بعد سجال قانوني دام لأشهر عدة، أصدر القضاء العراقي حكماً بإبطال تجديد رخص شركات الهاتف المحمول في البلاد، في حين عدت لجنة الإعلام والاتصالات هذا القرار "إنجازاً حقيقياً في مكافحة الفساد"، ودافعاً لإنشاء شركة وطنية للاتصالات. ويرى مراقبون أن العوامل الضرورية لإنشاء شركة وطنية غير متحققة في الوقت الراهن.
وصادقت الحكومة العراقية، في يوليو (تموز) الماضي، على قرار لجنة الأمناء في هيئة الإعلام والاتصالات تجديد تراخيص شبكات الهاتف المحمول في العراق، التي تنتهي في مطلع عام 2022 لخمس سنوات إضافية، مع اقتراح مدة إضافية تمتد لثلاث سنوات تعويضاً عن خسائر الشركات في فترة اجتياح تنظيم "داعش" البلاد، ليكون إجمالي مدة التجديد ثماني سنوات تنتهي عام 2030.
جدل برلماني وشعبي
وأثار قرار تجديد التراخيص هذا، جدلاً برلمانياً وشعبياً واسعاً، وأدى إلى نزاع قضائي بين الحكومة وشركات الاتصالات "آسيا سيل، وزين، وكورك" من جهة، والنائب محمد شياع السوداني وفريق محاميه من جهة أخرى. وأصدر القضاء العراقي "أمراً ولائياً"، في أغسطس (آب) الماضي، يقضي بإيقاف قرار الحكومة تمديد تراخيص تلك الشركات.
واستمر السجال القانوني حتى إصدار القضاء العراقي قراراً، الأحد 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، يقضي ببطلان تجديد التراخيص. ويعد هذا القرار إجراءً أولياً، تتبعه إعادة نظر وتمييز في المحاكم العراقية.
وتعود تراخيص تلك الشركات إلى نحو 15 سنة. وبحسب التقديرات، فإن تلك الشركات مدينة للدولة العراقية بنحو مليار دولار. وهو الأمر الذي ركز عليه نواب في البرلمان أشاروا إلى أنه يجب عدم "مكافأة" تلك الشركات التي لم تلتزم بسداد ما عليها من مستحقات، فضلاً عن رداءة خدماتها وغلاء أسعارها ومخالفتها الضوابط القانونية.
مخالفات كبيرة
ويشير نواب في البرلمان العراقي إلى أن قرار إبطال تراخيص شركات الهاتف المحمول، جاء إثر المخالفات العديدة التي ارتكبتها تلك الشركات وإخلالها بالالتزامات القانونية، مشيرين إلى أن هذا القرار سيوفر فرصة لإيجاد بدائل وطنية من خلال تفعيل الرخصة الرابعة.
وأكد النائب في البرلمان العراقي محمد شياع السوداني، أن "الشركات التي أخلت بالالتزامات القانونية والإدارية المنصوص عليها".
وأضاف، هذا القرار "سيمنع هذه الشركات من التجديد، ويوفر فرصة مهمة لنا كدولة بالذهاب إلى إيجاد البدائل، ومن أهمها تجديد الرخصة الوطنية الرابعة، ولدينا الإمكانيات والأسباب التي تدفعنا إلى تشغيل الرخصة الرابعة".
ولفت إلى أن "أسباب رفع دعاوى قضائية ضد القرار هي الحجم الهائل للمخالفات في إصدار قرار مجلس الأمناء، ومن ثم قرار مجلس الوزراء الذي تم على عجالة بالتجديد مدة 5 سنوات، وبالتعويض 3 سنوات من دون أي سند قانوني متغاضين عن الخروقات، وعدم تنفيذ الالتزامات التي نص عليها عقد الترخيص"، مشيراً إلى أن "هناك شبهات فساد حول هذه القضية، وهناك قضية جزائية تنتظر المقصرين في هذا العمل".
تقدير مجحف وخدمات سيئة
في السياق، قال عضو لجنة الإعلام والاتصالات البرلمانية، النائب علاء الربيعي، إن "ديون تلك الشركات وصلت إلى أكثر من 800 مليون دولار، وهي متراكمة منذ سنوات ولم تلتزم الشركات بسدادها، فضلاً عن مخالفات عدة بشأن سداد تلك الشركات ما عليها من التزامات لمؤسسات الدولة، من بينها هيئة الإعلام والاتصالات وهيئة الضرائب"، مبيناً أن بعض شركات الهاتف النقال "تخالف ضوابط سداد مستحقات الضريبة التي عليها للحكومة الاتحادية".
وأضاف "أبرز الاعتراضات تتعلق بالتقدير المجحف لكلفة تجديد التراخيص لتلك الشركات، الذي لم يكن مدروساً وفق جدوى اقتصادية وفنية"، مشيراً إلى أن "مبلغ تجديد الترخيص البالغ 233 مليون دولار لكل شركة، يعد ضئيلاً جداً بالمقارنة مع تراخيص الشركات في دول أخرى".
