سلطت الصحافة السويسرية الضوء في الآونة الأخيرة على قصة مجهولة للكاتب المسرحي والقاص فريدريش دورنمات (1921 – 1990)، وهي قصة لم يضمها أي من كتب دورنمات الكثيرة حتى الآن. القصة بعنوان "الوباء الفيروسي في جنوب أفريقيا"، وتثير لدى قراءتها تشابهات وتوازيات عديدة مع حاضرنا.
نُشرت القصة لأول مرة في صحيفة "تاغيس-أنتسايغر" السويسرية في مارس (آذار) عام 1994، بعد نحو ثلاثة أعوام من وفاة فريدريش دورنمات في الرابع عشر من ديسمبر (كانون الأول ) 1990. أما تاريخ كتابتها فيعود إلى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989، أي في العام الذي بدأ يشهد نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. حملت القصة في البداية عنوان "مناهضة الفصل العنصري"، أما الملف الذي ضم القصة فيحمل عنوان "أفريقيا". وفي النهاية استقر الكاتب على العنوان الحالي لهذه القصة الرمزية التي تبشر بنهاية نظام الفصل العنصري، وتدعو إلى المساواة بين البشر. غير أن قراءة "الوباء الفيروسي" الآن، يجعلها قصة آنية بامتياز، وكأنها تصف أيام "كورونا"، أو ما يتعرض له السود في أميركا مثلاً، من عنف وتمييز. وأظن أن رمزية القصة تذهب إلى أبعد من ذلك.
تبدأ القصة عندما يستيقظ رئيس حكومة جنوب أفريقيا ذات صباح، مصاباً بالبرد والحمى. وعندما تغادر زوجته الفراش، تجد نفسها مصابة أيضاً بدور برد. لكن أهم تغيير أصابهما هو أن بشرتهما أصبحت سوداء. وعندما جاءت الشرطة لتصطحب رئيس الوزراء إلى عمله، وجدت رجلاً أسود يدعي أنه رئيس الحكومة فألقت القبض عليه، وألقت به في زنزانة مع رجل أسود، يدعي أنه وزير العدل. راح كلاهما يصرخ في الزنزانة بأنهما بيض البشرة. يأتي شرطي أسود ويطلق سراحهما، "فمن الممكن أن يكونوا حقا من البيض". ونقرأ في القصة: "لقد انتشر وباء فيروسي. البيض أصبحوا سوداً. لم يعد البيض يجرؤون على الخروج من منازلهم، إذ إنهم أضحوا سوداً. ولم تعد النساء تجرؤ على الذهاب إلى مراكز التسوق وصالونات التجميل، كما لم يعد الرجال يجرؤون على الذهاب إلى مكاتبهم".
البيض السود
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ بدأت حرب بين الشرطة والجيش، "أطلق رجال الشرطة والجيش (الذين لا يزالون بيض البشرة) النار على رجال الشرطة والجيش البيض الذين أصبحوا سوداً، معتقدين أنهم سود استولوا على زي أفراد الشرطة والجيش البيض". راح عدد البيض يتناقص، بعد أن أمست أعداد متزايدة منهم سوداً. انتشر الوباء الفيروسي انتشاراً سريعاً بين البيض، أما العوارض فلم تتغير، زكام، وحرارة، ثم يتغير لون البشرة ويسود.
حاول مجلس الوزراء (وكلهم من البيض الذين اسودت بشرتهم) الحفاظ على امتيازات البيض، رافعين شعار "يحيا نظام الفصل العنصري". وتصدر الحكومة قرارات تعزز هذا النظام، وتلزم الناس بحمل لافتة مكتوب عليها إما "أبيض" أو "أسود". ويقرر رئيس الوزراء تشكيل لجنة لإصدار القرارات اللازمة. لكن كيف يمكن إثبات بياض البيض الذين أصبحوا سوداً؟
في تلك الفترة (وهنا يأتي نقد دورنمات الساخر لسياسة سويسرا المصرفية)، يزور جنوب أفريقيا وفد يمثل كبرى المصارف السويسرية. صحيح أنهم ضد الفصل العنصري، لكنهم (بسبب تشعب مصالحهم في جنوب أفريقيا) "مقتنعون" بأن وضع السود لن يتحسن إلا إذا دعمت المصارف السويسرية البيض. كانت دهشة وفد المصارف عظيمة عندما استقبلهم وفد أسود، ولم تقل دهشتهم عندما ادعى كافة أعضاء هذا الوفد الجنوب أفريقي (سود البشرة) أنهم جميعاً من البيض.
فر وفد المصارف السويسرية إلى المطار، واستقل طائرة "سويس إير" التالية ليعود إلى زيورخ. لكن ما أن حط أعضاء الوفد أقدامهم على الأراضي السويسرية حتى اكتشفوا أنهم جميعاً سود. اتهمت شرطة الجوازات رجال البنوك بانتحال هوية مزورة، وألقوا القبض عليهم. بعد فترة استطاعوا أن يثبتوا أنهم حقاً أعضاء وفد المصارف السويسرية، فعادوا إلى وظائفهم. عندئذ أطلق الناس عليهم "زنوج زيورخ" بدلاً من التسمية السابقة وهي "أقزام زيورخ".
