رواية الكاتب الجزائريّ الفرنكوفوني ياسمينة خضرا "ليس لهافانا ربّ يحميها" صدرت عن دار نوفل (هاشيت أنطوان، 2019) لتُضاف إلى الروايات الأخرى التي تمّت ترجمتها له عن الفرنسيّة كمثل "سنونوات كابول" و"الصدمة" و"أشباح الجحيم" و"ما يدين به الليل للنهار" و"ليلة الريّس الأخيرة". وتنقل رواية خضرا قارئها هذه المرّة إلى كوبا، وبالتحديد إلى العاصمة هافانا حيث الفقر والحرمان والبطالة. وبينما يبدأ الكاتب نصّه بالحديث عن الحلم والتفاؤل، يتبيّن للقارئ أنّ هذه البداية إنّما هي فخّ لما سيتبع. فيفضح خضرا الانكسار النفسيّ والانهيار الاجتماعيّ ومآسي أخرى يعاني منها المجتمع الكوبيّ القائم على الوهم والسكر والرغبة في الهرب من الواقع.
قصّة حبّ وهميّة
يبدو بطل ياسمينة خضرا ومنذ الفصل الأوّل من الرواية إنسانًا حالمًا، منقطعًا عن الواقع، غارقًا في موسيقاه وأمجاد الماضي التي يهدهد أيّامه ولياليه على وقعها. فيتجلّى "دون فويغو" المغنّي المحترف زوجًا مهملاً وأبًا غير مسؤول وصديقًا ذاهلاً عن حقيقة مشاكل المحيطين به. حتّى في عمله، يبدو دون فويغو رجلاً لا يملك أدنى فكرة عمّا يدور حوله. فبينما يعلم الجميع أنّ الملهى الذي يعمل فيه سيُغلق، بينما تحضّر الموظّفون جميعهم لمغادرة عملهم عبر إيجادهم وظائف أخرى، يبدو البطل آخر مَن يعلم بإغلاق مكان عمله ومصدر رزقه. هو فعلاً لا يكتشف أنّ الملهى سيغلق إلاّ بعد إغلاقه.
تبدأ الرواية بتحوّل البطل المسنّ نسبيًّا (59 سنة) إلى عاطل من العمل. تختلط الأوراق كلّها، من وحدة إلى فراغ فبطالة فملل فحزن فشعور بالفشل والمرارة والعجز، ليتحوّل البطل إلى كائن هشٍّ عاطفيًّا يرغب في الهرب من واقعه بأيّة طريقة ممكنة.
تتراكم المآسي على كاهل البطل لترميه مباشرة بين أنياب الوحش الأكثر خطورة: الحبّ. تظهر فجأة أمام دون فويغو فتاة شابّة، رائعة الجمال، أخّاذة بسحرها وشبابها وهشاشتها. فتاة ينمّ كلّ ما فيها عن الكذب والاحتيال والانتهازيّة. تظهر الفتاة "ماينسي" فقيرة بلا عائلة ولا أصدقاء ولا معيل لتكون حجّة دون فويغو للهرب من واقعه. فيُغرم الرجل الستّينيّ بالفتاة العشرينيّة ويروح يلبّي لها طلباتها كلّها، حتّى أنّه يتخلّى عن عائلته وأصدقائه من أجلها. وعلى الرغم من تحذيرات الجميع، يغرق دون فويغو في دوّامة قاتلة من الهرب من الذات والواقع إلى براثن الوهم الذي لن يلبث أن يغدر ويخون. وعندما تنتهي القصّة ويبقى الصمت والحزن، يعترف دون فويغو بهزيمته، بل أكثر، يعترف بأنّه هرب إلى الوهم عن وعي: "وماذا يبقى لي إن نسيتها؟" (ص 232).
قصّة مجتمع مسجون
إن ظنّ القارئ أنّ قصّة ياسمينة خضرا قائمة على قصّة حبّ معلّقة بالهواء والوهم والشباب الهارب فقط، فهو مخطئ. تتخطّى هذه الرواية مأساة الحبّ لتنقل بشكل سلس هادئ وبتقنيّة مبطّنة مشاكل مجتمع بأسره. فينقل الراوي عبر شخصيّاته واختلاف أعمارهم وظروف عيشهم مآسي المجتمع الكوبيّ كلّه. فيكتشف القارئ البطالة والفقر والسكر وانعدام الأمل وغياب الاحتمالات. الشبّان يهربون عبر البحر إلى موت محتّم، والفتيات الشابّات يهربن إلى زواج سريع فراراً من جوع وفقر، والمسنّون يهربون من واقعهم المرير عبر كؤوس لا تنتهي. جميع شخصيّات الرواية ناقصون، من البطل إلى أصغر الشخصيّات. الكلب نفسه في هذه الرواية مصاب بالسرطان ومحكوم عليه بالموت. شأنه في ذلك شأن أفراد المجتمع جميعهم.
