من أجل تفهم رفض دونالد ترمب الاعتراف بهزيمته في انتخابات 2020، من الضروري العودة بالزمن إلى السنوات القليلة الماضية. فالتجارب السابقة تكشف بوضوح عن أن الأمور مع الرئيس تنتهي دائماً على هذا النحو.
كيف لا وقد سعى ترمب، على امتداد مسيرته السياسية، إلى تبرير إخفاقاته، أو إخفاقاته المتوقعة عن طريق تلفيق ادعاءات بحدوث تلاعب في الأصوات وتزوير الانتخابات. عدا عن أنه لم يتوانَ يوماً عن التشكيك في نزاهة الديمقراطية الأميركية حمايةً لغروره وكبريائه.
ففي حملته الرئاسية الناجحة عام 2016، أدلى ترمب مراراً وتكراراً بادعاءات لا أساس لها تتهم منافسته الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون ومنافسيه في الانتخابات التمهيدية الجمهورية بالتلاعب بأصوات الناخبين.
"استناداً إلى عملية التزوير التي ارتكبها السيناتور تيد كروز خلال مؤتمر ولاية أيوا، فإما سيكون هناك انتخابات جديدة، أو أن نتائج كروز ستلغى"، هكذا كتب ترمب عقب خسارته لصالح سيناتور ولاية تكساس عام 2016.
واستمر ترمب على هذا المنوال بعد فوزه بالترشيح باسم الحزب الجمهوري ولغاية يوم الانتخابات؛ وفي تلك الفترة، كانت أكثرية استطلاعات الرأي ترجح خسارته مقابل كلينتون، وكان لا بد له من اللجوء إلى مزاعم، من قبيل تصويت المتوفين، واختلاق الإعلام أخباراً مزيفة، الهدف منها التأثير في نتيجة الانتخابات.
"هناك 1.8 مليون متوفى مسجلون في القوائم الانتخابية، وبعض هؤلاء المتوفين صوت فعلاً. والآن، أخبرني كيف أمكنهم فعل ذلك؟"، سأل ترمب الإعلامي شون هانيتي أثناء لقاء معه على "فوكس نيوز" قبل شهر من انتخابات 2016.
وبعدها في الأسبوع نفسه، غرد ترمب عبر "تويتر" قائلاً "الكل يعلم أن الأصوات زورت على نطاق واسع يوم الانتخابات، وقبله. فلم ينكر القادة الجمهوريون هذه الحقيقة؟ يا لهم من سذج!"
وواصل ترمب الترويج لأكاذيب وادعاءات مضللة حتى بعد فوزه في السباق الرئاسي. ففي يناير (كانون الثاني) 2017، وبعد أن تسلم مقاليد الحكم، أعلن ترمب أنه سيطالب "بإجراء تحقيق كبير في التلاعب بأصوات الناخبين، بما في ذلك أصوات المسجلين في قوائم الاقتراع الخاصة بولايتين، وأصوات المقيمين غير الشرعيين في الولايات المتحدة وأصوات المتوفين المسجلين (منهم المتوفون منذ زمن بعيد)".
وبالفعل، شكل الرئيس آنذاك "اللجنة الاستشارية حول نزاهة الانتخابات" للنظر في هذه الادعاءات، ولكنها حلت بعد عام؛ لعدم عثورها على أي دليل يدعم أو يثبت التلاعب بأصوات الناخبين.
بالمختصر المفيد، كان المشهد معداً ليقوم الرئيس في 2020 بتكرار أكاذيبه المحبوكة جيداً عن نزاهة الانتخابات في حال خسارته. والواقع أن هذا هو ما حدث على وجه التحديد، لكنه هذه المرة، أضاف عنصراً جديداً إلى الخلطة.
في بداية العام الحالي، وصلت جائحة فيروس كورونا إلى الولايات المتحدة، وتفشت سريعاً في مختلف أنحائها. ومع بداية الحملة الانتخابية الرئاسية، كان من الواضح أن الفيروس سيحدث تغيرات جذرية في مسارها ومسار الانتخابات ككل.
