بعيداً من السجادة الحمراء والتعليقات على فساتين الفنانات، عرضت الدورة الرابعة من مهرجان الجونة تشكيلة متنوعة من الأفلام الجديدة، التي جاءت بها من الموعد السينمائي الوحيد الذي انعقد هذا العام بعد تفشي وباء كورونا، والمقصود به موسترا البندقية. عشرات الأفلام كان لنا نصيب مشاهدتها على الشاشة الكبيرة، بعد أشهر من العزلة في البيوت والاكتفاء بالمشاهدة المنزلية. ويمكن التأكيد أن هذه الطبعة من الجونة كانت بمنزلة طبعة العودة إلى الحياة من خلال العودة إلى السينما، عبر سلك درب صالاتها التي بتنا نفتقدها. في الآتي، ثلاثة أفلام لفتت الأنظار، بعضها بقي خارج حسابات لجنة التحكيم برئاسة المخرج البريطاني بيتر ويبر.
"صبي الحوت"
فيليب يورييف مخرج روسي سبق أن برز عمله القصير "أغنية السمكة الميكانيكية" في مهرجان ساندانس قبل سبع سنوات. كان الفيلم عن حكاية رجل يقرر أن يقوم برحلة طويلة لحضور عرس ابنته، على رغم انفصاله عن أمها قبل سنوات بعيدة. مع "صبي الحوت"، يقدم يورييف باكورته الروائية الطويلة، وقد فاز عنه بالجائزة الكبرى لقسم "أيام فينيسيا" في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي. ما يقترحه هنا هو فيلم في منتهى الغرابة، تحدث فصوله في منطقة لورينو الروسية، وهذا على الأرجح أول ظهور لهذا المكان على الشاشة. يحتاح المشاهد إلى كثير من الصبر كي يصل إلى الخاتمة التي تمنح فجأةً قيمة غير متوقعة للفيلم. البطل هو شاب اسمه ليشكا، يعيش ويعمل في الجزيرة المعزولة التي تقع على مسافة غير بعيدة من ألاسكا وأميركا. يكسب ليشكا قوته من صيد السمك كمعظم الذين يعيشون في البلدة، لكن ما يميزه عن الآخرين، هو أنه بين الحين والآخر يجلس أمام الكمبيوتر، ويتحدث مع فتاة من فتيات الإنترنت اللواتي يقدمن خدمات جنسية افتراضية. الإنترنت دخل الجزيرة حديثاً، لذا فهو صيحة تلهي الشباب المكبوت الذي يحلم بأميركا، وليشكا منهم. لكن الأخير يذهب أبعد من البقية، فيحاول التواصل مع الفتاة الغاوية خارج الحياة الافتراضية، بعدما يقع في غرامها. فجأةً، نراه يحاول بلوغ أميركا، هذه الأرض القريبة جغرافياً والبعيدة ثقافياً.
لا توجد محاولة في الفيلم لتقديم رؤية أنتروبولوجية تغوص في دراسة الشعب المقيم على هذه الجزيرة وعاداته وتقاليده. كل شيء يدور حول مزاج شخصية الصبي الذي يصبح من الواضح بالنسبة إلى المشاهد أنه ما عاد يميز بين الواقع الذي يعيشه والخيال الذي يتوق إليه. نظرته المملوءة بالبراءة تصبح النظرة التي يرى بها المشاهد الأحداث. يقترح يورييف فيلماً عن شاب يطمح إلى موطئ قدم في العالم الحزين الذي يعيش فيه، محاولاً الهرب إلى حيث الجنة التي "نبتت" في مخيلته.
"لن يسقط الثلج مجدداً"
فيلم آخر جاء به مهرجان الجونة من البندقية، ونال الإعجاب في المهرجانين، ورشحته بلاد المنشأ بولندا، ليمثلها في جوائز الـ"أوسكار" 2021. هذا أحد أكثر النصوص السينمائية غرابةً في هذا العام الفقير سينمائياً، لكن الملم بسيرة المخرجة البولندية مالغورزاتا زوموفكسا لا يفاجئه جديدها. هي صاحبة خيارات جمالية وسردية، فما بالكم إذا تعاونت في الإخراج هذه المرة مع مدير تصويرها وكاتب سيناريو بعض أفلامها، وأقصد به ميشال انغلرت. في السنوات الأخيرة، وفي إطار زمني قياسي، رأينا زوموفسكا وهي تقطع شوطاً كبيراً في صناعة دهشة بألوان سينمائية فاقعة.
