في الرابع عشر من مايو (أيار)، من عام 1948 أعلن ديفيد بن غوريون (1886-1973)، عند قيام الدولة اليهودية على "أرض إسرائيل"، بعد ألفي عام من الانتظار والديسبورا، وفي الرواية اليهودية، واستناداً إلى القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، الصادر في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى كيانات ثلاث: دولة عربية، بنسبة 42.3 % من فلسطين، ودولة يهودية، بنسبة 57.7% من مساحة فلسطين، وتبقى القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية. في أعقاب إعلان الدولة اليهودية، قامت الدول العربية، مصر والأردن والعراق وسوريا والسعودية ولبنان، بشن هجوم على "دويلة العصابات الصهيونية"، كان الغرض منه تحرير فلسطين، ولكنها هزمت في النهاية، لتتجاوز إسرائيل حصتها من أراضي فلسطين التي منحها إياها القرار 181، وتصبح 78% من الأراضي الفلسطينية.
أسباب كثيرة ذُكرت للهزيمة العربية عام 1948، منها حكاية الأسلحة الفاسدة التي روَّج لها النظام العسكري الجديد في مصر بعد نجاح إنقلابه عام 1952، ومنها القول بالخيانة، خيانة بعض القيادات العربية، وعلى رأسها الملك عبدالله الأول ملك الأردن (1882-1951)، ولكن كل ذلك مجرد مبررات للهزيمة التي في ظني، وليس أسبابا لها، فلولا الملك عبدالله بن الحسين، فربما احتُلت كل القدس وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية عام 1948. السبب الحقيقي للهزيمة، وفي ظني أيضاً، هو الضعف العربي والإستعداد الإسرائيلي. فمنذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، برئاسة تيودور هرتزل (1860- 1904)، صاحب كتب "الدولة اليهودية"، كان اليهود المتشبعون بالفكرة الصهيونية يفدون زرافات ووحداناً إلى فلسطين، ومن ضمنهم كبار رجالات الصهيونية، مثل المنظر الصهيوني زئيف حابو تينسكي (1880- 1940) وديفيد بن غوريون، وحاييم وايزمان (1874- 1952)، ومناجم بيغن (1913-1992)، وجولدا مائير (1898-1978)، وغيرهم، وكانوا يعملون بجهد في كل مجال من أجل تأسيس الدولة اليهودية. وحين اندلعت الحرب عام 1948، كان اليهود قد أصبحوا على أتم استعداد لخوض غمارها، فيما كانت الجيوش العربية تعتقد أن الأمر ليس أكثر من قتال لبضعة أيام يُقضى فيه على الميليشيات العسكرية الصهيونية، وتعود فلسطين عربية بالكامل.
وفي اتفاقيات الهدنة في جزيرة رودس عام 1948، تم الإتفاق على خطوط الهدنة بين العرب وإسرائيل، وقد شكلت هذه الخطوط حدود إسرائيل إلى ما قبل الخامس من يونيو(حزيران) ، وهي الحدود الإسرائيلية المعترف بها عربياً بعد هزيمة 1967، وذلك من الناحية الفعلية، وإن لم يكن الإعتراف قانونياً. فكل المطالب العربية والفلسطينية بعد الهزيمة هو العودة إلى حدود الرابع من يونيو(حزيران) 1967، حتى يتم الإعتراف القانوني بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، وقد أكدت مبادرة السلام العربية، التي أُعلنت في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، على ذلك.
في العام 1967، استولت إسرائيل على بقية فلسطين وهضبة الجولان السورية، وفي عام 1980، أعلنت أن القدس، كل القدس، مدينة إسرائيلية وعاصمة لدولة إسرائيل، ثم ألحقت الجولان بإسرائيل عام 1981، أي ما يقارب ثلاثة عقود من الزمان، بمثل ما احتلت وألحقت الأراضي غير المخصصة لها في قرار التقسيم بعد حرب 1948.