وفي مسعى لحماية المقترعين من فيروس كورونا ومنع تفشيه في مراكز الاقتراع، بدأت الولايات في مختلف أنحاء البلاد في تنفيذ إجراءات من شأنها تسهيل عملية التصويت عبر البريد، لكن نمطاً جديداً بدأ في الظهور، وقد عبر عن الجائحة بقدر ما عبر عن الاستقطاب في الولايات المتحدة. فاستطلاعات الرأي والدراسات الاستقصائية أشارت باستمرار إلى أن أعداداً هائلة من الديمقراطيين ينوون التصويت مبكراً عبر البريد، في الوقت الذي يفضل فيه الجمهوريون الانتظار حتى يوم الانتخابات. وقد عكس هذا التضارب في المواقف، الجدية التي يتعامل بها كل حزب مع الجائحة، وهذا ما شكل، برأيي، تهديداً خطيراً لفرص ترمب بإعادة الانتخاب. فالمعلوم تقليدياً عن التصويت عبر البريد أنه يتيح للحملات الانتخابية وضع أصواتها في المصرف والتخفيف من عدد المقترعين شخصياً يوم الانتخابات.
ومع دأب الولايات الأميركية البحث عن سبل ناجعة لتسهيل عملية التصويت، بدأ ترمب، ومعه الحزب الجمهوري، في شن حرب شاملة على عملية الاقتراع عبر البريد. ففي وقت مبكر من شهر أبريل (نيسان)، زعم الرئيس أن التصويت عبر البريد ينطوي على "إمكانات هائلة للتلاعب في الأصوات، ولا يلائم الجمهوريين لأي سبب من الأسباب".
يومها، لم يقدم الرئيس أي دليل على كلامه، لكنه أرفق هجماته غير المثبتة ببذل جهود قانونية للحد من استخدام التصويت بالبريد حيثما أمكن، والحيلولة دون تسليم صناديق الاقتراع، وهي بكل بساطة صناديق بريدية لإيداع أصوات الناخبين، إلى بنسلفانيا، وعدد من الولايات الحاسمة الأخرى. وكذلك حاول الرئيس تسخير سلطة الحكومة الأميركية لمصلحة الحملة التي يشنها لتقويض عملية التصويت بالبريد. وفي حين كان الكونغرس ينظر في مشاريع قوانين تحفيز ضخمة لمساعدة القطاعات الاقتصادية التي عانت الأمرين جراء فيروس كورونا، تعهد ترمب بوقف التمويل الطارئ لقطاع خدمة البريد الأميركية، في محاولة منه لعرقلة عملية التصويت عبر البريد.
"هم بحاجة إلى هذه الأموال لتمكين مكاتب البريد من استيعاب كل هذه الملايين والملايين من الأصوات. ومن دونها، لن يكونوا مجهزين للتصويت البريدي الشامل"، وفق ما أفاد به ترمب لقناة "فوكس بيزنيس" (Fox Business).
فبحسب ترمب "التصويت البريدي الشامل" الذي يتيح لأي كان المطالبة بتصويت غيابي، معرض للتزوير، ومجدداً، من دون دليل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أسفرت هجمات ترمب على "الخدمة البريدية للولايات المتحدة" (USPS)، إلى جانب التغيرات التي طرأت على أجهزتها مع تعيين لويس دي جوي مديراً عاماً لها، عن تعزيز المخاوف من ألا تتمكن الأصوات المدلى بها عبر البريد من الوصول في الوقت المناسب حتى يصار إلى احتسابها يوم الانتخاب.
