كتبت منذ فترة هنا أن السباق الرئاسي الأميركي لانتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، هو استفتاء على ترمب، وليس منافسة تقليدية بين مرشحين كما اعتدنا، يتم فيه تقليدياً التركيز على مرشح من الحزب الجمهوري وآخر من الحزب الديمقراطي، من دون إعطاء أهمية كبيرة للمرشحين الآخرين، مثل حزب الخضر أو المستقلين أوغيرهم، لصعوبة المنافسة الجادة على هذا المنصب بكل ما يتطلب من إمكانات وترتيبات.
ومازلت عند هذه القناعة ونحن نقترب من الشهر الأخير قبل انعقاد الانتخابات، وأتمسك بهذا الرأي حتى مع قرب المناظرات الرئيسة الثلاث بين المرشحين، التي ستسلط الأضواء بعض الشيء على المرشح الديمقراطي جو بايدن، مما سيجعل البعض يفترض أن الساحة الانتخابية الأميركية عادت إلى شكلها المعتاد، كسباق بين سياسات ومقترحات الرئيس الحالي الجمهوري، ومنافسه الديمقراطي مع اختلاف توجهاتهما الأيديولوجية والسياسية يساراً وجنوباً.
وقد يبدو الأمر كذلك، غير أنني ما زلت عند رأيي، وهو أن ما نشهده جديد على الساحة الأميركية، وأقرب إلى استفتاء على ترمب، من كونه انتخابات بين منافسين، وذلك لعدة اعتبارات أهمها:
أولاً، إن مؤيدي ترمب ليسوا بالضرورة من مؤيدي الحزب الجمهوري ومواقفه التقليدية، ولكنهم يمثلون ويشكلون نسبة غير قليلة وثابتة من معارضي المنظومة السياسية التقليدية الأميركية بمختلف الاتجاهات، ولن يحيدوا كثيراً عنه مهما فعل، لأن تصرفات ترمب غير التقليدية لا تثير أو تنفر هؤلاء، ولا مجال أن تتحول نسبة كبيرة منهم لتأييد المرشح الديمقراطي.
ثانياً، إن معارضي ترمب بممارساته وتوجهاته الحادة، يشكلون نسبة شبه ثابتة تقريباً أيضاً، وتقترب من نسبة الفئة الأولى، وتصويتها لصالح بايدن هو تعبير عن رفض ترمب أكثر ما يكون لصالح الحزب الديمقراطي، الذي فقد رسالته السياسية ويطرح نفسه بديلاً لترمب، فضلاً عن أنه يقدم مرشحاً تقليدياً للغاية.
ثالثاً، إن هناك استقطاباً شديداً في الساحة الانتخابية الأميركية، وكلتا المجموعتين عاقدتا العزم على التمسك بمواقفهما، من دون الاطلاع بموضوعية على ما سيدور في المناظرات، وستعمل على استغلالها للترويج لمزيد من الاستقطاب مع أو ضد ترمب.
رابعاً، هناك حيرة لدى الناخبين على جانبي الوسط، بين أولئك الذين يصوتون عادة ضد المرشح الجمهوري ترمب، وأولئك القلقين من ضعف المرشح الديمقراطي وقلة إرادته.
خامساً، جميع المؤشرات وإحصاءات الرأي العام، ترجح النتيجة لصالح المرشح الديمقراطي، لرفضهم شخصية ترمب، ومن الملفت من متابعة السوابق التاريخية عدم نجاح مرشح في الفوز في الانتخابات بعد تأخره بنسبة تصل إلى 9 في المئة في هذه المرحلة المتأخرة من السباق، عدا الرئيس هاري ترومان الذي تغلب على تقدم المرشح ديوي في منتصف القرن السابق.
سادساً، بعد المقدمات التمهيدية في بداية المناظرات القادمة، التي يسرد فيها كل مرشح إنجازاته وتطلعاته، ينتقلان بسرعة إلى شخصنة النقاش والتركيز على نقاط الضعف في الشخصية والقدرات والحكمة لدى المرشح الآخر.
