أثارت تصريحات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في شأن تفويض السلطات للمناطق البريطانية، بخاصة التفويض لاسكتلندا، موجة غضب في إدنبره، وردود فعل واسعة في الاتحاد البريطاني المكون من أربع مقاطعات هي إنجلترا وويلز واسكتلندا وإيرلندا الشمالية.
ولم تنف رئاسة الحكومة البريطانية تصريحات جونسون التي وصف فيها التفويض لاسكتلندا بأنه "كارثة شمال الحدود"، وحاول بعض الوزراء تفسير كلام رئيس الحكومة والتخفيف من وقعه من دون جدوى.
وكانت صحيفة "ذي صن" نشرت ما قاله رئيس الوزراء في لقاء افتراضي بالفيديو مع نواب حزب المحافظين الحاكم عن شمال البلاد، واعتبر فيه تفويض السلطات للأقاليم "أكبر غلطة" ارتكبها توني بلير، وأن جونسون كان يعتقد أنها فكرة جيدة، لكنه لم يعد "يرى مبرراً" لتفويض المزيد من السلطات لبرلمان اسكتلندا.
وحاولت الحكومة توضيح تصريحات جونسون، فذكر مصدر حكومي أنه "مؤيد للتفويض، لكن توني بلير لم يكن يدرك مدى تأثير القرارات لمصلحة الانفصاليين".
وفي مقابلة تلفزيونية، قال وزير الإسكان روبرت جنريك، إن "رئيس الوزراء لطالما أيد التفويض، لكنه رجل وحدوي جداً، وهو منزعج من تصاعد القومية والانفصالية التي تمثلها رئيسة حكومة اسكتلندا الإقليمية نيكولا ستيرجون، والحزب القومي الاسكتلندي".
لكن محاولات التخفيف من تصريحات رئيس الوزراء لم تقنع الاسكتلنديين، وحتى قيادات حزب المحافظين الذي يقوده جونسون في اسكتلندا.
أما رئيسة وزراء اسكتلندا، فكتبت عبر حسابها على "تويتر"، "لنتذكر تصريحات رئيس الوزراء هذه حين يقول المحافظون إنهم لا يشكلون تهديداً لسلطات برلمان اسكتلندا، أو إنهم يؤيدون تفويض مزيد من السلطات. السبيل الوحيد لحماية وتقوية البرلمان الاسكتلندي هو عبر الاستقلال".
وتشير ستيرجون في تعليقها على الانتخابات في اسكتلندا العام المقبل، والتي إذا فاز بها حزبها القومي الاسكتلندي، وشكل الحكومة مجدداً من دون الحاجة لتحالف مع المحافظين أو العمال أو أي أحزاب أخرى، فيمكن أن تقرر إجراء استفتاء جديد لاستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة.
وسبق أن أجرت الحكومة الإقليمية الاسكتلندية استفتاء عام 2014، لكن الاسكتلنديين صوتوا لمصلحة البقاء ضمن بريطانيا بأغلبية معقولة.
تاريخ التفويض
وبالطبع، انتقد حزب العمال المعارض تصريحات جونسون، وقال إيان موراي وزير شؤون اسكتلندا في حكومة الظل، "لطالما كان المحافظون أشد خطراً على المملكة المتحدة من أي قوميين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان قرار تفويض السلطات لبرلمانات إقليمية اتخذ العام 1998، بعد استفتاءات أجريت في الأقاليم التي تشكل المملكة المتحدة مع إنجلترا. وصوت سكان اسكتلندا وويلز لمصلحة التفويض، أما في إيرلندا الشمالية فكان تفويض السلطات مكوناً أساسياً في اتفاق "الجمعة الطيبة" التي تحكم علاقة الإقليم مع بريطانيا.
ووفق قرار التفويض، تمنح البرلمانات الإقليمية سلطات تشريع في بعض مناحي الحياة، وتبقي بعض التشريعات لبرلمان ويستمنستر في لندن كسلطة اتحادية لبريطانيا كلها.
وتشرّع البرلمانات الإقليمية قوانين تتعلق بالخدمات والشؤون العامة المتعلقة بالإقليم، وتتولى الحكومة الإقليمية تنفيذها. وتعرف تلك المجالات بالجانب المفوض. أما برلمان ويستمنستر فيتولى التشريع وإصدار القوانين في مجالات تسمى "المحتفظ بها"، والتي تمثل أموراً سيادية للمملكة المتحدة ككل.