وأشار إلى أنه "إضافة إلى تلك الاعتراضات، تبدو الإشكالية واضحة في سوء الخدمة التي تقدمها تلك الشركات، فضلاً عن الكلف العالية المفروضة على المشتركين"، لافتاً إلى أنه "على الرغم من رداءة الخدمات، فإنها تعد الأغلى على مستوى العالم".
وبشأن الشروع في إنشاء شركة وطنية للاتصالات، لفت الربيعي إلى أن "هيئة الإعلام والاتصالات تعرقل إنشاء شركة وطنية، كي تستمر الشركات الحالية في احتكار قطاع الاتصالات".
وختم أن "عقود تلك الشركات تنتهي مطلع عام 2022، وعلى الحكومة أن تستغل هذا الأمر لتعظيم الموارد من خلال فتح باب المنافسة لشركات عالمية"، مردفاً "تستطيع تلك الشركات الدخول في مزايدة علنية، شريطة سداد ما في ذمتها من مستحقات واستيفاء الشروط".
ملف لاستهداف حكومة الكاظمي
ولا تخفي الحكومة العراقية استياءها من القرار الأخير، إذ ردت على ادعاءات النواب بشأن مبالغ تجديد التراخيص، مشيرة إلى أنها ستأتي بإيرادات عالية للبلاد لكونها أعلى من مبالغ التراخيص في دول أخرى.
وعبر الناطق الرسمي باسم االحكومة أحمد ملا طلال عن "احترام الحكومة قرارات القضاء العراقي"، فيما أشار إلى أن "هذا الملف بات يستخدم لاستهداف الحكومة".
وأضاف في مقابلة متلفزة "الخطوات القضائية لم تكتمل بعد، وستحترم أي نتائج تخرج عن القضاء"، سائلاً "من الذي تعاقد مع الشركات وأعطاها جولات التراخيص الثلاث الماضية؟"، في إشارة إلى الحكومات السابقة.
وفي شأن الغاية من تجديد تراخيص شركات الاتصالات، قال ملا طلال، إنها تتمثل في "إدخال خدمة الجيل الرابع، فضلاً عن استحصال 50 في المئة من الديون المترتبة على الشركات التي لم تستحصل على مدى سنوات"، لافتاً إلى أن "تجديد التراخيص يأتي بإيرادات عالية للحكومة مقارنة بجولات تجديد أو منح التراخيص في دول أخرى".
وكشف أن الحكومة تمتلك معلومات عن "سعي بعض الأطراف التي لديها ارتباطات بشركات أخرى للزج بها بدلاً من الشركات الحالية".
قرار "مجحف وكارثي"
في السياق، تواصلت "اندبندنت عربية" مع شركة "زين العراق" التي لم تبد تصريحاً، وأكدت التزامها بالبيان الذي أصدرته في 15 نوفمبر.
ووصفت الشركة، في البيان، قرار القضاء بـ"المجحف والكارثي بحق العراقيين والاقتصاد العراقي"، معبرة عن استغرابها مما وصفته بـ"الإصرار على تأخير نشر خدمات الجيل الرابع".
وعلى الرغم من تأكيد الشركة "ثقتها العالية" بالنظام القضائي العراقي، أشارت إلى أنها ستستمر في "متابعتها القضية وتحتفظ بحقها القانوني للمطالبة بالتعويضات عن الأضرار التي ستصيبها من هذا القرار".
وأضاف البيان "قرار منح رخصة الجيل الرابع من قبل مجلس الوزراء كان قراراً إستراتيجياً وفي الاتجاه الصحيح، وسيكون له أثر كبير في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والأمن وسيمنع الفساد، من خلال تطبيق الحوكمة الإلكترونية وغيرها من التطبيقات".
وتابع البيان أن "قرار المحكمة بإيقاف إجراءات نشر وإطلاق خدمات الجيل الرابع، سيكون له أثر سلبي على العراقيين، وفي الوقت نفسه سيتسبب في زعزعة ثقة الشركات الاستثمارية للعمل والاستثمار في العراق".
عقبات أمام "الشركة الوطنية"
وعلى الرغم من الادعاءات المتبادلة بين أطراف القضية، يعتقد متخصصون في مجال الاتصالات أن الإشكالية الرئيسة ترتبط بسوء الخدمات التي توفرها تلك الشركات، مشيرين إلى أن عقبات عدة تقف في طريق تفعيل شركة وطنية للاتصالات في العراق.
ووصف المتخصص في الاتصالات، حيدر نصر الله، قرار المحكمة بعدم تجديد تراخيص شركات الهاتف النقال، بأنه "سليم من الناحية الفنية"، واصفاً القرار السابق (تجديد تراخيص تلك الشركات) بـ"المجحف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح أن "السعر المحدد لإعادة الترخيص ربما يكون مناسباً، إلا أن تلك الشركات ستكون رابحة في جميع الأحوال، خصوصاً كونها تقدم خدمات رديئة مقابل ما تتحصل عليه من أموال من المشتركين".
