الرسالة الإيجابية التي حاول أطباء الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقديمها على مدى يومين حول حالة الرئيس الصحية ربما لم تكن كافية لطمأنة الشعب الأميركي، فقد قدم فريقه الطبي والمسؤولون إجابات متضاربة وتجنبوا الرد على أسئلة عديدة، ما خلف انطباعاً بأن هناك أشياء غير واضحة، ولعل هذا ما دفع الرئيس إلى أن يخرج بنفسه في سيارته الرئاسية لإلقاء التحية على مؤيديه الذين احتشدوا خارج مركز والتر ريد الطبي، كي يدلل أنه في وضع أفضل قبل أن يعود مجدداً إلى المستشفى. لكن ما بدا مستهجناً من قطاع واسع في الإعلام وعدد من السياسيين في الولايات المتحدة الذين وصفوا وضع الرئيس الطبي بعدم الشفافية، لا يختلف في حقيقة الأمر عن سوابق عديدة مارسها غالبية رؤساء الولايات المتحدة، إذ تشير مواقف عديدة ودراسات بحثية إلى أن الرؤساء و كبار السياسيين غالباً ما استخدموا الحيل وأساليب الخداع عندما يتعلق الأمر بالحالة الصحية لهم.
خداع شائع
وبصرف النظر عن حقيقة وتفاصيل الحالة الصحية للرئيس الحالي والتي تتعرض لمزيد من الفحص والتدقيق كون إصابته بمرض كوفيد-19 جاءت قبل أربعة أسابيع من موعد الانتخابات الرئاسية، فإنه من المؤكد تاريخياً أن مراوغة وتحايل المسؤولين والرؤساء في الإجابة عن وضعهم الصحي، وبخاصة وقت الأزمات هو أحد أكثر أنواع الخداع السياسي شيوعاً ضد الإعلام وعموم المواطنين.
وبينما أكدت استطلاعات للرأي نشرها تقرير راسموسن إلى أن غالبية المواطنين الأميركيين يرغبون في معرفة الوضع الصحي للرئيس قبل وأثناء توليه السلطة بسبب الصلاحيات الهائلة التي يمنحها الدستور للرئيس في الولايات المتحدة وارتباط ذلك بأمن ومصلحة البلاد، فإن جميع المؤشرات تقطع بأن صحة ترمب سوف تظل هي الشغل الشاغل للإعلام والجمهور حتى يحين موعد الانتخابات في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
إكذب مبكراً ودائماً
تشير الشواهد التاريخية إلى أن العديد من الرؤساء الأميركيين ولأسباب وظروف متباينة، كذبوا وتحايلوا على الصحافة و الشعب بشأن حقيقة حالتهم الطبية منذ نهاية القرن الـ 19 على الأقل وحتى القرن الـ 21 بحسب ما تقول دراسة أجراها مايكل بيتي بروفيسور الصحافة في جامعة ميامي و ديفيد كليمنتسون أستاذ الإعلام في جامعة جورجيا. ففي عام 1893 أجرى الرئيس الأميركي آنذاك غروفر كليفلاند عملية جراحية سرية على متن يخت لإزالة ورم سرطاني، وحينما تسربت بعض الأنباء للصحافة، خرج وزير الحرب (الدفاع حالياً) ليؤكد للصحافيين أن تكهناتهم حول إجراء الرئيس عملية جراحية كانت خاطئة.
ويعود سبب محاولة إخفاء مرض الرئيس كليفلاند إلى أن الولايات المتحدة كانت تعاني من ركود اقتصادي، وكان الرئيس يخشى من أن تفشل خطته لانتشال الاقتصاد من الركود إذا عرف الجمهور أنه مصاب بالسرطان ويواجه خطر الموت. لكن محاولات التحايل على الصحافة والمواطنين باءت بالفشل وافتُضح أمرها، واستمر الوضع الاقتصادي في الانزلاق نحو الكساد.
وخلال الولاية الثانية للرئيس وليام ماكينلي التي بدأت عام 1901، تدهورت صحته كثيراً وأصبح طريح الفراش بعد إصابته بالحمى والانفلونزا فضلاً عن مشاكل صحية في العين، ثم تضاعف مرضه وأوشك على الموت بسبب الالتهاب الرئوي، لكن المتحدث باسمه قلل من تكهنات وسائل الإعلام حول اعتلال صحته، وقال للصحافيين إن التقارير عن إصابة الرئيس بالمرض ليست سوى روايات حمقاء.
ويلسون وروزفلت
أما الرئيس وودرو ويلسون الذي تولى الحكم بين 1913 وحتى 1921 فقد أصيب بأعراض خطيرة من مرض الزهري، لكن المتحدث باسمه صرح إلى الصحافيين بأن الرئيس كان يتعافى من التعب والإرهاق. كما أن ويلسون الذي عانى من سلسلة سكتات دماغية في وقت لاحق أدت إلى إصابته بالعمى في عينه اليسرى، وبشلل في جانبه الأيسر، أبقى إصابته بالشلل سراً بعض الوقت، بينما كانت زوجته تدير واقعياً شؤون الحكم في ما تبقى من ولايته الرئاسية.
وطوال خدمة الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت بين عامي 1933 و1945، حاول السكرتير الصحافي ستيفن إيرلي، إخفاء شلل الرئيس في ساقيه الاثنتين الناجم عن شلل الأطفال والذي كان قد أصيب به في سن الـ 39 من عمره، فقد كان حريصاً أن يتم التقاط الصور الصحافية للرئيس بطرق أخفت كرسيه المتحرك، بل إنه بعد وفاة روزفلت، أصدر إيرلي بياناً أوضح فيه أن الرئيس خضع لفحص شامل من قبل سبعة أو ثمانية أطباء وأعلن أنه سليم عضوياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أيزنهاور وكينيدي
وفي عام 1955 أصيب الرئيس دوايت أيزنهاور بنوبة قلبية أجبرته على الانتقال سريعاً إلى المستشفى، لكن مكتبه الإعلامي أبلغ الصحافيين في البداية أنه يعاني من اضطراب في المعدة قبل أن يعود أيزنهاور ويطلب من فريقه الرئاسي مصارحة الشعب الأميركي بالحقيقة، وهو ما واظب عليه أيضاً حينما أصيب بجلطة دماغية، وعندما أجرى عملية جراحية بعد ذلك.
