قبل شهور قليلة عرض الكاتب والمخرج تشارلي كوفمان فيلمه الجديد "التفكير في الأشياء المنتهية" فكان من ضمن الأمور التي نتجت عن عرض الفيلم إعادة إحياء ذلك الفيلم العائد إلى سنوات السبعين وكان واحداً من أقوى أفلام مخرجه جون كازافيتس، "امرأة تحت التأثير" وكذلك إعادة إحياء ذكرى الناقدة الكبيرة بولين كيل وهجومها الكبير على فيلم كادت يومها تكون متفردة في الموقف المعادي له، وذلك حين ينقل فيلم كوفمان مقاطع من الفيلم القديم، ويشير إلى موقف الناقدة بشيء من الاستهجان. ولم تكن تلك بالطبع مرة نادرة تحاول فيها كيل ذبح فيلم، لكن كثراً استغربوا موقفها وهاجموه. ويبدو أن كوفمان قرر منذ ذلك الحين أنه سيرد عليها ذات يوم. فانتظر قرابة نصف قرن ثم... فعلها.
من درر السينما المستقلة
لقد كان موقف بولين كيل غير منطقي وبدا مفتعلاً، حيث نعرف أن فيلم جون كازافيتس، حتى وإن لم يكن تحفة سينمائية استثنائية نال رضى كبار النقاد وتعاطف نخبة الجمهور والفنانين ليعتبر واحداً من الأفلام الأساسية في ما كان يسمى حينها "السينما المستقلة"، وهو "النوع السينمائي" الذي أمضى جون كازافيتس عمره خائضاً إياه محققاً ضمن إطاره أفلاماً تكاد تكون عائلية ليس فقط في مواضيعها بل حتى في طريقة تحقيقها. ولعل في مقدورنا اعتبار "امرأة تحت التأثير" آية ذلك النوع من السينما. فهو لم يأت فقط كفيلم عن العائلة وصعوبات الحياة الزوجية، وهو الموضوع الأثير لكازافيتس في كل أفلامه، بل أتى إنتاجاً عائلياً من أوله إلى آخره.
ولنبدأ هنا بموضوع الفيلم، فهو يتحدث عن أزمة نفسية حادة تتعرض له مابيل لونغيتي ذات يوم منفجرة في وجه زوجها وأطفالها ما يضطر الزوج وهو عامل بناء متوسط الحال، إلى إيداعها مركز تأهيل تمضي فيه ستة أشهر لتعود بعدها بادية التعافي. ولكن خلال حفلة عائلية أقامها الزوج احتفالاً بعودتها، تنفجر مابيل من جديد ما يضطر الزوج إلى طرد الأصدقاء أولاً، ثم الأهل المقربين ليبقى وحده مع زوجته والأطفال في البيت. واضح هنا أننا أمام موضوع شبه عادي عن حالة ضغط اجتماعي وعائلي قد تحدث في كل مكان. غير أن قوة الفيلم إنما تكمن في طريقة تقديم الحكاية وخاصة عبر ممثلين كبار يعتبرون عادة من ضمن عائلة المخرج/ الكاتب. ولا بد أن نذكر أولاً أن كازافيتس كتب حكايته أول الأمر قد تكون مسرحية تقدم خارج برودواي وتقوم ببطولته زوجته جينا رولندز. غير أن هذه احتجت قائلة إنها لن تكون قادرة على أداء هذا الدور الصعب بلغته المتفجرة، من جديد كل مساء، فما كان منه إلا أن حول النص إلى سيناريو سينمائي. غير أن ما من أستوديو قبل بتمويل فيلم لا يتحدث إلا عن "جنون امرأة وعدم قابليتها للشفاء". فما العمل؟
باعوا كل ما يملكون
باع جون وجينا كل ما يملكان، لكن ذلك لم يكن كافياً. تدخل الأصدقاء المعتادون فلم يكف. في النهاية دبر الممثل بيتر فالك (المعروف شعبياً بكولومبو لتأديته دور التحري الشهير، وفنياً بوصفه من أقرب المقربين إلى كاسافيتس) نصف مليون دولار هو الذي لعب دور الزوج بلا مقابل كذلك. وهكذا حقق الفيلم ليعرض في.... صالات الفن والتجربة، وفي عدد من المهرجانات وينال بعض الجوائز ثم يدخل بهدوء إلى تاريخ السينما المعروفة بـ"سينما المؤلف" وصولاً إلى احتساب سجل الفيلم الأميركي له في عام 1990 كواحد في مقدمة خمسين فيلماً أميركياً تعتبر "ذات دلالة ثقافية وتاريخية وجمالية". صحيح أن فالك تمكن من استعادة ما استثمر في الفيلم، وجون كازافيتس تمكن من أن يواصل مسيرته الإخراجية ليحقق أفلاماً تالية على نفس النمط، لكن "امرأة تحت التأثير" لم يتمكن من خلق تلك السينما التي كان جون كازافيتس يأمل دائماً بخلقها: السينما التي تفعل في حياة المجتمع وحياة الناس.
