ما إن هدأت "الضجة" التي أثارتها تصريحات رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو حول "توسل" مرشحة المعارضة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سفيتلانا تيخانوفسكايا السماح لها بمغادرة بيلاروس، وإجهاشها بالبكاء تقديراً وعرفاناً للاستجابة، إلى طلبها "المال" وحصولها على 15 ألف دولار، ووعود بمساعدتها على تيسير إقامتها في ليتوانيا، حتى خرجت تيخانوفسكايا لتعلن من موقعها الجديد "كرئيسة" في المنفى غير معترف بها، إنذارها إلى لوكاشينكو بضرورة الرحيل، وأمهلته حتى 25 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي حداً أقصى، قائلة إن الجماهير ستخرج بعده إلى شوارع وميادين بيلاروس، في إضراب يشمل عموم البلاد، ووعدت بالإعداد لذلك خلال الأيام القليلة المقبلة. ووصفت تيخانوفسكايا "شروطها الثلاثة"، بأنها "أمر صادر عن الشعب، وإنذار قومي" يجب الامتثال لتنفيذه.
وبغض النظر عن "عدم حصافة" اختيار تاريخ اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية في 1917، موعداً للاضطرابات المرتقبة، تشير الشواهد إلى أن هذا "الإنذار" يتسم بقدر كبير من "السذاجة"، على ضوء ما شهدته وتشهده بيلاروس منذ التاسع من أغسطس (آب) الماضي، إذ يشير المراقبون إلى أن التظاهرات في بيلاروس لم تتوقف منذ ذلك الحين، وإن انحسرت أعدادها، وتراجع زخمها خلال ما يزيد عن الشهرين، اقتصرت فيها على أيام الآحاد من كل أسبوع. أما عن إضرابات عموم البلاد، فلم يستجب لدعوة مماثلة أعلنتها تيخانوفسكايا بعد رحيلها عن بيلاروس ووصولها المهجر في ليتوانيا، إلا القليل من عمال البلاد ممن سرعان ما عادوا إلى العمل، بعد عجزها عن تنفيذ وعدها بتوفير الأموال والتبرعات التي تكفي لإعاشتهم في حال وقف صرف رواتبهم، فضلاً عن تداركهم مغبة الاستجابة لمثل هذا التوجه الذي سيعود عليهم وعلى بيلاروس بكثير من المتاعب الاقتصادية.
أما الشرط الثالث الذي طرحته تيخانوفسكايا حول الإفراج عن المعتقلين السياسيين في سجون النظام، فذلك ما وعد لوكاشينكو بالنظر فيه خلال لقائه مع زعماء المعارضة في سجون "كي جي بي" (لجنة أمن الدولة)، وبينهم عدد من الذين لم يسمح بخوضهم انتخابات الرئاسة، وزوجها سيرغى تيخانوفسكي الذي ترشحت بدلاً منه للرئاسة. وكان لوكاشينكو خلص إلى قراره حول الإفراج عن أحدهم وتكليفه بإعداد قائمة بأسماء المقترح الإفراج عنهم، إضافة إلى إعلانه الحوار سبيلاً إلى "تفاهمات مستقبلية" مع المعارضة. أما عن رحيل لوكاشينكو فذلك ما لن يحدث، قولاً واحداً، قبل التوصل إلى مشروع للإصلاحات الدستورية، والاستفتاء على الدستور الجديد، والإعلان عن انتخابات مبكرة. وذلك ما وقر في قلوب الخاصة من حكام بيلاروس، ونفوس من يقف وراءهم في الداخل من مناصري النظام، وفي روسيا التي أعلن زعيمها فلاديمير بوتين أن بلاده تعترف بالنتائج الانتخابية وبشرعية لوكاشينكو، مؤكداً مختلف أشكال دعمه المالي والسياسي والأمني والإعلامي للنظام القائم.
ومع ذلك يمكن القول "إن غداً لناظره قريب، فلننتظر لنرى".
ومع ذلك أيضاً، فإن التظاهرات التي تتواصل منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات، يخبو أوارها يوماً بعد يوم، في وقت مواكب لاستعادة النظام ورئيسه توازنهما على وقع تزايد دعم "الشقيقة الكبرى" المجاورة روسيا، مالياً وسياسياً وإعلامياً. كما أنه وفي الوقت الذي تواصل فيه تيخانوفسكايا جولاتها في عدد من العواصم الأوروبية بحثاً عن مزيد من الدعم والتأييد، أعلنت وزارة الداخلية الروسية إدراج إسمها في قائمة المطلوبين في قضايا جنائية، بموجب الاتفاقات الخاصة الموقعة في 2009 بين بلدان "رابطة الكومنولث".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على أن الواقع يقول إن ما اتخذه ويتخذه لوكاشينكو من خطوات، يظل بعيداً عما تصبو اليه أوساط المعارضة في الداخل من تغييرات. وكان المصرفي الكبير وأحد أهم رموز المعارضة، فيكتور باباريكو، انتقد الظروف التي التقى فيها وزملاؤه لوكاشينكو وهم حبيسو سجونه من جانب، ورفض اعتبار ما جرى حواراً يمكن البناء عليه نظراً لغياب التكافؤ بين طرفي ذلك اللقاء من جانب آخر، فضلاً عن عدم تمثيل بقية ممثلي المجتمع المدني وغياب مشاركتهم في مثل ذلك اللقاء.