وعدا عن المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعاني منها الكوبيّون، عدا عن الفقر المدقع وغياب فرص العلم والعمل، يظهر تضييق الدولة الواقع السياسيّ واضحًا مفتضحًا عبر وجود عناصر الشرطة في كلّ مكان. عناصر يراقبون وينقلون المعلومات ويتدخّلون في الصغيرة والكبيرة. جُمل كثيرة تنثرها الشخصيّات في مواضع متفرّقة وبشكل موارب لتنقل هذا الواقع المدمِّر، فيقول مثلاً صاحب الملهى الذي بيع إلى سيّدة أميركيّة ثريّة من ميامي: "نحن جميعنا ملك الدولة يا خوان. بيوتنا، مساراتنا المهنيّة، مشاغلنا وشواغلنا، كلابنا ونساؤنا ومومساتنا، وحتّى الحبال التي سنُشنق بها ذات يوم. عندما تقرّر الدولة الاستغناء عنّا، فذلك حقّ لها". (ص 21).
يفضح السرد مجتمعًا مكبّلاً بطبقة سياسيّة حاكمة فاسدة، بنظام مخيف متسلّط يعمل على تفقير الشعب وسلبه أدنى حقوقه. الجميع خاضع. المدير كما الفنّان، الشرطيّ كما المسؤول. فيقول دون فويغو ببؤس وحسرة وبواقعيّة حارقة "في كوبا لا يمكن لأحد أن يقرّر مصيره بنفسه". (ص 35).
بالإضافة إلى غياب الحبّ وتقهقر الحرّيّة وانعدام الآفاق أو حتّى سبل الهرب، تظهر كوبا جزيرة غاب عنها القدر نفسه. فالنفي القاطع الذي يبدأ من العنوان "ليس لهافانا ربّ يحميها" يُكمل خيطًا متماسكًا صلبًا يشكّل قاعدة السرد ومأزقه. وتتكرّر هذه العبارة مرّات متعدّدة في النصّ وعلى ألسنة شخصيّات متعدّدة. وكأنّ الشرطة تحوّلت إلى سلطة عليا، قوّة مسيطرة يشكو إليها الناس همومهم ومشاكلهم.
وعلى الرغم من أجواء الرقص والموسيقى والخمرة يغيب الدين عن السرد. ويظهر هذا الغياب بوضوح وقسوة وكأنّ كوبا محكومة بالبؤس والحرمان على الصعد كلّها. لا دولة تحكم، ولا نظام يدافع. فيقول دون فويغو في حزن واضح وبجملة محفوفة بالرمزيّة: "استدرتُ نحو تمثال المسيح الساهر، من أعلى شامخته، على باهيا، وتساءلتُ لماذا يوليني ظهره". (ص 100).
"ليس لهافانا ربّ يحميها" رواية ثريّة متماسكة تروي مأساة الأحلام الضائعة والشباب المولّي والدولة القاسية. رواية البؤس والفقر والحرمان في جزيرة كوبا التي تُحتضر على وقع موسيقى الرومبا والتانغو. وعلى الرغم من أنّ القارئ يتمكّن من التجوّل في مخيّلته في أزقّة هافانا وشوارعها بفضل سلاسة السرد واللغة الجميلة الهادئة التي ينقل بها المترجم حسين قبيسي النصّ عن الفرنسيّة، إنّما لا يمكن غضّ الطرف عن غياب التوهّج في النصّ. فلا شغف فعليًّا ولا احتراق. حتّى عندما يخسر البطل كلّ شيء، لا يشعر القارئ بحرقة بطله وبموته الداخليّ. وكأنّ ياسمينة خضرا لم يتمكّن من الاقتراب من شخصيّته تمامًا ليحترق بالنار التي تحترق بها. لقد وصلت فكرة الانهيار والاضمحلال والانكسار والسقوط إنّما لم تصل بدفق من المشاعر والاختناق كما كان من المفترض.
وليغلق ياسمينة خضرا دوّامة البؤس واليأس التي يبدؤها منذ العنوان، يُنهي الكاتب نصّه باعتراف يقوم به دون فويغو نفسه، اعتراف يشكّل حكم الإعدام الذي سينزل على الشخصيّات كلّها. حكمٌ بواقع مرير قاسٍ، أبديّة من الفراغ والسقوط والانهزام: "كأمنية تتفسّخ وتتبخّر خجلاً من تفاهتها. يستعيد الواقع حقوقه على الدوام. لا يمكن لأيّ وهم من الأوهام أن يحجبه الزمن طويلاً". (ص 268).