يسعى المخرج سامر عمران إلى التقاط اللحظة السورية الراهنة، عبر ترجمته وإعداده نص "الأرامل" للكاتب البولوني سلافومير مروجيك (1930 - 2013)، مستلهماً أبرز النصوص التي وضعها عام 1992، بعد إصابته بمرض السرطان. وليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها المخرج السوري إلى نصوص مروجيك؛ إذ كان قد حقق على التوالي عدة عروض مقتبسة عن نصوصه التي ترجمها بنفسه، ولعل أبرزها كان "الحدث السعيد" عام 2006، و"المهاجران" عام 2008، وقد حقق هذا العرض نجاحاً كبيراً بعد عرضه ثلاث سنوات متتالية في ملجأ حربي في دمشق، ثم صور "المهاجران" بعدها للسينما بالاسم نفسه، وحاز عديداً من الجوائز في مهرجانات دولية.
في "الأرامل" يتابع عمران مغامرة متواصلة مع تجاربه السابقة، متكئاً على مسرح اللا معقول، متجاوزاً في الوقت ذاته بنية المسرح الأرسطي. فلا التزام بالوحدات الثلاث المعروفة: الزمان والمكان والموضوع، ولا تقيد بشخصيات ذات سلوك واضح ومنطقي. فالشخصيات في عرض "الأرامل" عبارة عن أنماط وإشارات يحدد سماتها وسلوكها سياق الأحداث. الأرملتان (مها الشيخ ورغد ديب) تلتقيان في مقهى، وترويان وقائع متشابهة لموت زوجيهما، وتكتشفان - عن طريق المصادفة - أن زوج الأولى هو ذاته عشيق الثانية، وبالعكس، وأن المنيَّة وافت الرجلين ليس بسبب سوء التغذية، أو نزلة برد كما كانتا تظنان، وإنما إثر مبارزة دامية أودت بحياة الزوجين صراعاً على امرأة ثالثة!
في المشهد التالي تحضر العشيقة (لين أنجام) إلى المقهى مُقنَّعة بمنديل أسود يحجب وجهها، مكتفيةً بالصمت وبعض الإيماءات الخافتة من يديها، لنشاهد مصيراً مشابهاً لرجلين آخرين يقعان في غرامها. فبعد دعوة الأرملة الثالثة الرجلين لمُراقصتها، يندلع العراك بين الغريمين، لتبدأ المبارزة بالشيش بينهما، فيموت المثقف المتحذلق (عقيل سليمان) إثر صدمة الخوف التي توقف قلبه، بينما يموت رجل العضلات (خالد عضيمة) متزحلقاً بقشرة موز رماها النادل (الليث الكحيل)!
كوميديا تراجيدية
أحداث بدت في قالبها الظاهري مرحة للغاية، لكنها في العمق حملت باطناً مأساوياً مركباً، وهجاءً مريراً للبشر ومصائرهم المتشابهة. يمكن ملاحظة ذلك عبر شخصية المخرج لؤي النوري، الذي جاء هنا كذريعة فنية للتعليق على الحدث، مثله مثل شخصية النادل الذي كان يتوجه أحياناً بالتحدث إلى الجمهور في صيغة أقرب إلى الراوي. فالعرض في الصيغة الجديدة أتى على هيئة بروفة لفرقة مسرحية، تداخل فيها العبثي بالملحمي، واليومي بالفني. آلية سمحت بأخذ الممثل مسافةً بين الدور والشخصية. اللعبة أدارها المخرج عمران ببراعة واضحة، مبتعداً عن مسرح الصراخ والتقافز على الخشبة.