ولعل ذلك ما حاولت تيخانوفسكايا الاستفادة منه، بإيعاز من "مستشاريها" في الخارج، وانطلاقاً مما خرجت به من "محادثاتها" مع عدد من زعماء بلدان الاتحاد الأوروبي، ممن التقت بهم خلال الأسابيع القليلة الماضية، ومنهم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. وكان هؤلاء دعموا "وصاياهم" إلى تيخانوفسكايا بما اتخذوه على مستوى الاتحاد الأوروبي من عقوبات ضد رئيس بيلاروس لوكاشينكو، إضافة إلى ما ينسحب منها على روسيا، في محاولة لمساندة مسبقة لـ "إنذار تيخانوفسكايا"، الذي ثمة من يصفه بأنه "محاولة لتعويض غيابها عن الداخل"، وانفصالها وكل أعضاء ما يسمي بـ "مركز التنسيق" عملياً عن المعارضة الحقيقية في بيلاروس.
غير أن ذلك كله لا يعني غياب الاحتمالات، وضياع الأمل في التوصل إلى التغييرات المنشودة داخل بيلاروس. وثمة من يقول إن ذلك ليس بعيد المنال، وإن النجاح قد يتحقق استناداً إلى "رغبة مشتركة" تراود أوساط المعارضة في الداخل ممن يحلمون بأي دعم يمكن أن يسهم في تحقيق آمالهم في التغيير، وأعضاء "مركز التنسيق" في الخارج ممن يتلقون دعم وتعليمات "مجلس الأوصياء" من ممثلي بولندا وليتوانيا. وثمة من يقول إن ما يجري من محاولات من جانب تيخانوفسكايا وصحبها من أعضاء مجلس التنسيق في الخارج، من أجل التواصل مع قوى المعارضة الداخلية، يأتي في سياق البحث عن "منصة داخلية" يمكن الاتكاء عليها، أملاً في عودة قريبة إلى الوطن يمكن أن تسهم في التعجيل بإطاحة لوكاشينكو من منصبه، بحسب تصريحات مراقبين سياسيين داخل بيلاروس.
في هذا الصدد، نقل موقع "غازيتا. رو" عن الأستاذ في كلية الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية في موسكو أندريه سوزدالتسيف، تصريحاته حول أن الرئيس لوكاشينكو حقق نجاحاً لا بأس به على صعيد الحيلولة من دون تنامي تأثير معارضة الخارج، لاسيما من جانب تيخانوفسكايا، على أوساط المعارضة في الداخل. ولعل ما كشف عنه لوكاشينكو أخيراً في شأن استعطافها له وطلبها من وزير داخليته مساعدتها لمغادرة بيلاروس للانضمام إلى أبنائها، وما قدمه لها من معونة مالية "ضخمة" بمقاييس مرتبات الداخل، فضلاً عن سماحه لسيرغى تيخانوفسكي المعتقل في سجون النظام، بمكالمة هاتفية مع زوجته تيخانوفسكايا زعيمة المعارضة الموجودة في جمهورية ليتوانيا، أسفر على ما يبدو عن أمرين، فالأول إظهار الوجه الإنساني للوكاشينكو، وإبراز عدم تخلفه عن مساعدة غريمته للخروج من أزماتها الشخصية، أما الثاني فيتمثل في فضح ضعفها وسقوطها في شرك الاعتراف بصحة نتائج الانتخابات، ومناشدتها الجماهير التوقف عن التظاهرات. وذلك يأتي على طرفي نقيض مما سمحت تيخانوفسكايا لنفسها به من اتهامات تصف "كل من يتخلف عن المشاركة في الإضرابات والتظاهرات المرتقبة، بأنه سيكون مشاركاً في دعم إرهاب النظام".
على أن الأمور في بيلاروس لم تقتصر على احتمالات أن تظل المواجهة "ثنائية" بين المعارضة وقوى النظام. فقد نشرت "قناة تلغرام" أخباراً تناقلها كثير من المواقع الإلكترونية الروسية، ومنها موقع "دي أن آي"، تقول إن روسيا أجرت اتصالاتها السرية مع عدد من كبار ضباط وزارة الداخلية في بيلاروس، تعدهم فيها بأنها ستضمن لهم عدم ملاحقتهم في حال استخدامهم للقوة لدى تصديهم للمظاهرات المرتقبة. وقالت إن هذه الاتصالات "تجري من وراء ظهر لوكاشينكو"، الذي سيكون مدعواً لتحمل أية تبعات لأية مواجهات مع المتظاهرين. لكن الأخطر من ذلك هو ما كتبته "قناة تلغرام" حول تكليف الجانب الروسي لكبار ضباط وموظفي أجهزة الأمن في بيلاروس، بجمع المعلومات التي قد تطال "الذمة المالية" للوكاشينكو، وما قد يكون اكتنزه من أموال.
وقالت مصادر "القناة" إن ما يطرحه الجانب الروسي يتلخص أيضاً في مقايضة ما يحصل عليه كبار الضباط من معلومات حول لوكاشينكو، بما ستقدمه روسيا من ضمانات أمنية لهم، وذلك في إطار ما صاروا يتداولونه في الأوساط السياسية والإعلامية في موسكو من توقعات و"شائعات"، حول ضرورة العثور على "البدائل الموالية لروسيا"، التي يمكن أن تحل مكان لوكاشينكو في حال الاضطرار إلى التضحية به أو التخلي عنه.