في حوار أجراه معها الكاتب الفرنسي جيروم هانكين، لينشره كملحق في كتابه "جينيه في شاتيلا" عام 1992، تروي المثقفة والدبلوماسية الفلسطينية ليلى شهيد حكاية آخر أيام الكاتب جان جينيه؛ لا سيما تلك الحقبة التي كان منكبّاً فيها على إنجاز كتابه المدهش "أسير متيّم" الذي سيكون آخر كتبه ولن ينشره في حياته، حيث أن الإرهاق الذي عاشه خلال كتابته بعد جولات طويلة قام بها إلى مناطق متفرقة في الشرق الأوسط، تضافر مع الداء العضال الذي راح ينخره، ليقضيا عليه تماماً فيما كان هو، وبحسب رواية شهيد التي اعتنت به في أيامه الأخيرة، بمعاونة زوجها الناقد المغربي محمد برادة، يكتب بخط أنيق وعلى صفحات بالغة الترتيب تلك النصوص التي سيتألف الكتاب منها في نهاية الأمر.
تلك الدفاتر الشهيرة!
تقول ليلى شهيد إن جينيه بعدما عاد للقاء بصديقه الشاب حمزة، أحس فجأة برغبة طاغية في استعادة الكتابة "لا سيما حين عاد إلى المغرب وراحت الكتابة لديه تصبح فعلاً متدفقاً، وكأنها حاجة تقطع أنفاسه". لكنها كانت تغمره بقسط كبير من السعادة "سعادة لم ألمحها قبل ذلك لديه على الإطلاق. كان ينزل حينها في فندق يجاور محطة القطار. وكان يشتري دفاتره الشهيرة التي راح يملأها بكتابته النظيفة النقية بشكل استثنائي. بل تبدو نقاوتها ونظافتها أشد بالمقارنة مع قذارة وفوضى الشقق وغرف الفنادق التي اعتاد السكنى فيها. فلم يكن ثمة ما هو أشد وضاعة من الغرف التي كان جان جينيه يقيم فيها. كانت غرفاً واستديوات يتراكم فيها كل شيء فوق كل شيء، زجاجات حليب فارغة، جرابات تفوح منها رائحة القذارة، صحف ممزقة... ووسط ذلك كله، تلك الدفاتر النظيفة الأنيقة بالكتابة الرائعة التي تملأ صفحاتها، بسطورها المنتظمة والصفحات المرقّمة بعناية...".
تتابع ليلى شهيد: "لقد كنت أحسّ أنا نفسي أن ذلك الكتاب كان بشكل ما نوعاً من الانبعاث لديه بعد الرعب والروائح التي شممناها معاً في مجازر صبرا وشاتيلا وبقيت في ذاكرتنا لزمن طويل بعد ذلك. بالنسبة إلى جينيه كانت لديه تلك الغرابة التي تجعل ما يكتبه هو الحياة نفسها؛ بمعنى أن حياته وكتابته، الحلم والواقع كانت تتشكل لديه من كلّ متكامل، بصورة تجعل من المستحيل عليه أن يكتب إن لم يشعر بحاجة جسدية تفرض عليه ذلك". وتضيف شهيد هنا أن تلك الحاجة الجسدية إلى الكتابة عاودت جينيه في اللحظة نفسها التي عاد السرطان ينخره فيها، مصحوباً بألم حقيقي "ألم كان من الحدة بحيث أنه كان من شأنه أن يمنعه من الكتابة، لكنه في الواقع جعله أكثر تصميماً على إنجاز ما يكتب...".
