لا أحد ينكر حقائق التاريخ. فهو "حي في الحاضر، ومؤثر في المستقبل". ولما كانت "الوثائق لا تحترق"، بحسب القول الروسي المأثور، فإن استدعاءها، وتقليب صفحاتها يطرحان من الحقائق ما لا يستطيع أحد إنكاره. ومن هذه الوثائق التي ظفرنا بالاطلاع عليها في الأرشيفات الروسية، ومنها أرشيف وزارة الخارجية الروسية، ما يؤكد أن "إسرائيل لم تكن لتظهر إلى الوجود، لو لم يكن جوزف ستالين أراد قيامها"، وهو ما اعترف به كثيرون من رجال السياسة والمراقبين داخل روسيا وخارجها، بل وفي إسرائيل نفسها، ممن اعتلوا سدة السلطة هناك.
وفي هذا الصدد، نشير تحديداً إلى غولدا مائير، أول سفيرة لإسرائيل في موسكو، ولاحقاً وزيرة الخارجية ورئيسة الحكومة الإسرائيلية وإحدى أبرز الموقعين على "إعلان قيام دولة إسرائيل في مايو (أيار) 1948". ونشير كذلك إلى ما أودعته مائير من أسرار ووقائع في كتابها الذي أصدرته في لندن عام 1975 تحت عنوان "حياتي". وقبل التوقف عند دور غولدا مائير في مستهل حياتها السياسية في موسكو، نشير إلى ما قاله موشيه شاريت، وزير خارجية إسرائيل، حين خرج من اجتماعه مع نظيره السوفياتي أندريه فيشينسكي وياكوب ماليك، المندوب السوفياتي الدائم في الأمم المتحدة عام 1949، حول "إن موسكو ليست مجرد حليف، بل إنها الممثل الشخصي لإسرائيل"، فضلاً عما قاله أبا إيبان، أول مندوب دائم لإسرائيل في الأمم المتحدة، وقوله مسجل عليه، إنه "لولا صوت الاتحاد السوفياتي وحلفائه أوكرانيا وبيلاروس وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وما قدمه إلينا من أسلحة عبر حلفائه في المعسكر الشرقي، لما استطعنا الصمود دبلوماسياً ولا عسكرياً ". بل وهناك من الوثائق السوفياتية ما يؤكد "أن موفدي الاتحاد السوفياتي في الأمم المتحدة يدعمون مصالح شعب إسرائيل، حتى من دون طلب من قياداته". ونضيف إلى ذلك ما قاله أبا إيبان، أول سفير لبلاده في واشنطن إنه "لم يصدق أذنيه حين استمع إلى ما قاله غروميكو بشأن دعمه لتقسيم فلسطين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1947"، ما جعله يصل حدّ وصف غروميكو بأنه صار "بطلاً صهيونياً".
ولمَ لا وهو الذي قنّن ما لم تستطع بريطانيا تبنّيه، على الرغم من أنها صاحبة المبادرة التي أعلنها وزير خارجيتها آرثر بلفور عام 1917 تحت اسم "وعد بلفور" الذي قطعت فيه بريطانيا على نفسها وعد توطين اليهود في فلسطين. وكانت المملكة المتحدة عادت عن "وعد بلفور" لدى مداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة حول قرار "تقسيم فلسطين"، بل امتنعت عن التصويت مع ذلك القرار الذي صدر بهذا الشأن في نوفمبر 1947. وما إن صدر قرار التقسيم حتى حشدت القوى الصهيونية جهودها للعمل من أجل تحقيق حلم قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948، لتسارع موسكو إلى الإعلان عن الاعتراف بها. وذلك ما تضمنته البرقية التالية التي بعث بها مولوتوف، وزير الخارجية السوفياتي إلى نظيره الإسرائيلي موشيه شاريت في 18 مايو 1949:
ولعل أهم أحداث تلك المرحلة ما تلى إعلان موسكو عن قرارها بالاعتراف بإسرائيل من تبادل للعلاقات الدبلوماسية معها، وإيفاد غولدا مائير إلى العاصمة السوفياتية كأول سفيرة لإسرائيل لدى الاتحاد السوفياتي.