مهما يكن فإن هواة السينما الأميركية يعرفون جون كازافيتس جيداً باعتباره ممثلاً من طراز جيد، ويذكرون أداءه المميز في أفلام مثل «الدزينة القذرة» و«طفل روز ماري» حيث ساعده وجهه القاسي، والقلق الدائم الظهور عليه والألم البادي في عينيه، على لعب دور الرجل الذي تسوقه أقداره لكي يكون شريراً أي دور الشخص الذي يرتبط بعقد ما مع شيطان ما. لقد مثل جون كازافيتس في العديد من الأفلام، ولفت الأنظار على الدوام ورشح مرتين على الأقل لنيل جائزة الأوسكار. غير أن ما يمكننا أن نذكره اليوم، عنه، بعد أكثر من ثلاثة عقود مرت على رحيله المبكر عن عالمنا عام 1989، ليس وجه الممثل فيه، بل وجه المخرج السينمائي، والمخرج ذي التوجه الذي أبعده كثيراً عن هوليوود وجعله زعيم "مدرسة المستقلين" في السينما الأميركية.
وجهان لفنان حقيقي
هذا الوجه هو الوجه الذي بالكاد يعرفه عنه عموم هواة السينما، لكنه هو وجهه الحقيقي، وهو لئن كان بين الحين والآخر يرضى بلعب أدوار جيدة أو تافهة على الشاشتين الكبيرة والصـغيرة، فإنه إنما بهذا تمكن من تمويل أفلامه بنفسه، هو الذي سار في توجهه الإبداعي ضد «الماكينة» الهوليوودية فتجاهلته، ما اضطره لأن يظل طوال حياته الفنية هامشياً، أي حراً طليقاً متفلتاً من قيود عاصـمة السينما وأساطينها.
ولكن إذا كان روبرت آلتمان قد عرف كيف يسخر هامشيته لغزو هوليوود في عقر دارها، فإن كازافيتس لم يبال حتى بمثل هذا الغزو. بدأ هامشياً وظل هامشياً لسبب بسيط جداً وهو أنه كان من بين قلة من مبدعي الفن السابع الأميركيين أخذت فن السينما على محمل الجدية. فكازافيتس كان يحب السينما بوصفها فناً وإبداعاً وليس بوصفها صناعة ومشاريع كبرى. وعلى هذا النحو كنا نراه، كلما تمكن من أن يجمع بضعة آلاف من الدولارات، يسارع إلى «التورط» في إنتاج فيلم يحققه على طريقة الحرفيين الذين يعملون في نطاق العمل الحرفي العائلي: دائماً بالإمكانات البسيطة نفسها، ودائماً مع المجموعة من الممثلين والتقنيين إياها، ودائماً يكون المشروع موجهاً إلى الجمهور ذاته: جمهور نخبوي مثقف يحب أن يرى فيلماً بسيطاً في شكله، يعبر عن الحب والصداقة ويتساءل عن موقع الإنسان والعواطف في هذا العصر.
من دون صخب كثير، وبقدر كبير من الحياء وقدر أكبر من العواطف، كان جون كازافيتس يقدم أفلامه، من دون أن يدرك، وهو يصنعها منكباً عليها يولفها في قبو بيته ويصورها مع زوجته جينا رولاندز ومع رفاقه مثل بيتر فالك وبن غازارا، أنها ستصبح ذات يوم من الكلاسيكيات، ويصبح لها تاريخ ومؤرخون ومكانة في مسار الفن السينمائي تضاهي، في بعض اللحظات، مكانة سينما أورسون ويلز أو أندريه تاركوفيسكي. فالحال أن جون كازافيتس، كفنان حقيقي، كان أكثر تواضعاً من أن يتنبأ بكل هذا المجد يغمره، في بعض سنواته الأخيرة ثم بعد رحيله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دخول التاريخ من باب الهامش
لكنه كان، في الوقت نفسه، يعرف أنه قدم، عبر أفلام مثل «ظلال» الذي تناول منذ 1959 مسألة التمييز العنصري في الولايات المتحدة و«وجوه» (1968) الذي اشتغل عليه لسنوات طويلة و«امرأة تحت التأثير» (1974) و«تيارات الحب» (1983)، وخاصة «أزواج» (1970) و«ميني وموسكوفيتش» (1974)، وهذان الأخيران بمساعدة أستوديوهات رضيت بأن تغامر معه، ولكن من دون أن تجبره على تقديم تنازلات، كان يعرف أنه قدم درساً ثميناً في الكيفية التي يمكن بها لفنان أن يحافظ على كرامة فنه وسط دوامة رأسمال يطحن الفن والكرامة في آن معاً. صحيح أن جون كازافيتس قد عانى كثيراً (من المعروف أن معاناته هذه وتعبه هما اللذان قتلاه باكراً وهو بالكاد بلغ الستين من عمره، وكان لا يزال يحمل كثيراً من المشاريع والأحلام السينمائية)، وصحيح أنه رضي بالتمثيل في أفلام أو مسلسلات كان فنه السينمائي كله، في الأصل، تنديداً بها، لكنه عرف بفضل هذا كله كيف يسبغ على الفن السينمائي الأميركي طابعاً إنسانياً غالباً ما افتقر إليه هذا الفن. ولا بد أن نذكر هنا أن الممثلين الرئيسيين الثلاثة الذين عملوا معه (زوجته جينا رولندز، وبيتر فالك- كولومبو- وبن غازار) كانت سينماه هي التي أعطتهم تلك الصبغة الفنية الجدية التي طبعتهم.