سابعاً، يعلم ترمب أنه لن يجذب ناخبين جدداً من خلال نقاش سياسي أو مقترحات ملموسة، خصوصاً، أن أغلب مؤيديه غاضبون من المنظومة السياسية ورموزها، لذا يفضل شخصنة النقاش والتركيز على أنه صاحب قرار وعزيمة، وأن منافسه ضعيف الشخصية ونمطي، في المقابل سيركز بايدن على التناقضات والحدة في سلوك ترمب، وعدم تعامله بصدق وشفافية مع الناخب الأميركي، والاعتماد في ذلك على ما نشر في كتب لمقربين من ترمب أو من عائلته، وأخيراً على كتب بوب وودورد، أو ما قد يستجد وينشر خلال شهر أكتوبر، وكل ذلك للتأكيد على أن ترمب لا يصلح لقيادة البلاد، بمعنى آخر، في كلتا الحالتين يكون المعيار المطروح، هو مدى صلاحية المرشح لتولي منصب الرئيس، وليس السياسات المحتمل أن يطرحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثامناً، كلا المرشحين يراهنان على عامل الخوف لدى الناخب، وإنما الجديد هذه المرة أن الخوف يرتبط بالأمور الداخلية الأميركية، وليس الشؤون الخارجية، على الرغم مما يثار بين الحين والآخر عن النفوذ الصيني أو الروسي، والخوف من الانكماش الاقتصادي بالنسبة إلى الأغنياء والتهميش الاقتصادي من الطبقات الأقل ثراء، والخوف من الاستقطاب الأمني والمجتمعي لدى الوسط واليسار السياسي الأميركي، والخوف العنصري من قبل البعض في ضواحي المدن الأميركية الكبرى، وكلها عوامل تجذب أصواتاً لصالح ترمب أو تساعد على تشكيلها ضده، من دون أن يكون للمرشح الديمقراطي دور رئيس في تشكيل توجهاته.
تاسعاً، بصرف النظر عن رفض نسبة غير قليلة من النخبة لتصرفات ترمب غير التقليدية، هناك عديد من الأشخاص الذين يشعرون بالتهميش في النظام السياسي والاقتصادي الأميركي، وقد دعموا ترمب في الماضي، ممثلاً للتغيير في الحزب الجمهوري، وهم أيضاً الدعم الرئيس للتيار اليساري مثل برني ساندرز في المنافسات الرئاسية الديمقراطية قبل الاستقرار على مرشح وسطي، والسؤال هنا هل ينجح الحزب الديمقراطي في توظيف رفض التيار اليساري لديهم (وأغلبه من الشباب) للتصويت في الانتخابات لصالح بايدن؟ رغم عدم تحمسهم له وإنما باعتبار أن ترمب بديل أسوأ لهم .
وأخيراً، قد اعتاد الناخب الأميركي على التصرفات غير التقليدية للرئيس الأميركي واعتاد منه كثيراً من التجاوزات والمبالغات، لذا لن يحاسبه كثيراً إذا استمر على هذا النهج خلال المناظرات القادمة، وأصبح محصناً بعض الشيء من تداعيات أي أخطاء في المناظرات، بينما يقدم بايدن نفسه كبديل نقي وحكيم للرئيس الأميركي، ومن ثم سيحاسب بدرجة أكبر عن أي كبوات في المناظرات، كبوات غير مستبعدة تحت ضغط المواقف ومناظر شرس، مطلق اليد في ما يقوله، ومحصن باعتياد الناخب الأميركي على تصرفاته غير المعتادة، ولبايدن سجل طويل من التصريحات غير الملائمة سياسياً، بخاصة عندما يسترسل في الحديث، ويطيل الشرح من موقف الدفاع عن النفس، وهو ما شهدته شخصياً وكثيراً خلال خدمتي كسفير لمصر في الولايات المتحدة لمدة تسع سنوات.
لكل هذه الاعتبارات لعلنا نتابع الأحداث، وننتظر نتيجة الاستفتاء على الرئيس الأميركي القادم، نتيجة ستحسم بين مؤيدي ترمب ومعارضيه، وتوضح من منهم أكثر قوة على الساحة الأميركية.