وعن غولدا مائير، تقول الوثائق إنها ولدت في كييف الأوكرانية، لكنها لم تعش فيها طويلاً، إذ سرعان ما غادرتها قبل أن تبلغ الثامنة من العمر عام 1906 للحاق بأبيها الذي سبقها إلى الولايات المتحدة، هرباً مما كانوا يسمونه "البوغروم" أو المذابح التي لاحقت اليهود إبان سنوات الإمبراطورية الروسية. وتذكر الأدبيات الإسرائيلية أن غولدا مابوفيتش التي اكتسبت لقب مائير بعد زواجها من موريس مائيرسون، في وقت مبكر من حياتها في النشاط السياسي من خلال أحد التنظيمات اليسارية حتى تاريخ هجرتها مع زوجها إلى فلسطين عام 1921.
ولم يمضِ من الوقت الكثير، حتى تدرجت غولدا مائير في حياتها الوظيفية التي حملتها إلى صدارة النسق الأعلى للحركة الصهيونية ضمن 38 من أبرز الشخصيات اليهودية التي وقّعت إعلان قيام الدولة اليهودية، ولتكون أول سفيرة لإسرائيل لدى الاتحاد السوفياتي. وما أن وصلت غولدا مائير إلى موسكو عام 1948، حتى وجدت نفسها بين أحضان "أهلها وذويها" من اليهود السوفيات الذين قدّموا إليها، وإلى من معها في البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية كل أشكال الدعم. وكان في صدارة هؤلاء بولينا جيمتشوجينا، زوجة فياتشيسلاف مولوتوف اليهودية الأوكرانية، التي أقامت معها علاقات وثيقة أثارت الكثير من الجدل وكانت سبباً في اتهامها بالجاسوسية وإيداعها السجون السوفياتية، بإيعاز مباشر من ستالين، من دون أن يشفع لها اقترانها بمولوتوف، وزير الخارجية والساعد الأيمن لستالين آنذاك.
استهلت غولدا مائير عملها في بلدها الأم بنشاط محموم، من أجل تهجير أكبر قدر من اليهود السوفيات إلى إسرائيل، في الوقت الذي كانت موسكو بدأت تدرك حقيقة أهداف إسرائيل، ما كشفت بشأنه عن بعض تحفظاتها. على أن اللقاء الأول بين مائير ومولوتوف كشف عن تقارب ملحوظ في الأهداف والتوجهات، فيما تناول ضمناً المسائل المتعلقة برغبة إسرائيل في الاستحواذ على أكبر قدر من الأراضي الفلسطينية من دون التقيّد بحدود قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر عام 1947، إلى جانب مناقشة مدى جدوى مهمة برنادوت، مبعوث الأمم المتحدة إلى فلسطين. ومن اللافت ما قالته مائير حول ملاحظة مولوتوف بشأن ارتياحه لتحسّن أوضاع الدولة الإسرائيلية، بالتزامن مع إشارتها إلى بوادر الخلافات بين الملك عبدالله في الأردن ومصر، في توقيت مواكب لبدء الاتصالات غير المعلنة بين إسرائيل وبعض البلدان العربية.
ومن اللافت في هذا الصدد ما أعرب عنه مولوتوف في لقائه مع غولدا مائير حول "ثقته بقوة إسرائيل وبأنها سوف تنتصر"، فضلاً عما قالته غولدا مائير إن "إسرائيل لن تلتزم الحدود التي نصّ عليها قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة". ولعل ما قالته غولدا مائير في أول لقاء يجمعها مع أعلى القيادات السوفياتية حول "يقينها من أنه لو بقيت دولة إسرائيل وجهاً لوجه مع العالم العربي، لأمكن في نهاية المطاف من إقامة علاقات ودية بسرعة مع الأقطار العربية"، ربما يكون خير شاهد على استراتيجية القيادة اليهودية بعيدة المدى.