بمعنى أن القدس والجولان كانتا ضمن السيادة الإسرائيلية منذ الثمانينيات من القرن الماضي واقعاً. صحيح أن قرارات الأمم المتحدة ومعظم دول العالم لا تعترف بهذا الواقع، ولكن منذ متى كانت قرارات الأمم المتحدة محترمة؟ كما أن العالم ودوله يتعامل مع إسرائيل وفق معطيات الواقع وليس على أساس الإعتراف من عدمه، أو قرارات الأمم المتحدة. بطبيعة الحال هذا لا يعنى الرضا عن واقع الحال، ولكن الرضا أو عدمه ليس عاملاً من عوامل القوة في السياسة الدولية ، حتى وإن مورست هذه القوة في إطار مظلة قانونية. فعدم الرضا العربي على إلحاق إمارة الأهواز العربية بإيران، أو لواء الأسكندرون السوري بتركيا، لم يمنع هذا الإلحاق، وما زال العرب يتعاملون مع إيران وتركيا رغم ذلك.
وحين الحديث عن القوة، فإن المعنى لا ينصرف إلى القوة العسكرية فقط، كما قد يتبادر إلى الذهن، والذهن العربي العام خاصة، الذي شوهته أنظمة العسكر وعنتريات الإسلام الحزبي، بل أن عناصر هذه القوة كثيرة، منها ما هو اقتصادي، كتنوع مصادر الدخل القومي ومتانته ، ومنها ما هو ثقافي سياسي، من ناحية الإعتراف بالتعددية الثقافية في المجتمع، وقدرة النظام السياسي على تقنين(من قانون وقنوات) هذه التعددية في إطار المواطنة الواحدة، وأهم من ذلك كله هو القدرة على الإلهام في صنع الحضارة، وصناعة المعرفة في وقتنا الحاضر، هي أهم عنصر من عناصر الإسهام في صنع الحضارة. ومن دون ان نخدع أنفسنا، يمكن القول إن إسرائيل تتفوق علينا في كل هذه المجالات، وليس المجال العسكري فقط. قد يرى البعض أن في قولنا هذا روح انهزامية او إستسلامية، تأثراً بأيديولوجيات الماضي القريب من إسلاموية وقوموية، ولكن القراءة الموضوعية لواقع الحال تقول إننا هُزمنا حضارياً من قبل إسرائيل، قبل أن نُهزم عسكرياً. الإعتراف بذلك هو بداية لنشوء وعي جديد يقوم على المنافسة مع الآخر، إسرائيل او غيرها، حضارياً، ويعتبر ذلك فإن الحالة العربية من سيء إلى أسوأ. وفي ظني أن هذا ما أدركته السعودية الجديدة وهي تتبنى رؤية 20- 30 ، فهي تحاول ان ترتقي سلم القوة في العالم، القوة بكافة عناصرها، وساعتها يمكن لها أن تتخذ مواقفها وفقاً لمعطيات موضوعية، وليس مجرد الرفض او الشجب أو التمسك بقوانين دولية لا تجد لها أرضاً في عالم الواقع الذي يغرق الا الأقوياء.
فحين اعترف الرئيس دونالد ترمب بالسيادة الإسرائيلية على القدس ثم الجولان، فإنه كان يعرف مع من يتعامل في هذا الشرق المأزوم. إنه لا يتعامل مع العراق الذي مزقته الطائفية، ولا مع سوريا التي مزقتها الميليشيات العسكرية المتقاتلة، بل يتعامل مع إسرائيل التي هي، رضينا أم لا، هي اليوم القوة الإقليمية الأبرز في منطقة الشرق الأوسط، فيشرعن لها ما تشاء لأنه يعلم تمام العلم أن المصالح الأميركية لن تتأثر بمثل هذه الشرعية، وبذلك تهضم إسرائيل القدس والجولان من دون أن يكون هنالك ما يقف في طريقها، وعلى رأي المثل المصري الشعبي: " اللي عنده كحل يتكحل" وغالبية بني يعرب ويشجب، لا كحل لديهم فيتكحلون اليوم، وأغلبهم لا يحاولون الحصول على الكحل، بقدر ما أنهم في قضاياهم الهامشية غارقون، فلماذا والحالة هذه لا تفرض سيادتها على الجولان وغير الجولان ربما، فكل الرياح، الإقليمية والأميركية، تهب في صالح سفنها... هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.