وفي دفاعه عن التغيرات، قال دي جوي، الذي كان واحداً من المانحين الكبار لحملة ترمب قبل أن يعينه مجلس حكام هيئة البريد المرؤوس من الجمهوريين مديراً عاماً، إن التغييرات التي أحدثها تأتي في عداد الإجراءات المهمة لخفض التكاليف، وأصر على أنه سيتم توصيل كل البريد الانتخابي في وقته، ولئن كانت هناك بعض التأخيرات، فلا يوجد، ولو دليل واحد، على أن عدداً كبيراً من أصوات الناخبين بقي دون تسليم.
وبالتالي يمكن القول إن كل ما فعله هجوم ترمب على التصويت بالبريد هو تقليل نسبة استخدام الجمهوريين له والتمهيد للانقسام المستقطب الذي وصفه العديد من المراقبين بــ"السراب الأحمر" يوم الانتخابات.
وقد بان ذلك بشكل واضح جداً في بنسلفانيا؛ النقطة الحاسمة في هذه الانتخابات. ولأن الأصوات بالبريد تأخذ وقتاً أطول للعد، ولأن الهيئة التشريعية للولاية بقيادة الجمهوريين منعت اتخاذ التدابير اللازمة للبدء بفرز تلك الأصوات قبل يوم الانتخابات، كان من المرتقب لترمب أن يحتل الصدارة في تعداد الأصوات المبكرة، على أن يسقط السراب الأحمر ويتلاشى مع احتساب أصوات البريد.
وكما هو متوقع، استخدم ترمب وحلفاؤه هذه النقلة المرتقبة تماماً للشكوى وإطلاق الاتهامات بالتزوير. وبعد ظهر يوم الأربعاء، وصل رودي غويلياني، المحامي الشخصي للرئيس، إلى فيلادلفيا للإعلان عن نية الحملة المضي قدماً في محاكمة بنسفلانيا ووقفها عن تعداد الأصوات، بحجة النقص في "الشفافية".
وعاد غويلياني إلى فيلادليفا للمرة الثانية يوم السبت الماضي، وعقد مؤتمراً صحافياً في موقف للسيارات يعود لشركة متخصصة في هندسة المناظر الطبيعية عند أطراف البلدة، أراد من خلاله بث المزيد من الادعاءات بالتدخل. وقد آلت هذه الادعاءات إلى نشوب خلاف حول ما يمكن لمراقبي الاستطلاعات المصممة خصيصاً للحملة الانتخابية أن يتحملوا من المسؤولين عن تعداد الأصوات. يذكر أن غويلياني لم يقدم أي دليل على وجود تزوير واسع النطاق للأصوات.
وفي هذه الأثناء، استكمل ترمب نشر المعلومات الخاطئة على حسابه في "تويتر".
"سلمت عشرات آلاف الأصوات بطريقة غير شرعية عند الساعة الثامنة من مساء يوم الثلاثاء، يوم الانتخابات؛ وهذا ما غير بسهولة نتائج التصويت في بنسلفانيا وبعض الولايات الصغرى. ناهيك بذلك، منعت بطريقة غير شرعية مراقبة مئات آلاف الأصوات"، على حد تعبيره.
وحتى هذه اللحظة، فشلت حملة ترمب في تقديم أي دليل يثبت حدوث تلاعب كبير في الأصوات في أي مكان بأميركا. وبالنسبة إلى الدعاوى الـ10 التي رفعتها دعماً لادعاءاتها الزائفة، فقد وئدت في مهدها لعدم توافر الأدلة.
الظاهر أن ترمب يأمل بإقناع أي محكمة من المحاكم الأميركية بإصدار قرار باستبعاد أو التخلص مما يكفي من الأصوات لإبطال فوز جو بايدن، لكنه بحاجة لأن يقوم بهذه الخطوة في ولايات عدة، خاضعة لإدارة جمهوريين وديمقراطيين، في جوانب مختلفة من البلاد، لكن من سوء حظ الرئيس أن المحاكم الأميركية لا تأخذ تغريدات "تويتر" بعين الاعتبار، ولا تعول عليها كأدلة.
© The Independent