وبالنسبة إلى اسكتلندا، لم يقتصر الأمر على قرار التفويض الأساسي في ظل حكومة حزب العمال برئاسة توني بلير، وإنما صدرت تعديلات بتفويض مزيد من السلطات لبرلمان اسكتلندا منذ ذلك الحين، ومنها قانون اسكتلندا لعام 2012 الذي نجم عنه نقل سلطات مالية من ويستمنستر إلى إقليم اسكتلندا، تعد الأكبر منذ إنشاء المملكة المتحدة.
وكذلك قانون العام 2016 الذي تضمن تفويض مزيد من السلطات الاتحادية لاسكتلندا، ومنها الضرائب على الدخل والضمان الاجتماعي.
ونتيجة تفويض تلك السلطات، يزيد معدل الإنفاق على الخدمات العامة في اسكتلندا عن متوسط الإنفاق على الخدمات العامة في بريطانيا ككل. وتنفق حكومة إقليم اسكتلندا سنوياً نحو 53 مليار دولار (40 مليار جنيه إسترليني)، يأتي جزء منها من الضرائب التي يحق للبرلمان هناك تفويض فرضها وسن قوانين إقليمية بها، والجزء الآخر من "المنحة المجمعة" التي تتضمنها موازنة بريطانيا لكل إقليم.
"بريكست" والتفويض
وبغض النظر عن طبيعة العلاقة المعقدة بين إيرلندا الشمالية وإنجلترا والحكومة البريطانية، لا تعد علاقة إقليم اسكتلندا بلندن مثل علاقة إقليم ويلز مثلاً، فلأسباب تاريخية ليس هناك ود قوي بين الاسكتلنديين والإنجليز، إذ يعتبر الأخيرون أن اسكتلندا إقليم فقير "من الفلاحين"، يستفيد من غنى الجنوب حيث إنجلترا. وبالطبع يبادلهم الاسكتلنديون الشعور ذاته.
ويعتبر الاسكتلنديون أنفسهم جزءاً من أوروبا أكثر من الإنجليز. وفي استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، صوتت أغلبية الاسكتلنديين على البقاء في أوروبا، لكن نتيجة الاستفتاء على مستوى بريطانيا جاءت لمصلحة "بريكست".
ولطالما كرر المسؤولون الاسكتلنديون رغبتهم في الانفصال عن بريطانيا لضمان البقاء في أوروبا.
وجاءت تصريحات جونسون في وقت حرج تواجه فيه الحكومة البريطانية معارضة لقانون السوق الداخلية الذي اعترض عليه مجلس اللوردات. وإضافة إلى أن القانون فيه انتهاك لاتفاق الخروج من أوروبا، أي انتهاك للقانون الدولي واتفاقات دولية، فإن الاسكتلنديين غير راضين عن زيادة المجالات "المحتفظ بها" في مقابل تلك المفوضة للأقاليم في تشريعات السوق الداخلية.
ويطالب الحزب القومي الاسكتلندي الحاكم بأن يتم تفويض بعض السلطات التي ستستعيدها بريطانيا بعد الخروج النهائي من أوروبا نهاية العام. وحتى الآن، تبدو تلك السلطات التشريعية المستعادة "محفوظة" لبرلمان ويستمنستر الاتحادي.
خروج وانفصال
ويعني استمرار الخلاف حول تلك السلطات التشريعية المستعادة نتيجة "بريكست" تشدد الاسكتلنديين أكثر في مسألة طرح الاستقلال في استفتاء جديد للانفصال عن بريطانيا، وربما الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ونقلت وسائل إعلام بريطانية عن مواطنين اسكتلنديين أنهم صوتوا لمصلحة الاستقلال في استفتاء 2014، ولكن تصريحات جونسون الأخيرة دفعت من صوتوا لمصلحة بقاء اسكتلندا ضمن المملكة المتحدة إلى الميل للتصويت لمصلحة الاستقلال. ويقول بعضهم إن جونسون وحكومته لا يهمهما سوى لندن وإنجلترا.
وفي الوقت الذي تواجه فيه بريطانيا احتمالات "بريكست" من دون اتفاق إذا لم تنجح المفاوضات الحالية مع الاتحاد الأوروبي، لا تحتاج حكومة حزب المحافظين إلى تصدعات داخلية في الاتحاد البريطاني نفسه. وبينما يتطلب الأمر تعزيز أسباب التوحد الداخلي، جاءت تلك التصريحات لتقوي أصوات الانفصال، بخاصة في إقليم اسكتلندا الراغب فيه أصلاً.