لليبيا عاصمتان بنغازي وطرابلس ... جملة ندر أن تجد مثيلاً لها في دستور مكتوب لبلد ما في أرجاء الدنيا، لكنها كتبت في مقدمة أول دستور لدولة ليبيا الحديثة، بعد استقلالها عام 1951، لإنهاء النزاع المحتدم بين المدينتين آنذاك حول عاصمة البلاد، الذي هدد فعلياً مشروع الدولة الوليدة وكاد يشطرها إلى نصفين.
التنافس المحموم بين عاصمتي الشرق بنغازي والغرب طرابلس، ألقى بظلاله على التاريخ السياسي لليبيا، منذ ذلك الحين، وشكل صراعاً دائماً لسلطات البلاد، حتى أنها سعت جميعها بلا استثناء إلى نقل العاصمة إلى مكان بديل، للهروب من هذه المنافسة المزعجة بينهما، وما تفرضه من ضغط دائم على السلطة السياسية.
لم تنجح هذه المحاولات لثقل تأثير المدينتين، وتركز القوى السكانية والسياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية فيهما.
خلافات حادة وانقسام مؤقت
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وهزيمة إيطاليا الدولة المستعمرة لليبيا، ودخول البلاد تحت الانتداب الثلاثي، البريطاني والإنجليزي والفرنسي، بدأت معركة ليبيا لنيل استقلالها، وسط خلافات حادة بين القوى الداخلية والخارجية المنتصرة في الحرب، حول اقتسام الدولة الناشئة، صاحبة الموقع الإستراتيجي، على شواطئ المتوسط.
داخلياً، كان الصراع محتدماً بين طرفين لا ثالث لهما، التيار الطرابلسي بقيادة بشير السعداوي، والتيار البرقاوي الموالي للأمير إدريس السنوسي، الذي يتخذ من بنغازي مركزاً له، وكان الخلاف دائراً حول من يقود البلاد بعد استقلالها، فقد كان فريق طرابلس يريد نظاماً رئاسياً برلمانياً ويدعو إلى الانتخابات، بينما يصر فريق بنغازي على تولية إدريس السنوسي ملكاً على البلاد، مع انتخابات برلمانية فقط، لتشكيل الجسم التشريعي.
ويقول أستاذ التاريخ في جامعة البيضاء أحمد البرعصي عن هذه المرحلة "احتدم الخلاف، ووصل الطرفان بعد تفاوض لأربع سنوات إلى طريق مسدودة، فأعلنت برقة استقلالها الذاتي عام 1949، وولت إدريس السنوسي أميراً عليها، فاتخذ زعيم التيار الطرابلسي بشير السعداوي قراراً تاريخياً، بالتنازل للسنوسي والقبول بمطالب البرقاويين، بتوليته ملكاً على البلاد، درءاً لخطر التقسيم الذي أحدق بالبلاد".
وأضاف لـ"اندبندنت عربية"، "بعد توحد الرأي الوطني على شكل نظام الحكم، بدأت معركة دستورية حول شكل الدولة وعاصمة البلاد، فقد اشتد الخلاف مجدداً بين بنغازي وطرابلس حول هذه القضايا"، مبيناً أنه بعد سجال طويل ومفاوضات شاقة "اتفقت لجنة الستين التي شكلت لكتابة الدستور حينها، على إقرار النظام الفيدرالي واتخاذ قرار نادر بتسمية بنغازي وطرابلس عاصمتين لها بالتساوي، على أن يتبادلا إدارة البلاد خلال أشهر السنة".
صراعات جانبية
بالتوازي مع الصراع على العاصمة، خاضت المدينتان صراعاً شبيهاً لما يدور حالياً على المؤسسات السيادية ومقراتها. وبعد شد وجذب طويلين، اتفق قادتهما على اقتسام هذه المؤسسات. هكذا، تبدل مقرات مجلس النواب والحكومة مع تدوير العاصمة بين المدينتين، فحين تحط الحكومة في بنغازي، ينتقل مجلس النواب إلى طرابلس، والعكس صحيح.
وبعد إرضاء الشقيقتين اللدودتين، في الشرق والغرب، أعلن الملك المتوج حديثاً إدريس السنوسي استقلال ليبيا من قصر المنار في مدينة بنغازي في 24 ديسمبر (كانون الأول) 1951.
ظهور النفط وعودة الخلاف
كل الخلافات التي نشبت بين بنغازي وطرابلس، والتنافس على مراكز السلطة وقيادة ليبيا، خلال مرحلة الاستقلال، كانت قبل إعلان أول كشف نفطي في ليبيا عام 1958.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما إن أنتجت أول شحنة من الذهب الأسود، في بداية الستينيات، حتى اشتعلت الغيرة وعاد التنافس بين المدينتين حول مقر المؤسسة الوطنية للنفط، الذي أنشئ في بنغازي بداية، قبل أن ينقله معمر القذافي إلى طرابلس بعدها بسنوات، وتعود بنغازي للمطالبة بعودته إليها بعد سقوط نظامه.
ويرى الصحافي الليبي مراد الرياني، أن اكتشاف النفط أشعل حدة التنافس بين المدينتين، مضيفاً "مع اكتمال عمليات الاستكشاف النفطية، أدركت طرابلس أن ثلثي مخزون النفط الليبي يتركز في برقة، ما يقوي موقف عاصمتها. وخشي التيار الطرابلسي من أن تدفع الثروات الكبيرة، التي كشف عنها في شرق البلاد، برقة إلى العودة للاستقلال الذاتي وأخذ الجمل بما حمل، فانطلقت تظاهرات حاشدة في شوارعها لإلغاء الحكم الفيدرالي وإقرار النظام الاتحادي المركزي".