أتاح الإعداد الجديد لنص مروجيك التخلص نهائياً من الاندماج العاطفي مع الشخصية نحو الدخول في العرض، والخروج منه دون الانقطاع عن اللعب، ومن ثم المضي إلى مزج زمن البروفة مع زمن العرض (المسرح داخل المسرح) على طريقة الإيطالي لويجي بيراندلو (1867 - 1936)، ما أضاف زمناً ثالثاً على الزمنين السابقين، هو زمن المتفرج. زمن الجمهور، الممنوع هو الآخر من الاندماج العاطفي مع ما يحدث، حمله على التفكير بما يشاهده، وبمآلات شخوص العرض الكاريكاتورية، وليصبح هذا المتفرج جزءاً جوهرياً من العملية المسرحية، جزءاً معنياً بالتورية التي ساقها عمران عن حاجة أي مجتمع مُعافى إلى مجانين. الحق بالجنون كواجب صحي - كما يورد "الأرامل" - وإلا ما فائدة كل هذه الحشود من العقلاء؟
سؤال استنكاري ساقه الفنان سامر عمران على لسان شخصياته، موحياً بالتخلي عن كل ما يجعل الفرد منضوياً في آليات تفكير جماعية، حيث الجنون خروج عن طاعة الحزب والعائلة والتقاليد والعادات اليومية، وحيث التفكير الفردي انتحار عاجل، وانفضاض عن هدير الحشود وجلبتها.
من هنا اعتمد "الأرامل" على ما يسمى أسلوب "الغروتيسك"، أو السخرية التضخيمية السوداء ذات الفحوى المأساوية العنيفة. معادلة مسرحية لطالما اشتهر بها مسرح مروجيك، والذي جاء كرد فعل على أقطاب الأدبين الرومانسي والواقعي في بولونيا فترة بين الحربين. فأبطال مروجيك ملاحقون ومغتربون، وغير قادرين على الاندماج مع المحيط، وهم بهذا المعنى ليسوا تراجيديين أو كوميديين تماماً، وإنما رموز لمسرح تجريبي مضاد للصيغ المتداولة والمألوفة.
بعد رمزي
ولهذا يبدو أن المستوى الرمزي حاسم في عرض "الأرامل"، لكونه تجربة لم تأخذ بشروط المسرح الواقعي، كما أنها لا تنتمي بشكل كلي إلى مسرح العبث لدى كل من صموئيل بيكيت، ويوجين يونسكو، لا سيما في توظيف الشخصية لصالح الترميز، والأجواء الغرائبية المعتمدة على الإيماء والقناع، تماماً كما كان الحال عند الأرملة الثالثة. الشخصية التي تعيش حياة داخلية خلف قناعها الأسود، وسلوكها الذي يكشف في نهاية العرض عن أنها ليست سوى شبح الموت القادم.
إنه تمويه محكوم بأنوثة تخفي خلفها وجهاً مشوهاً، تقصد المخرج ألا يميط اللثام عنه حتى الخاتمة، موظفاً رقصة النهاية على موسيقى فالس المؤلف الأرمني يوسف خاتشودوريان، وليتمكن عمران من المزج بينها وبين أصوات من النشاز المقصود، وذلك بغية هدم أي مشاعر يمكن أن تتسرب من الصالة نحو مشهد القتل على الخشبة.
نستنتج من كل ما تقدم أن عرض "الأرامل" لم يستجدِ تعاطفاً، بقدر ما حاول استثارة التفكير لدى المتفرج، واجتراح نسق جديد من التلقي الذهني المفتوح على قراءات متعددة. يمكننا تمييز ذلك من الأجواء الغرائبية التي نجح العرض في توليفها، معتمداً على بساطة الديكور (ثلاث طاولات وثلاثة كراسي) بين يمين الخشبة ويسارها وعمقها، جنباً إلى جنب مع إضاءة غزوان الإبراهيم، والتي عملت هي الأخرى على تكثيف درجة حرارة لونية متصاعدة وحيادية، تدرجت من الألوان الباردة إلى الحارة، وواكبت باعتدال وتوازن الحاجات النفسية للشخصيات، والصراع الذي انجرفت نحوه.
هكذا جاء عرض "الأرامل" الذي أنتجته (كلية فنون الأداء - جامعة المنارة) امتحاناً استثنائياً لممثلين على عتبة الاحتراف، ومشروعاً لفرق مسرحية مستقلة في مدينة اللاذقية.