سعادة الأوقات الأخيرة
وما يكتبه على تلك الشاكلة كان كتابه الأخير كما أشرنا "أسير متيّم" الذي تقول ليلى شهيد إنها لا تزال تشعر بالسعادة لكونها كانت إلى جانبه طوال فترة كتابته. مضيفة "في النهاية حين توفي جان في فندقه البائس في ساحة إيطاليا بالدائرة الثالثة عشر الباريسية، جاءني صديقه جاكي بمخطوطة الكتاب التي كان قد عثر عليها إلى جانب سريره". لقد شعرت الدبلوماسية الفلسطينية برجفة وهي تقلب الصفحات لإحساسها بأنها فيما تفعل ذلك، كان جان جينيه قد أضحى مجرد جثة، "ومع هذا وجدتني أصغي في كلماته إلى ما هو أقوى كثيراً من الموت". كلمات ستبدو أقوى كثيراً وتُسمع بشكل أفضل، كما تقول ليلى شهيد، حين يتذكر المرء أنها كلمات كُتبت قبل أيام من رحيل كاتبها وهو غارق في آلام جسدية لا تُحتمل، "لا تُحتمل إلى درجة أنه كان في بعض الأحيان يطلب مني أن أمسك إصبعه لأضغط بها بقوة على صدغه والمكان الذي كان الورم الخبيث يأكله فيه، بغية التخفيف من حدة الألم بعض الشيء". وتختم ليلى هنا بأن في مقدور المرء أن يفهم كيف أن في إمكان تلك الصفحات بالذات أن يكون لها صدى غيبي صوفيّ "بالنظر إلى أنها تسائل القارئ والكاتب في الوقت نفسه: ما الذي يمكن أن يكون حقيقياً أكثر بياض الصفحة أم سوادها؟ هل ما نراه هنا هو الواقع أو ما لم نتمكن من رؤيته وسيظل إلى الأبد عصيّاً علينا"؟
إذاً، بالنسبة إلى القارئ العربي في شكل عام، وإلى أفراد الثورة الفلسطينية في الربع الأخير من القرن العشرين في شكل خاص، كان جان جينيه الكاتب الفرنسي الذي احتضن القضية الفلسطينية أكثر من أي كاتب فرنسي آخر، لا سيما في كتابه الأخير "أسير متيّم" الذي كتبه بعد إقامة في المخيمات الفلسطينية، كما أنه هو الذي وضع ذلك "النص – الشهادة" الرائع حول ما تمخضت عنه مجازر صبرا وشاتيلا!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياة بائسة لعبقري مشاكس
أما بالنسبة إلى قارئه الفرنسي، فإن جينيه هو ذلك الكاتب الذي عاش كالمتشرد ومات وحيداً في غرفة فندق متواضع، والمؤلف الذي كرس أعماله كلها تقريباً للحديث عن المهمشين والضعفاء، عشرة كتب خلال حياة طويلة. وفي هذا الإطار كان كل نص يكتبه جان جينيه حتى وإن لم يكتب أشبه بالفضيحة للسلطات والمجتمع. ففي كتاباته وقف جينيه، وهو الذي ارتاد السجن منذ شبابه، إلى جانب اللصوص والفقراء، مبرراً تصرفاتهم، ووقف إلى جانب الخدم ضد سادتهم، وإلى جانب الثوار الجزائريين ضد السلطات الفرنسية... ووصل به الأمر إلى أن يعلن مناصرته لثورة الفهود السود في أميركا، ثم انتقل إلى تأييد الثورة الفلسطينية غير آبه بشتى أنواع الضغوط التي جابهته. وكيف يأبه كاتب تمكنت مسرحيته "السواتر" التي وضعها عن الثورة الجزائرية في عز احتدام تلك الثورة من أن تقلب باريس كلها وتحرك شوارعها، سلباً وإيجاباً، حين عرضت؟
كان جان جينيه رجل مشاكسة وعدو مجتمع النفاق والقوة. واللافت هنا أن جينيه لم يأت من وسط بورجوازي متخلياً عن طبقته كما يحدث عادة بالنسبة إلى المثقفين من طرازه، بل أتى من صفوف البؤس والفقر، وعرف - في سجلات البوليس - منذ صباه كسارق وخارج على القانون. وهو، بهذه الصفة، ثم بقدرته على كتابة هذا كله نصوصاً لا تزال حية حتى اليوم، بهر المناخ الثقافي الفرنسي إلى درجة أن جان بول سارتر وضع عنه كتاباً، وهذا الكتاب رسخ لجينيه أسطورة لا تزال حية حتى اليوم، إذ حسب المرء أن يمرّ في أيامنا هذه بمنطقة الأعراش في الشمال الغربي من المغرب غير بعيد من مدينة طنجة ليجد كثيرين من الناس يزورون في شكل متواصل قبر جينيه هناك، وهو قبر محاذ للبحر يقع- ويا لسخرية الأقدار (!)- بين مبنى كان سجناً وآخر كان ماخوراً، ونتحدث عن سخرية الأقدار هنا بالنظر إلى أن جان جينيه عاش الجزء الأقسى والأغرب من حياته تحت شعاري السجن والماخور!
مناصرة مشروطة
إذاً، جينيه الذي عانق كل القضايا العادلة والنضالية وتبناها خلال حياته الغريبة والصاخبة، وأحب العرب وأفريقيا والضعفاء إلى درجة أنه حين مات في عام 1985 أوصى بأن يدفن في الأرض الأفريقية- في المغرب- فكان له ما أراد في ذلك القبر. غير أن الرجل لم يكن مناصراً للقضايا من دون قيد أو شرط. ومن هنا، كان من الطبيعي، حتى للضحايا الذين دافع عنهم في كتاباته- فلسطينيين وجزائريين ومهمشين آخرين في مجتمعات القوة- أن يقفوا ضده منتقدين بين الحين والآخر بعض ما كانوا يرونه لديه من "تحرر" في الحديث عنهم بل أحياناً من إدانة لهم بالنسبة إلى دورهم المتخاذل في معاناتهم. وهذا ما كان ليزعجه أبداً على أية حال.