبيروت لم تعد "عاصمة" العمل الفلسطيني التي فاخر ياسر عرفات بعد الخروج منها بأنه حكمها.
فالحسابات العربية تغيرت، لا بالنسبة إلى قضية فلسطين ودعم الحق الفلسطيني بل بالنسبة إلى السياسات التي أديرت بها القضية وقادت إلى المأزق. والمشهد كان معبراً جداً في السفارة الفلسطينية في بيروت، ومن ثم في مخيم عين الحلوة للاجئين.
في السفارة، التقى عشرات الأمناء العامين لتنظيمات معظمها مجرد أسماء من التاريخ وبقايا ما زرعته الأنظمة العربية في "الساحة" الفلسطينية. وفي المخيم، أجريت عراضة عسكرية خلال زيارة رئيس "حماس" اسماعيل هنية الذي هدّد بصواريخ تضرب ما بعد تل أبيب، وقال إن المخيمات هي "قلاع المقاومة".
لقاء السفارة الذي شارك فيه رئيس السلطة محمود عباس من رام الله عبر الفيديو، انتهى إلى التوافق على إنهاء الانقسام، خصوصاً بين "حماس" و"فتح"، بالتالي تجاوز الانفصال بين غزة والضفة الغربية وتمتين الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات القديمة - الجديدة بكل أنواع المقاومة الشعبية.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتم الاتفاق فيها على إنهاء الانقسام منذ "اتفاق مكة" عام 2007 برعاية سعودية، إذ كل اجتماع فلسطيني يكرّر التأكيد على تطبيق اتفاقات سابقة من دون تنفيذ. والعراضة العسكرية في عين الحلوة كانت عودة إلى لغة الخمسينيات وشعارات الستينيات، ولكن في مناخ عربي مختلف: مصر والأردن في سلام مع إسرائيل. الإمارات العربية ومملكة البحرين توقّعان مع إسرائيل في البيت الأبيض معاهدات سلام. سوريا في حرب أهلية وإقليمية ودولية تجاوزت التاسعة من عمرها، حيث تسيطر على الأرض خمسة جيوش. العراق مشغول بهمومه الكثيرة بعد الغزو الأميركي والتمدد الإيراني. ليبيا ساحة حرب. اليمن ساحة حرب. السودان في لقاءات مع إسرائيل. والمغرب العربي في مدار خاص.
ولا مجال للهرب من الواقع. الثورة الفلسطينية شاخت، وقادتها رحلوا أو شاخوا، وشعبها قدّم تضحيات لا مثيل لها من دون الوصول إلى هدف نهائي: لا إلى فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. ولا إلى دولة ضمن حدود 1967 في إطار "حل الدولتين". ولا إلى دولة ديمقراطية واحدة للعرب واليهود. حتى الرفض الطبيعي لمشروع الرئيس دونالد ترمب "صفقة القرن"، فإنه لم يمنع إسرائيل من بناء المستوطنات وتغيير الواقع على الأرض.
أما المطالبة الفلسطينية بمفاوضات تسوية تحت إشراف الرباعية الدولية، فإنها في طريق مسدود بقرار أميركي وإسرائيلي.
والسؤال ليس فقط: ما العمل؟ بل أيضاً ما هي وسائل العمل؟ انتفاضة شعبية ثالثة، مقاومة مسلحة، مزيج من المقاومة الشعبية والعسكرية أم الدق على جدار المجتمع الدولي لفتح باب التفاوض على تسوية؟
لا تفاهم حتى الآن على قرار عملي، سواء بقي الانفصال أو اكتملت الوحدة الوطنية تحت راية "دولة واحدة وسلطة واحدة وجيش واحد". وهي في أية حال وحدة تحتاج إلى معجزة. فمشروع الإسلام السياسي الحاكم في غزة ليس مقتصراً على القطاع وحده في التخطيط.
ومن الصعب أن تتخلّى كوادر "فتح" العليا عن الامتيازات التي تتمتع بها في الضفة الغربية .
والسؤال الآخر هو: هل انتقلنا عملياً، لا نظرياً، من مرحلة الصراع العربي - الإسرائيلي إلى مرحلة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي؟ وفي أية ظروف ومتغيرات؟ الواقع أن الضاغط هو ظروف الانشغال بالخطر الإيراني والخطر التركي بعد الخطر الإسرائيلي على العالم العربي، وسط الصراع الأميركي - الإيراني. وهذا بعض ما يفسر إقدام الإمارات والبحرين على توقيع معاهدات مع إسرائيل في البيت الأبيض: فالانطباع السائد هو أن ربط العلاقات العربية مع إسرائيل بقيام دولة فلسطينية ضمن مبدأ الأرض مقابل السلام لم يدفع إلى تسوية.
والتصور الجديد هو أن الضغط من أجل التسوية من باب العلاقات الجيدة مع أميركا وإسرائيل يمكن أن ينجح.
وهذا ما يحتج عليه الفلسطينيون ويعلنون يوماً للحداد والرفض ضمن سياسة الرهان على المحاصرة العربية لإسرائيل لمساعدتهم في استعادة الأرض بالتفاوض .
والمسألة تتدحرج من تجربة إلى أخرى، ومن خطر إلى خطر أكبر منه على العرب جميعاً. ومفتاح المشهد من البيت الأبيض هو: فتّش عن ايران، فتّش عن حسابات الرئيس دونالد ترمب الانتخابية .