أثارت جريمة قتل الفتاة التونسية رحمة لحمر، 29 سنة، ردود فعل غاضبة في الشارع التونسي، باعتبارها إحدى ضحايا جرائم القتل والاغتصاب، التي لطالما تتكرر كثيراً في المجتمع في الآونة الأخيرة، الأمر الذي أشعل الخلاف مجدداً بين مؤيدين ومعارضين لعودة عقوبة الإعدام، بوصفها وسيلة ردع لهؤلاء المجرمين وضمانة لصون المجتمع.
ليست أولى الجرائم
ومنذ بداية العام، ارتفعت وتيرة جرائم القتل المسبوقة بعنف واغتصاب تجاه النساء التونسيات، وجاءت حادثة رحمة التي غادرت مقر عملها باتجاه منزل عائلتها في إحدى الضواحي الشمالية لمدينة تونس العاصمة، مساء الاثنين 21 سبتمبر (أيلول) الحالي، التي كشف عنها بعد أربعة أيام من بقاء جثتها ملقاة في مجرى ماء قريب من شارع رئيس، لترفع ستار الصمت إزاء هذه الجرائم الوحشية. وحسب ما تناقلته وسائل إعلام محلية، هاجم مرتكب الجريمة الفتاة بعد نزولها من سيارة نقل جماعي، وسرق هاتفها الجوال وطعنها بسكين واغتصبها قبل أن يقتلها.
بعد إلقاء القبض على المتهم، عاد الحديث عن جرائم قتل واغتصاب شهدتها مدن عدة في تونس، وكان آخرها اغتصاب عجوز تبلغ من العمر 98 سنة والاعتداء عليها في مدينة القيروان نهاية أغسطس (آب) الماضي، كما سبقت ذلك جرائم أخرى مماثلة قتل فيها كثير من النساء بعد تعرضهن للاغتصاب.
أسباب الجرائم البشعة
الجريمة فتحت نقاشاً كبيراً وانفعالياً على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وانطلق كثيرون في التعبير عن آرائهم التي رجّحت تحميل المسؤولية لتعاطي أنواع جديدة من المخدرات الخطيرة التي غزت السوق التونسية، مثل حبوب الهلوسة بأنواعها المختلفة، وهو ما اعتبره العميد علي الزرمديني، يندرج ضمن "نهج متكامل يهدف إلى تقويض أسس المجتمعات ضمن عملية نشر الفوضى الهدامة، وإرساء مفاهيم الجرائم البشعة والتأثير الذي تخلّفه في المجتمع"، التي تدفع ردود الفعل الشعبية إلى التهجم على النظام القائم وأجهزته الأمنية، وهذا يخدم منهج "هدم الدولة ومؤسساتها".
ونبّه في حديث إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن دور عصابات التهريب التي تدخل هذه المخدرات "شديدة السمّية" والرخيصة يتلاقى مع مافيات الفساد والإرهاب، التي تسعى إلى هدم أسس الدولة وتقويضها لتشكّل مثلث الفوضى الهدامة.
وأضاف الزرمديني "يجب الإقرار بأن تونس فقدت الآليات الضرورية للتصدي لظاهرة انتشار حبوب الهلوسة، التي راجت في الأحياء الشعبية ولدى الشباب المهمش، وانعكس ذلك على تفشي الجرائم البشعة".
جدل حول الإعدام
بشاعة الجريمة الأخيرة وما سبقها من جرائم اغتصاب وقتل في الأشهر القليلة الماضية، أعاد النقاش حول الدعوة إلى تطبيق عقوبة الإعدام. وانقسم الرأي العام بين مطالب بتنفيذ العقوبة وبين رافض لها، وفاجأت ماجدولين الشارني، وزيرة الشباب والرياضة السابقة، الرأي العام بموقفها المطالب بتطبيق عقوبة الإعدام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت الشارني لـ"اندبندنت عربية" إنها تطالب بتطبيق هذه العقوبة، لأن من أهم حقوق الإنسان حق الحياة، وهو حق مقدّس لكل فرد، ومن يرتكب جرائم بشعة وشنيعة مثل القتل والاغتصاب والجرائم الإرهابية ينتهك هذا الحق، ويحرمون الأبرياء من حقهم في الحياة، وليس صحيحاً كلام البعض أن وقف تنفيذ العقوبة نجح في خفض نسب الجرائم، بخاصة في ظل وجود ظواهر التسيّب الاجتماعي وانتشار المخدرات. وتطبيق أحكام الإعدام لا يجري عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل توجد مؤسسات قانونية وقضاء يحكم على المتهمين ويضمن لهم حق الدفاع، والقضاء التونسي ما زال يصدر أحكاماً بالإعدام ضد المتهمين بالجرائم الإرهابية والجرائم البشعة والشنيعة، لكن تنفيذ الأحكام توقف منذ 1991، تاريخ آخر حكم إعدام نفّذ في تونس، وفي السجون الآن عشرات المحكوم عليهم بالإعدام يعيشون على حساب دافعي الضرائب.
