Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ندى الحاج تنسج قصيدة صوفية بخيط رومنطيقي

العناصر الطبيعية الأربعة تحضر في ديوان "عابر الدهشة"

الشاعرة ندى الحاج (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية لموقع الشاعرة))

تعود الشاعرة اللبنانية ندى الحاج  كريمة الشاعر اللبناني أنسي الحاج، أحد كبار مؤسسي  الشعر الحديث وقصيدة النثر في العالم العربي، إلى ساحة الشعر بديوان جديد، بعنوان "عابر الدهشة" (دار المتوسط 2020). وبالأحرى تستأنف الشاعرة مسيرتها الشعرية، بعد ثماني مجموعات شعر لها، وقد ترجمت بعض قصائدها إلى الإيطالية والفارسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، إضافة إلى ترجماتها بعض المسرحيات من الفرنسية إلى العربية،  وهي مساهمة قد يكون لها أثر بين في أبعاد جملتها الشعرية الصوتية وإيقاعها الداخلي، الذي نتكلم عليه لاحقاً. يقول  الناقد الفرنسي مايكل ريفاتير: "إن قصيدة النثر تتطلب من القارئ قدراً أكبر من المشاركة في قراءة النص واستخراج دلالاته، ما دام أنها تبطل قواعد نظم تقليدية، وتتوالد من صيغة ثابتة، تحددها".

لن يتسنى لي أن أعالج، هاهنا، الصلة التي أوجدها شعراء ونقاد عرب وأجانب بين الشعر العربي الحديث والمعاصر باتجاهاته (الرمزية والسريالية، وغيرهما) وبين الصوفية، وإنما قصدت المساهمة في قراءة نص الشاعرة ندى الحاج، باعتباره أحد تمظهرات نوع قصيدة النثر، والحامل في ذاته رؤية، وعالماً شعرياً، في محمول لغوي -أسلوبي يفترض أن يكون متميزاً عما قبله. وفي هذا تحدي قصيدة النثر الأكبر؛ أن يصنع الشاعر أو الشاعرة هويته الشعرية، أي لغته الشعرية كاملة الأوصاف، صوراً وتراكيب وعالماً وحساسيات وأثراً في القراء. ولعل الشاعرة ندى الحاج تعرف ذلك حق المعرفة، وقد رسمت لنفسها مسارها الخاص، منذ "صلاة في الريح" (1988) وحتى المجموعة الشعرية الأخيرة، "عابر الدهشة" في ما يقارب 32 عاماً من الكتابة المتواصلة.

هدف الشعر

في القصيدة الأولى من الكتاب بعنوان "اسرقها" (ص: 7-9)، تضع الشاعرة ما يشبه الخط أو الأهداف التي رسمتها لنفسها، في كتابة الشعر، تقول: "أن تسمي جروحك، وتنعتق منها اسماً، حرفاً حرفاً/ أن تحيا لتعرف وتدرك من أجل العبور/ من أجل الذين تحب، ومن أجل النعمة..." (ص:7). ثم لا تلبث أن ترسم صورة سير ذاتية مختزلة، أو ما يعادل أسطورة للذات الشعرية منمنمة، تناسب تطلعات الشاعرة الكاتبة وانتظارات القراء منها، والمستفادة كلها من نصها الشعري، تقول: "أنا الفرح الناقص في الكون أكمله فيك (الحياة)/ أنا الآتي من جذور الأرض، لينبت من ثغوركم أطفال، يلعبون بالهواء/ والماء والنجوم المذنبة فوق الرؤوس..." (ص:8).

يخلص القارئ، حال انتهائه من القصيدة، إلى أن هذه الصورة هي محصلة قيم كبرى، توجه عمل الشاعرة، من مثل "البراءة، والشوق، واللهفة، والجمال الشعلة أو الشعلة الجمال، وتحويل الوجود سحرياً، واختراع الحياة أو التجديد". وما تتماز به الشاعرة ندى الحاج، أنها، فيما تؤثر إيراد هذه القيم، باسمها في سياقها، تعتبر الأخيرة عنصراً مكوناً واجب البروز على سطح الكلام الشعري، وليس في تضاعيفه الخافية، كما تحصل عادة في الكتابة الشعرية المواربة، السريالية منها، والرمزية، والواقعية المستحدثة، والغنائية الصرفة، والتي ترى إلى العالم والأشياء والذات، من منظارها الضيق، وتبني الشعر وعالمها الشعري من هذه الزاوية وحدها، فتمثل الأبعاد الأسلوبية والدلالية على سطح الكلام الشعري، وتترك للدراسات الجدية أن تستجلي أعماقها الفلسفية أو الفكرية، إن وجدت.

تساؤل فلسفي

ورُب سائل عن الدافع إلى هذه الوقفة الفلسفية والتصوفية في عز الكلام على شعر بات يصنف اليوم بأنه ينتمي إلى نوع قصيدة النثر. للإجابة أقول، إن ما كان لافتاً، وظاهراً لسطح القراءة هو ما استدعاني إلى النظر في المكون الأول لمادة الشعر في "عابر الدهشة". وإن اقتبست الشاعرة حيناً من الشاعر أبيها أنسي الحاج، وحيناً آخر من النفري، ومحيي الدين بن عربي، ورينه شار، على مدار القصائد، فإنها لا تني تعبر عن حالاتها الوجدانية والعرفانية، مصغية إلى "حركة السماء والأضواء والهمسات"، ومتقمصة أحوال الهواء والسديم والنار، عنيت العناصر الأربعة في عرف باشلار، في حركة تصاعدية معرفية، وصولاً إلى الالتحام بالشمس.