سلطة المصارف
أدت هذه الواقعة إلى اضطراب أسواق المال السويسرية، وطالبت المصارف باستعادة المليارات المستثمرة في جنوب أفريقيا. وساد الاضطراب جنوب أفريقيا أيضاً، إذ لم يعد أحد يعرف "من هم السود السود، ومن هم البيض السود"، فاندلعت المعارك الدموية بين الطرفين، وادعى كل طرف أن الآخرين هم من السود السود رغم ادعائهم بأنهم ذوو أصل أبيض.
ويواصل دورنمات سخريته اللاذعة، ويقول: "قدمت اللجنة الحكومية استقالتها، وقرر رئيس الحكومة تطبيق نظام الفصل العنصري عبر إجراءات صارمة. من الآن فصاعداً يتوجب على كل أبيض أسود أن يثبت عبر شهادة طبية أنه أبيض. لم يكن الأطباء قادرين على الاضطلاع بهذه المهمة، أو كانوا مرتشين، أو يساندون السود السود." تزايد عدد البيض السود بالملايين، لكن رئيس الوزراء لم ييأس، فأصدر مرسوماً يلزم البيض السود الظهور مع سود سود، يشهدون أن البيض السود هم حقاً بيض سود، وليسوا سوداً من أصل أسود!
لكن هذا المرسوم أدى إلى تعقيد الحياة، لا سيما عندما امتنع عدد متزايد من البيض السود من تأكيد أصلهم الأبيض عبر شهادة شخص أسود الأصل. ثم تعقدت الأمور أكثر عندما شهد المجتمع فجأة ولادة أطفال بيض. شكل رئيس الحكومة لجنة لتقصي الحقائق، وتوصلت اللجنة إلى أن الأطفال البيض هم ثمرة زواج بين رجل أسود أبيض الأصل وامرأة سوداء ذات أصل أسود، أو العكس. على الفور أصدر رئيس الوزراء أمراً بمنع هذه الزيجات المختلطة.
يحاول مجلس الوزراء الذي يتكون حصراً من سود أصولهم بيضاء "إنقاذ الفصل العنصري لآخر مرة". و"بشجاعة اليائسين" يلقي رئيس الوزراء خطبة يقول فيها: "أيها الأفارقة الجنوبيون، نحن سود، سواء كنا سوداً من أصل أبيض أو سوداً من أصل أسود. الأسود هو لون بشرتنا. ونحن نعترف ونقر بذلك. لكن هناك خطراً جديداً يهدد نقاء الجنس الأفريقي الجنوبي، أعني البيض الذين ليسوا سود البشرة مثلنا، بل هم سود من ذوي البشرة البيضاء. وضد هؤلاء ستطبق قوانين الفصل العنصري من الآن. تحيا دولة جنوب أفريقيا السوداء". فجرت هذه الخطبة ثورة، أدت إلى الإطاحة بالحكومة، وفرار رئيس الوزراء إلى أنغولا.
الكاتب الساخر
يختتم دورنمات قصته الرمزية قائلاً: "كانت هذه نهاية الفصل العنصري، مثلما شرح لي مدير أحد البنوك في زيورخ، وهو الرجل الذي حكى لي هذه القصة. كان حالك السواد، يرتدي بدلة بيضاء، ورباط عنق مبهرج الألوان. كان يرقص حولي بلا توقف على أنغام موسيقى الجاز المنبعثة من الراديو الترانزستور المتدلي من عنقه، وكان يشع بهجة وحباً للحياة وهو أمر لا يتسم به أهالي زيورخ على الإطلاق. إنني أدون هنا تقريره بعد أن أصابتني رعشة مفاجئة مصحوبة بزكام وحمى".
فريدريش دورنمات من الكتاب السويسريين الذين يعرفهم القارئ العربي جيداً، سواء عبر مسرحياته، مثل "زيارة السيدة العجوز" و"علماء الطبيعة"، أو عبر أعماله النثرية، لا سيما قصصه البوليسية التي تسخر في الحقيقة من هذا النوع من الأدب، مثل "الوعد" و"العطل" و"القاضي وجلاده".
وتستعد سويسرا من الآن للاحتفال بمئوية دورنمات المولود في الخامس من يناير (كانون الثاني) 1921. وستقام عدة معارض عن درونمات رساماً وأديباً في كافة ربوع سويسرا، وستظهر عدة أعمال جديدة عن شخصه وأدبه، منها كتاب ضخم عن سيرته كتبه أولريش فيبر. كما ستصدر دار نشر "ديوغنيس" التي تعنى بإصدار أعماله كتاباً يضم بعض النصوص التي لم تنشر حتى الآن، ومنها "الوباء الفيروسي في جنوب أفريقيا".