في المقابل، عارضت المحامية سنية الدهماني تطبيق حكم الإعدام، قائلة في تصريحات صحافية إن الولايات المتحدة تطبّق هذا الحكم، لكنها من أكثر الدول التي تحدث فيها جرائم القتل والاغتصاب، ومشددة على أنها ضد المحاكمات الشعبية على "فيسبوك"، ويجب أن يأخذ القانون مجراه.
تراشق إلكتروني
الجريمة قسّمت المجتمع والمشهد السياسي في تونس بين مؤيد ومعارض لتنفيذ عقوبة الإعدام، ووصل الاشتباك إلى حدود الإهانات وتبادل الشتائم، إذ شنّ فيصل التبيني، عضو مجلس نواب الشعب هجوماً عنيفاً على المحامية والناشطة الحقوقية بشرى بلحاج حميدة، عبر صفحته على "تويتر"، قال فيه "بشرى بالحاج حميدة برفضها تطبيق عقوبة الإعدام تعتبر عدوة للإنسانية وغير مبالية بآلام الناس (...)"، مؤكداً "ضرورة إيقافها" عند حدّها.
وأثارت هذه التدوينة ردود فعل غاضبة ضد التبيني من حقوقيات وسياسيين وإعلاميين، معتبرين أنه تجاوز خطير وسقوط أخلاقي غير مسبوق، بينما أعلنت المحامية بلحاج حميدة أنها "ستتقدم بقضية ضده".
ويعكس هذا التراشق حجم الانقسام في الشارع التونسي مع ارتفاع عدد جرائم القتل والاعتداء بالعنف ضد النساء على الرغم من ترسانة القوانين التي أقرّت لضمان حقوق المرأة.
مشكلات المجتمع الحقيقية
الباحث الاجتماعي سامي نصر اعتبر في تصريح إلى "اندبندنت عربية"، أن الخطأ الأول ارتكبته وسائل الإعلام المحلية، إذ قامت بعملية تحريض اجتماعي على إثر الجريمة، التي ليست الأولى بل تتكرر بمعدل خمس جرائم فظيعة سنوياً، وهذا التحريض خطير، لأنه يمنع الحديث عن واقع المجتمع ومتغيراته، الذي شهد تطوراً في مستوى الجرائم التي استعمل فيها العنف، والقضية الرئيسة اليوم ليست بفتح جدال حول عقوبة الإعدام، هل ستحل المشكلة أو لا، بل في فتح حوار وطني ووضع استراتيجية للتصدي لتطور مستوى العنف المجتمعي، الذي يشكل أساس منظومة العنف المنتشر بشكل كبير في تونس. والمخيف لم يعد يخيف في تونس بتراخي هيبة الدولة ومنظومتها الأمنية، والرادع لم يعد يردع، لأن أحداً لم يعد يهتم بردّ فعل المجتمع أو القضاء مع سهولة الحصول على أحكام مخففة أو على عفو بخفض مدة السجن وإطلاق سراح المجرمين.
هل يقلب الرئيس الطاولة؟
خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، عقد مساء الاثنين 28 سبتمبر، قال الرئيس التونسي قيس سعيد، "النص واضح بهذا الخصوص، فمن قتل نفساً بغير حق جزاؤه الإعدام، خصوصاً بالنسبة إلى من يكررون ارتكابهم مثل هذه الجرائم"، مبيّناً أنه "سيجري توفير محاكمة عادلة لمرتكبي هذه الجرائم وتمكينهم من حق الدفاع".
تصريح الرئيس شكّل رسالة واضحة بأن تفاقم هذه الجرائم لا بد من وقفه وتطبيق حكم الإعدام سيجري إعادته، وهو ما اعتبره الصحافي محمد بوعود يقطع مع الخائفين من تنفيذ تونس حكم الإعدام والتحجّج بأن ذلك سيضرب مصداقية البلاد في المحافل الدولية، ويمسّ تعهداتها. بينما اعتبرت صابرين القوبنطيني، النائب السابق في مجلس النواب، أن الرئيس أخطأ لأنه ليس قاضياً ليحكم على المجرمين، وتونس ملتزمة دولياً من أوائل التسعينيات عدم تنفيذ حكم الإعدام، والتزمت الإمضاء عن طريق سفيرها في الجلسة العامة لمنظمة الأمم المتحدة عام 2012، على غالبية الاتفاقات الدولية حول الحقوق المدنية، التي تكرّس الحق في الحياة وتمنع صراحة عقوبة الإعدام.