تقول الشاعرة في قصيدة بعنوان "حروف": "كتبت حياتي من خيوط الشمس، وأحرفي من وهج القمر/ فلا نجمة هوت، ولا سماء، إلا بنظرة منك..."(ص:10). وتقول في قصيدة بعنوان "أثر":"هنا، من هذا الكوكب، حلقت روحي إليك/ وتصاعدت مجراتها نحوك..." (ص:11). وفي القصيدة الثالثة تواصل الشاعرة تأملها الصوفي- العرفاني، فتدون ذاتها العارفة والمعانية والمعاينة درجات المعرفة والوجد التي بلغتها، وبعبارات المتصوفة ذاتها، تقول: "في المنارة وتد/ في الوتد مشكاة/ في المشكاة زيت/ في الزيت نقطة تصلني بالأكوان الذائبة فيك/ عرفت أني سأعرفك/ ولم أعرف الصدق إلا في المعرفة..." (ص:12).

وفي المعاينة والمعاناة، تحضر الذات، ذات الشاعرة، من أجل أن تغيب لصالح الحضور الأبهى والأكمل، وحيث تتأتى المعرفة بتلاشي الواقع، وسيادة اللاوعي. تقول الشاعرة في قصيدة بعنوان "سر الحضور": "أرمي عندك ذاتي، وأعرف أنك يقيني/ لن يتوقف لهاثي حول عرشك/ حتى تضمني بين جواهرك/ أسافر على أجنحة المعرفة/ بلا وسيط ولا دليل سوى إشارة منك/ تلك المتدثرة بطيات الوعي/ والآمنة في اللاوعي..." (ص 23).

والشاعرة، إذ يحين التفاتها إلى العالم، في غفلة من حلقات التأمل الصوفي المتعالي، كما سبق وصفه، تستعير الإطار الرومنطيقي الأصيل، على صورة ما عرفه الشعر الغربي عن غوته، أواخر السابع عشر، والمضمخ بشيء من الحلولية، تقول في قصيدة "عابر الدهشة": "كيف لي أن أكتب ولا أخدش الينابيع؟/ لحبي أن يعيش من فتات العصافير؟/ لخطواتي أن تحصي رمل الطريق؟/ لسلامي أن يلبس المطر؟/ سكنت الغيم، وأكثرت بيوته، فلا الأرض أرضي/ ولا عاد التراب يعرفني..." (ص:35).

مكونات شعرية

إذاً، يمكن القارئ أن يضيف إلى مكونات شعر ندى الحاج مكوناً آخر كان لا يزال كامناً كمون الذات العاشقة، عنيت مكون الرومنطيقية التي تعود إلى الظهور في العديد من القصائد، رديفة للذات العرفانية الصوفية التي شاءت الشاعرة تسليط الضوء عليها، وإغماضها على الرومانسية التي ربما حسبتها غير مستحقة أن تتسيد أسلوبها الشعري، لفوات الزمن عليها أو لسبب آخر.

بيد أن الملاحظة الأخيرة لن تصرفنا عن الاستخلاص بأن غالبية القصائد في كتاب "عابر الدهشة" هي وقفات تأملية، تدون فيها الشاعرة معايناتها وحالاتها من المنظور الصوفي-العرفاني- الفلسفي الذي سبقت الإشارة اليه، مع قدر مقنن من الوجدانية- الغنائية، وتعرف فيها شعر "السهو، والانكشاف، والعرفان، والانخطاف، والخيال، والحب، والحياة، والمعرفة، والنور، والبرق، والحضور، والعطاء، والضياء"، وغيرها، مما يعين "الكائن الحساس" على بلوغ الكائن الأسمى.

لا تطرح الشاعرة ندى الحاج تحدياً أسلوبياً بارزاً في لغتها الشعرية التي تمظهرت في كتابها الأخير، باعتبار أن التحدي الأول يتمثل في تكون مشهدية عرفانية في إطار لغوي هو قصيدة النثر. ولا تدعي الشاعرة صنع لغة شعرية مفارقة للأساليب الشعرية القائمة، بدليل الانسياب النثري في جمل القصائد النثرية، القائمة على صيغتين كبريين، هما: التكرار والتوليد. بدليل أن ما وجده القارئ من سجع في بعض القصائد، إنما أتى انسجاماً مع سياق التناص (النفري، أو ابن عربي) ليس إلا. ذلك أن الغاية القصوى من الكتابة، لدى الشاعرة، ليس توليد لغة شعرية مفارقة، بمقدار نقل "النعمة للخالصين" (ص:101)، و"جعل المريد عالياً، والمريد يعلو، حيث النداء الوحيد". (ص:103)

المزيد من ثقافة