وعلى نقيض أيزنهاور، أخفى الرئيس جون كينيدي الذي تولى السلطة عام 1961 مرضاً يهدد حياته على الرغم من شبابه وحيويته الظاهرة، فخلال فترة رئاسته القصيرة التي انتهت باغتياله عام 1963، اختار كينيدي الحفاظ على سرية تشخيص كان قد أجراه عام 1947 وأكد إصابته بمرض أديسون، وهو اضطراب في الغدد الكظرية لا شفاء منه. وبسبب آلام الظهر المزمنة والقلق الناجم عن هذا المرض، أدمن الرئيس كينيدي على تناول المسكنات والمنشطات والأدوية المضادة للقلق.
ريغان وبوش الأب
وفي حين اتسمت تصرفات العديد من الرؤساء بالتحايل والمراوغة حينما يتعلق الأمر بصحتهم، إلا أنها ليست ظاهرة عامة يمكن تعميمها، فقد كان الرئيس رونالد ريغان الذي تولى الحكم عام 1982 هو أكبر رجل سناً يصل للرئاسة قبل الرئيس ترمب، واعتبره البعض غير لائق طبياً لهذا المنصب، ومع ذلك لم يخفِ اعتلالاته الصحية، من التهابات المسالك البولية، وخضع لإزالة حصوات البروستاتا. وفي عام 1987، أجرى عمليات جراحية لسرطان البروستاتا والجلد وكشف عنها للإعلام ونقل سلطاته لنائبه جورج بوش لساعات.
كما كشف الرئيس جورج بوش الأب عن سجله الطبي منذ البداية حيث كاد أن يموت في سن المراهقة بسبب عدوى المكورات العنقودية، وتعرض لصدمة في الرأس والرئة خلال عمله كطيار، وأصيب خلال حياته بالعديد من القرح النزفية والتهاب المفاصل والخراجات، فضلاً عن إصابته بالرجفان الأذيني بسبب فرط نشاط الغدة الدرقية.
التعلل بالمرض
ولا يتحايل الرؤساء فقط على شعوبهم عندما يداهمهم المرض، بل إنهم يتذرعون بالمرض أحياناً لصرف الانتباه عن قضايا أخرى غير صحية، فحينما كان جون كينيدي يعقد اجتماعات سرية على أعلى مستوى أمني لبحث كيفية التعامل مع الاتحاد السوفياتي خلال أزمة الصواريخ الكوبية، أعلن السكرتير الصحافي بيير سالينغر للصحافيين إن تغير جدول مواعيد الرئيس وقلة ظهوره العلني كانا بسبب إصابته بالبرد، لدرجة أنه أسهب في وصف أعراض البرد التي يعاني منها الرئيس ودرجة حرارته.
ومن المثير للدهشة بل والسخرية أن سالينغر لم يكن موهوباً في الخداع، حيث استخدم العذر نفسه وهو الإصابة بالبرد لتفسير سبب عودة نائب الرئيس ليندون جونسون من هاواي إلى واشنطن العاصمة في الوقت ذاته، لدرجة أن مراسل صحيفة واشنطن بوست طلب تفسيراً عن تصادف نزلات البرد لدى كل من الرئيس ونائبه في الوقت ذاته، لكن سالينغر رفض التعليق.
المناظرات والصحة البدنية
غالباً ما تكون المناظرات الرئاسية الأميركية ساحة للتشكيك وتبادل الاتهامات وبخاصة في مجال الملف الصحي للمرشحين، فعلى سبيل المثال كشفت وسائل الإعلام كلاً من المرشحيّن للرئاسة الأميركية دونالد ترمب وهيلاري كلينتون عام 2016 وهما يخدعان الجمهور بشأن وضعهما الصحي، كما اتهم كل مرشح الآخر بالكذب بشأن أحواله الطبية.
وفي أكثر المناظرات التلفزيونية شهرة في تاريخ الولايات المتحدة، وهي المواجهة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون يوم 26 سبتمبر (أيلول) 1960، قال العديد من الناخبين إنهم قرروا التصويت لصالح كينيدي لأن نيكسون كان مريضاً ومنهكاً بعدما خرج من المستشفى قبل أسبوعين فقط من موعد المناظرة، وبدا هزيلاً إذ فقد جزءاً من وزنه.
أما بالنسبة إلى الرئيس ترمب وبعد الإعلان عن مرضه بكوفيد -19 وتوالي الإيضاحات الصحافية من طبيبه الخاص وفريق أطباء مركز والتر ريد الطبي يومياً، سيتضح مع الوقت ما إذا كان ترمب يتبنى الممارسات التقليدية للرؤساء غير المنفتحين بشأن صحتهم، أم سيتبنى نهجاً صادقا وشفافاً لكسب ثقة الناخبين الأميركيين قبل أسابيع قليلة من الانتخابات، بخاصة أن آخر استطلاعات الرأي التي أجرتها "وول ستريت جورنال" وشبكة "إن بي سي" أشارت إلى تقدم المرشح الديمقراطي جو بايدن على المستوى الوطني وحصوله على تأييد 53 في المئة من الأميركيين مقابل 39 في المئة أيدوا ترمب.