الفيلم يعرفنا على شخص غريب الأطوار يأتي من “المجهول”. إنه جينيا (أليك أوتغوف)، صاحب طلة بهية يشبه إلى حد ما الشخصية الرئيسة في “تيوريما” لبازوليني. نراه في بداية الفيلم يعبر الحدود الأوكرانية ليحط في بلدة واقعة في ضاحية العاصمة وارسو، حاملاً طاولة تدليك تحت ذراعه. يتبين أنه يمتلك موهبة شفاء الأوجاع. جينيا كاريزماتي جداً، يثير الإعجاب بسهولة، يتعلق المتفرج به مشهداً بعد مشهد، قبل أن يقع الفيلم بأكمله تحت سحره، حد أن يصبح محركه. سيتنقل من بيت إلى بيت، داخل مجمع سكني كل قاطنيه من الطبقة الميسورة، أفراده يتشابهون رغم اختلاف همومهم ومشاكلهم التي سيلتقطها الرجل الساحر بحماسة قل نظيرها.
وبفضل أسلوبه الذي هو مزيج من القسوة والرقة، يصبح صديقنا المدلك النجم الذي يحتاج إليه الكل، فيغدو المصلح الاجتماعي الذي يأتي بالحلول السحرية لناس في حالة من اليأس الشديد. والأهم أنه يمنحهم السعادة، وهي أكثر ما ينقصهم. ملامح حياتهم ستتبدل، وهم قابعون داخل جدران تمنع عنهم أصداء عالم بعيد. بنمط سينمائي تبرع فيه، صاغت المخرجة نصاً زاخراً بالتفاصيل يروي شيئاً عن السلطة والتسامح والأمل.
"أدغال تراجيدية"
ثالث فيلم جاءت به إدارة الجونة من البندقية. العمل يحمل توقيع يوليني أولايزولا، مخرجة مكسيكية ثلاثينية كان فيلمها الأول “شكسبير وحميميات فيكتور هوغو" (وثائقي) فاز بأكثر من 30 جائزة دولية، من بينها واحدة في سان سيباستيان. "أدغال تراجيدية" هو تجربتها الإخراجية الخامسة، فكان عرضه الأول في مهرجان البندقية (قسم "أوريزونتي"). مديرة التصوير الكولومبية صوفيا أوجيوني تولت إضاءة الفيلم في ظروف تصوير معقدة جرى في البرية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نحن حيال فيلم حسي تجري فصوله في المنطقة الحدودية الواقعة بين المكسيك وهندوراس البريطانية (بليز حالياً). الغابة الاستوائية المطيرة هي مسرح الأحداث. بإيقاع متمهل، وتشكيل بصري فيه كثير من العناية، وشخصيات تتسم بالقسوة، وحكاية تنطوي على حركة ومغامرات وتشويق، نمضي إلى فيلم عميق، روحاني، متفرد في رؤيته، ويبقى لفترة ماثلاً في وجدان المشاهد بعد خروجه من الصالة. تحملنا أولايزولا إلى أعماق الطبيعة، حيث الكائنات النائمة في تفاصيلها، والأرواح المعششة في حضنها، والأشجار التي تنتظر من يستخرج منها ما تخفيه كسر من أسرار الوجود. وهو الشيء (السر) الذي يزخر به الفيلم، بالإضافة إلى الغموض ورائحة الموت التي يعبق بها المكان.
تجري الأحداث في العشرينيات، علماً أنه من الصعب ملاحظة هذا التفصيل لولا الحكاية التي تعود بنا إلى حقبة كولونيالية تتمحور على شخصية فتاة بليزية سمراء تُدعى أغنيس (إنديرا أندروين في حضور أكثر من لافت)، نتعقب عملية هربها وشقيقتها من مالك أرض إنكليزي ترفض أن تتزوجه. إثر هذا الرفض، تنطلق مطاردة ستلقي بأغنيس في حضن مجموعة من العمال المكسيكيين يستخرجون الصمغ من الشجر. العلاقة معهم إشكالية وستستمر على هذا المنوال، ليغدو كل فرد من هؤلاء منقذاً لها و"سجانها" في الوقت عينه. يعتقد هؤلاء ان أغنيس من شياطين المايا، جمالها سيقودهم إلى حتفهم.
الفيلم مشبع بلحظات صوفية ويأخذ الاتجاه الذي ما كان من الممكن ان يأخذه لولا انشغال المخرجة بإعطاء الحكاية أبعاداً فلسفية من وحي أساطير المايا. أما الغابة فهي الشخصية الرئيسة التي لا تترك أي انتهاك يمارس عليها، من دون أن تعود وتثأر. إنها الأم التي لها من الرأفة والقسوة ما يكفيها لصنع المعجزات.