ركزوا رفاتك في الرمال لــواء/ يستنهضُ الوادي صــباح مساء/، يا ويحهم نصبــوا مناراً من دم/ يُوحي إلى جيلِ الغد البغــضاء. (أحمد شوقي)
المشهد الأول
قبيل أن أندلف، أسمع زئير أسد يقطع الطريق، ولا أحد يستطيع مواصلة الرحلة. قاطع طريق مميز. بعد أن تمكّن الجمع من تدبير أمر قطّاع الطرق البشر، اقترح أحد التجار أن يشترك الجمع في جمع ثمن جمل هزيل، فدية لذلك الأسد كي يخلي الطريق لسير القافلة.
لكن عمر المختار لم يقبل، فلا يلزم ذلك، كما لا يلزم دفع الإتاوات للبشر وعدّها علامة الذل والهوان، اقتربت القافلة بإصرار المختار، من ممر الأسد ومربضه، وانبرى عمر للأسد، فأرداه قتيلاً وسلخ جلده ليراه من لم يرَ.
ذكر الطيب الأشهب في كتابه "عمر المختار"، أنه اجتمع مرة في خيمة المجاهد محمد الفائدي، في دور المغاربة بالمختار، وذكّره بالأحدوثة، فردّ عليه: تريدني يا ولدي، أن أفتخر بقتل صيد.
تناهى الحكي من مكتب مكتبة "قورينا" لمسامعي وقد تخطيت الممر وولجت المكان، يسيطر علي التحفز والإثارة، ومتيقناً أن ثمة منارة يلوذ بها الأفراد المتوحدون وأن اليقظة زوال الحلم من الوجود: يا ويحهم نصبوا مناراً من دم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
16 سبتمبر (أيلول) 1931، كان يوم شنق شيخ الشهداء عمر المختار، الذي بات رمز النضال الوطني ضد الاستعمار في العالم، حتى قبل إعدامه، لكن استشهاده صُبغ بالدم أن يكون الرمز، وتوكيد ذلك أن لينين الزعيم الروسي، ذكره في خطبة له أيام الثورة، كما أشاد به الزعيم الفيتنامي الشهير هوشي منه. وبعد شنقه، رثاه شعراء كثر، ومن أشهر مرثياته قصيدة المصري أحمد شوقي، التي ذكر لي المحامي عمران بورويس، أن المرحوم الموسيقار يوسف العالم قد لحنها، في ما تحمس الفنان التونسي لطفي بوشناق للمشروع وسيغنيها.
المشهد الثاني
من مذكرات الفاشي الإيطالي غراتسياني، الذي حكم على عمر المختار بالموت شنقاً، وكان قد وصل إلى بنغازي يوم 14 سبتمبر 1931، حيث كان خارج البلاد، وأعلن انعقاد "المحكمة الخاصة" بالمختار في اليوم التالي. وفي صبيحة ذلك اليوم وقبل المحاكمة، رغب غراتسياني في الحديث مع المختار، ومما يذكره غراتسياني في كتابه "برقة المهدأة": "وعندما حضر أمام مكتبي، تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين، الذين التقيت بهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية. يداه مكبلتان بالسلاسل، على الرغم من الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطاً، لأنه كان مغطياً رأسه بالَجَرِدْ، ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي، رجل ليس كالرجال، له منظره وهيبته، على الرغم من أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبي، نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح.
غراتسياني: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟
أجاب الشيخ: من أجل ديني ووطني.
غراتسياني: ما الذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
الشيخ: لا شيء إلا طردكم… لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهي فرض علينا، وما النصر إلا من عند الله.
غراتسياني: لِما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثوار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا أسلحتهم؟
الشيخ: لا يمكنني أن أعمل أي شيء… ومن دون جدوى نحن الثوار، سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر، ولا نسلّم أو نلقي السلاح…
ويستطرد غراتسياني في حديثه، "وعندما وقف ليتهيأ للانصراف، كان جبينه وضاء، كأن هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الذي خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية، ولُقبت بأسد الصحراء. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء".
المشهد الثالث
لم تكن الشاشة بيضاء، كان الواقع مثل وجه عمر المختار، ساطعاً بالحقيقة، التي هذا مشهد من مشاهدها، كما يجب الذي يجب.