ومن الوثائق التي تكشف عن أولى بوادر الخلاف بين الاتحاد السوفياتي وإسرائيل، تلك البرقية التي أرسلتها غولدا مائير في التاسع من فبراير (شباط) 1949 تحت "سري للغاية" إلى موسي شيرتوك، أول وزير خارجية لإسرائيل وتقول فيها:
على أن الأمر لم يقتصر على ذلك، إذ سرعان ما انصرفت غولدا مائير إلى استغلال منصبها والاستفادة مما حصلت عليه من مساعدات عبر بولينا جيمتشوجينا، قرينة مولوتوف، من أجل توطيد مصالح بلادها، وفي المقدمة ما يتعلق بتشجيع أكبر عدد من اليهود السوفيات على الهجرة إلى إسرائيل. وقد أثار ذلك حفيظة ستالين، ما سجله القائم بالأعمال الإسرائيلي في موسكو، في برقيته التي أرسلها إلى بلاده، وكشفت ضمناً عن بعض ما تردد عن الفشل الذي أصاب مهمة غولدا مائير في موسكو، في وقت تداولت الألسن "إشاعات" تقول إن ستالين أصدر أوامره بجمع كل اليهود السوفيات الذين وردت أسماؤهم ضمن القوائم التي قدمتها غولدا مائير حول الراغبين في الهجرة للمشاركة في تعمير وبناء إسرائيل، قائلاً: "إن عليهم المشاركة أولاً في تعمير سيبيريا!!".
هكذا أنهت غولدا مائير مهمتها التي لم تستمر طويلاً بين ربوع الاتحاد السوفياتي "الوطن الأم"، وإن يظل ما قامت به من نشاط كبير خلال هذه الفترة القصيرة نبراساً لكل من خلفها سواء في موسكو أو خارجها. ولعل الخلاف في وجهات نظر الجانبين السوفياتي والإسرائيلي تجاه مسألة هجرة اليهود إلى إسرائيل تمحور بالدرجة الأولى حول تباين المواقف تجاه طبيعة هذه المسألة. فبينما كانت القيادة السوفياتية ترى أن الاتحاد السوفياتي كأول دولة في العالم للعمال والفلاحين، يجب أن تصبو إليها كل الأفئدة، وتنشد الانضمام إليها والعمل من أجل رفعتها وتطويرها، كانت الحركة اليهودية ترى أن الهجرة ليست مجرد مغادرة محل الإقامة الحالي للمشاركة في بناء الدولة اليهودية الجديدة، بل عودة إلى الوطن الأم، مهد الآباء والأجداد ومهبط العقيدة والدين.
وقد أدركت القيادة السوفياتية وزعيمها ستالين بالدرجة الأولى، مدى دهاء أفراد البعثة الإسرائيلية في الاتحاد السوفياتي، وحرص تل أبيب على إيفاد اليهود من ذوي الأصول الروسية، للعمل في سفارة إسرائيل في موسكو من أجل الاستفادة من علاقاتهم وأصولهم القديمة، وتسهيل مهمتهم في الترويج للهجرة إلى إسرائيل، وهو ما لا تزال إسرائيل تلتزم به لدى اختيار أعضاء سفارتها في موسكو حتى اليوم، سعياً وراء تسهيل مهماتهم المعلنة وغير المعلنة.
على أن الودّ لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما أدارت إسرائيل ظهرها للاتحاد السوفياتي صوب علاقات أكثر حميمية مع الولايات المتحدة، لتسجل علاقات البلدين قطع علاقاتهما الدبلوماسية مرتين، الأولى في فبراير عام 1953 في أعقاب التفجيرات التي قام بها "مجهولون" ضد السفارة السوفياتية في تل أبيب. لكن القطيعة لم تستمر طويلاً، فعادت إلى سابق مجاريها بعد وفاة ستالين بأربعة أشهر. وكانت المرة الثانية في العاشر من يونيو (حزيران) 1967 احتجاجاً على عدوان إسرائيل ضد البلدان العربية. وتقول الوثائق إن ديمتري تشوفاخين، السفير السوفياتي لدى إسرائيل آنذاك، "أجهش بالبكاء خلال لقائه مع أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي لتنفيذ مهمة إعلانه قرار الحكومة السوفياتية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل"، في أعقاب عدوانها ضد مصر والبلدان العربية في يونيو 1967، وهو الذي كشف وفي أكثر من مناسبة عن ضرورة عدم تركيز موسكو على تأييدها ودعمها للبلدان العربية، والالتزام بموقف محايد في مسألة "النزاع العربي- الإسرائيلي".
وطالت القطيعة هذه المرة لتستمر حتى نهاية 1991، وكانت إعادتها في مقدمة شروط إسرائيل للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر (تشرين الأول) - نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، وإن سبقت هذا التاريخ سنوات طويلة من الغزل بين الجانبين، تدفقت خلالها الهجرة السوفياتية إلى إسرائيل من دون قيد أو شرط، بعد أن كانت بدأت على استحياء في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي استجابة للضغوط الأميركية.