تعددت الدساتير والحاكم واحد: الجيش. وتنوعت الوجوه العسكرية والمدنية في واجهة السلطة والشرعية ثابتة، بالتالي جبهة التحرير الوطني والجيش الشعبي الجزائري. وليس الاستفتاء على الدستور الجديد الذي أعلنت نتائجه اليوم وكان قد وعد به الرئيس عبد المجيد تبون سوى نقلة شكلية ضمن المراوحة في المكان. فلا هو يحقق ما طالبت به أرقى ثورة شعبية سلمية صارت في عامها الثاني من دون نقطة دم. ولا إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة في ظل الثورة الشعبية كان من أجل مطالب الثوار بمقدار ما عجّل فيه خوف قائد الجيش الجنرال أحمد قايد صالح من إقالته على يد ما سمّاها "العصابة" المتحكمة باسم بوتفليقة المقعد. والمعادلة في ترئيس تبون قبل رحيل صالح لا تزال في أيام القائد الحالي للجيش الجنرال سعيد شنقريحة: قليل من الإصلاح للحؤول دون الكثير منه.
رمز الثورة الجزائرية وملكة الحراك الشعبي جميلة بو حيرد تقول: "تبون واجهة مدنية للعسكر". وتبون يعلن: "نحن نبني موديلاً جديداً وسياسة جديدة واقتصاداً جديداً، لكي نكون دخلنا التاريخ". شعار الثوار نصف "العصابة" في السجون والنصف الآخر مع تبون. ومختصر مطالب الثوار "جمهورية المواطنين والمواطنات، ودولة الحرية والديمقراطية، عقد سياسي واجتماعي جديد". أقل ما يراه محسن بلعباس هو "نحن نتحرك بسرعة إلى الوراء". وأبسط ما يقوله مولود حمروش هو إن "سلطة تنفيذية مهيمنة باسم الدولة من دون فاعلية ورقابة هي أقصر الطرق إلى التطرف والاضطراب". كلما تحدث تبون عن "مؤامرة" لإظهار الجزائر عاجزة عن حل مشكلاتها، يردّ عليه المعارضون بأن "نظرية المؤامرة لا يمكن أن تبرر كمّ الأفواه وسجن المناضلين، لأن القمع أخطر من أي مؤامرة".
الواقع أن المشكلة في الجزائر أعمق من ذلك. هي مشكلة تجميد الزمان والمفاهيم والشرعية عند ثورة التحرير من الاستعمار الفرنسي قبل 66 عاماً. أحمد بن بلة حكم باسم تلك الشرعية من خلال جبهة التحرير الوطني. العقيد هواري بومدين قام بانقلاب على بن بلة عام 1965 وحكم باسم الجيش الوطني الشعبي حتى وفاته عام 1978. الجنرال الشاذلي بن جديد الذي سمّاه الجيش رئيساً بعد بومدين عدّل مادة في الدستور للانتقال من الأحادية الحزبية إلى التعددية، فدفع الثمن حين نجحت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الانتخابات بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج، بحيث ألغى الجنرال خالد نزار الانتخابات. واستمرت الوجوه في التبدل حتى جاء بوتفليقة ثم تبون. واللعبة مستمرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هذه اللعبة نقلت الجزائر من موقع مهم في العالم العربي ودول العالم الثالث إلى موقع هامشي. ومن اقتصاد اشتراكي لم ينجح تماماً إلى اقتصاد ريعي سمح بأكبر قدر من الفساد والإثراء على حساب الشعب. وإذا كانت تجارب الانتقال من الشمولية إلى التعددية شهدت مصاعب وسلبيات إلى جانب الإيجابيات، فإن الانتقال في الجزائر بقي شكلياً لأنه ممسوك من الجيش. وإذا كانت الجزائر تخطت مرحلة الصدام الدامي بين الجيش والتنظيمات المتشددة باسم الإسلام السياسي وسمّيت "العشرة السوداء" قد انتهت، فإن الاستقرار لم يتحقق تماماً.
ذلك أن من المستحيل الحفاظ على ثبات السلطة حين يتغير المجتمع ويتحرك بقيادة جيل جديد لا يعرف الاستعمار ولا الثورة. جيل يريد أن يعيش في عصر المعرفة وثورة التكنولوجيا، لا في عصر تجميد الزمن. جيل يدرك أن المسألة في العالم العربي ليست صراع الهويات، وهي متعددة جداً بين عربية وأمازيغية وكردية وأفريقية ودينية وسواها. المسألة هي معركة الحداثة والتنمية الاقتصادية والانفتاح الثقافي والسياسي والديمقراطية في دولة مدنية. وما عادت مسافة الهرب إلى الأمام طويلة. ولا يمكن الاستمرار في إجراء انتخابات مدارة يقال إن ثمن المقعد النيابي الذي يطلبه النافذون من المرشحين فيها هو 600 ألف دولار.
تتغير الدساتير من دون أن يتبدل سلوك السلطة. فما الذي يتغير في نظام سلطوي حين يصبح الوزير الأول رئيساً للوزراء بحسب الدستور الجديد؟ وهل الدساتير هي التي تنظم الحكم في العالم العربي؟
يقول المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم إن "التاريخ مواد خام للقوميين والإثنيين والأصوليين والأيديولوجيين، والخشخاش مادة خام لمدمني الهيرويين". فإلى متى يمكن إبقاء الجزائر أسيرة التاريخ؟