وتابع "كان الضغط الطرابلسي كبيراً، وكادت تظاهرات طرابلس تخرج عن السيطرة، فاضطر الملك إدريس إلى إخمادها بالرضوخ إلى مطالبها وإلغاء النظام الفيدرالي، مع بقاء المادة المتعلقة بتدوير العاصمة، حتى بعد اتخاذ هذا القرار، الذي طبق بداية من العام 1963".
البحث عن عاصمة بديلة
ضاق الملك إدريس السنوسي ذرعاً بالضغط الذي تمارسه التيارات البنغازية والطرابلسية، وتنافسهما المحموم وثورات الشارع فيهما عليه، فعمل خلال السنوات الباقية من فترة حكمه على تهيئة مدينة جديدة لتكون عاصمةً للبلاد. ولهذا الغرض، أنشأ مدينة البيضاء (200 كيلو متر شرق بنغازي) في الجبل الأخضر، وبدأ فعلياً بنقل بعض الوزارات والمؤسسات إليها.
لم تنجح خطط ملك ليبيا، ولم تستطع البيضاء سحب البساط من المدينتين، اللتين يتركز فيهما نصف سكان البلد، وأبرز القوى السياسية والثقافية والاجتماعية. فقضى أغلب فترات السنوات الخمس الأخيرة من حكمه في مدينة طبرق قرب الحدود المصرية، هرباً من المدينتين وإزعاج القاطنين فيهما.
القذافي يثور من بنغازي
في مطلع سبتمبر (أيلول) 1969، انقلب الملازم معمر القذافي ومعه زمرة من الضباط الصغار في السن والرتبة، على نظام الملك إدريس السنوسي. نفذ الانقلاب من بنغازي، التي بقيت لسنوات تلت مقراً للقذافي ومجلس قيادة ثورته.
وبعد سنوات قليلة من تجميد الدستور الملكي والعمل على كتابة دستور جديد للبلاد، ثارت مجدداً قضية العاصمة. هذه المرة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين كانوا متفقين على اختيار عاصمة واحدة للبلاد، ومنقسمين حول اسمها، بنغازي أم طرابلس؟
بلغ الخلاف حداً أجبر معه القذافي على الاستعانة بالمشورة المصرية، حيث كان نظام الرئيس جمال عبد الناصر قد أرسل مستشارين إلى بنغازي، دعماً للثورة الوليدة.
ويقول فتحي الذيب، موفد عبد الناصر إلى بنغازي وقتها، في كتابه "عبد الناصر والثورة الليبية" إن "القذافي استدعاه يوماً لاجتماع مجلس قيادة الثورة، وسأله مباشرة عن مواصفات العاصمة. وبعد تعديدها له، صرخ القذافي، ألم أقل لكم إن بنغازي فيها كل مواصفات العاصمة".
وأوضح الذيب في الكتاب، أن "مجلس الضباط كان منقسماً خلف رجلين، الضابط الطرابلسي المتعصب لمدينته عبد السلام جلود، والضابط البنغازي المعارض له محمد نجم، حول أحقية المدينتين بمقر العاصمة".
بنغازي تغضب القذافي
حسم القذافي أمر اختيار مقر العاصمة، بعد ثورة طلابية عليه، في بنغازي عام 1976، طالبت بإقرار الدستور والعودة إلى الحكم المدني وإجراء انتخابات عامة. ونكايةً في أهلها، قرر الانتقال إلى طرابلس وتسميتها عاصمة للبلاد، وجرد بنغازي من كل المؤسسات السيادية، التي نقلها معه غرباً.
أثار قرار القذافي حنق أهالي بنغازي، وترك تداعيات كبيرة على العلاقة بينها وطرابلس، إلى اليوم، حيث تنامى لدى سكان المدينة، خلال العقود الأربعة لحكم القذافي، شعور بالمظلومية والتهميش، وتر العلاقة بينهما بعد سقوط حكمه، حيث تطالب بنغازي وقواها السياسية والاجتماعية بإعادة المؤسسات المسلوبة إليها، والعودة إلى النظام الفيدرالي، وتسمية العاصمتين، وتسوية المسائل الاقتصادية المتعلقة بتقاسم الثروات وعوائد النفط.
من جانبها، ترفض طرابلس مطالب بنغازي، وتتمسك بحقها في أن تظل عاصمة للبلاد، والاحتفاظ بالمؤسسات السيادية. وهذا الخلاف لعب دوراً جوهرياً في الأزمة الليبية الحالية، التي ينقسم طرفاها كما تنقسم البلاد بعد كل خلاف سياسي بين بنغازي وطرابلس.
الحل الوليد والنزاع القديم
مع تسارع المساعي خلال الأسابيع الماضية لإنجاز تسوية سياسية لأزمة ليبيا الحالية، عاد التنافس بين بنغازي وطرابلس ليطل من جديد، بالمواضيع الخلافية نفسها، مهدداً هذه المساعي.
وللخروج من هذا المأزق الدائم والمزمن، لجأت أطراف النزاع إلى حل مؤقت للمرحلة الانتقالية، يقضي بنقل كل مؤسسات ومراكز السلطة إلى النقطة الوسط بينهما، مدينة سرت، وتأجيل الفصل التالي من تنافسهما المحموم بشأن من تكون عاصمة البلاد إلى مرحلة كتابة الدستور.