وأشار إلى أن "تردي الخدمة بالدرجة الأساس وغلاء أسعارها، جعلا المطالبين بعدم تجديد تراخيص شركات الهاتف النقال أبطالاً أمام العراقيين".
وعبر عن اعتقاده أن "هيئة الإعلام والاتصالات تتحمل الجزء الأكبر من الضرر، لأنها يجب أن تقوم بدورها في قياس جودة الخدمات المقدمة من تلك الشركات، فضلاً عن ضبط عروض خدمة الإنترنت من نواحي الجودة والأسعار والسعات".
ولفت إلى أن أحد الإشكالات الأخرى المرتبطة بمهمات الهيئة، هو "عدم تنظيمها آلية تنافس بين الشركات لتقديم خدمة أفضل، وهذا من صلب مهماتها"، مرجحاً أن تنتهي تلك الإشكالية بـ"دفع تلك الشركات ما عليها من مستحقات إلى الدولة".
وفي شأن إمكانية تفعيل شركة وطنية للاتصالات، قال نصر الله، إن "العقبة الرئيسة أمام ذلك تتمثل في عدم توفر الأرضية الملائمة لها"، مشيراً إلى أن أبرز الإشكالات تتعلق بـ"قلة عدد الفنيين الذين يمثلون عماد إنشاء مثل هكذا شركات، إضافة إلى عدم تحقق الإرادة لإنشائها".
وختم أن "المتسبب الرئيس في الاحتكارية التي تمارسها الشركات يرتبط بالإنترنت، في ظل غياب التنافسية، خصوصاً أن مجهز الخدمة بالنسبة إلى جميع الشركات واحد، وهذا أحد الأسباب التي لا تحفز التنافسية بينها".
خدمات كارثية ومآرب سياسية
في المقابل، قال الكاتب والصحافي محمد حبيب، إن "الخدمات الكارثية التي تقدمها الشركات، وغموض وارداتها وضرائبها، فضلاً عن عدم توافر التنافسية في ما بينها، ليست وليدة اللحظة بل هي حصيلة تراكمية لسنوات".
أضاف، "الإشكالات المرتبطة بتلك الشركات كانت جزءاً رئيساً من محركات الاحتجاج، إذ وصلت مطالبات الناشطين إلى حدود الدعوة لمقاطعتها على إثر تحميل تلك الشركات الضريبة المفروضة عليها من الدولة على المواطن".
وكشف أن "تلك الإشكالات لم تجد آذاناً مصغية من القوى السياسية، وعلى رأسها كتلتا "سائرون" و"ائتلاف دولة القانون" اللتان تتصدران على ما يبدو الحملة الأخيرة، إذ حظيت كل منهما بنفوذ كبير خلال السنوات الماضية بطريقة تمكنها من فتح تلك الملفات".
وأشار إلى أن تلك الشركات "عاشت في كنف الأحزاب الرئيسة على مدى السنوات الماضية، وتغافلت تلك الأحزاب منذ عام 2009 عن استحصال الديون أو جباية الضرائب"، لافتاً إلى أن "الشائعات كثيرة عن ارتباط كل شركة بمكون طائفي أو سياسي ومناطقي".
وتابع أن هناك "تحركاً غريباً وغامضاً، تقوده شخصيات ترتبط بتيار المالكي مثل محمد شياع السوداني، على الرغم من أنه أعلن استقالته حين اشترطوا عليه ذلك لترشيحه لرئاسة الوزراء، فضلاً عن شخصيات في تحالف سائرون".
ولفت إلى أن "جملة المعطيات تلك تثير تساؤلات عن دوافع الحملة، خصوصاً إذا ما راجعنا تاريخ الحملات المشابهة، سنجد أنه في كل فترة هناك حملات تشوبها شبهات ابتزاز ضد شركات ووزراء"، مبيناً أن هناك "سابقة قبل أكثر من سنة حين قام التيار الصدري بتجميد أحد نوابه لأنه تسبب باستقالة وزير الصحة الأسبق علاء العلوان، بعد ما شن حملة ضده طالبه بمطالب غامضة لم تعلن".
وختم أن "تناسي الكتل السياسية ملف الشركات طوال الفترات الماضية، يعطي انطباعاً عن وجود دوافع غامضة خصوصاً مع شح الموارد بالنسبة إلى كثير من الأحزاب في هذا التوقيت، والتي ربما توفر فرصة جيدة للابتزاز"، لافتاً إلى أن "السنوات العديدة الماضية كانت كافية لتوفير أرضية لشركة وطنية، إلا أن تلك القوى لم تبادر إلى ذلك".
رد سابق للهيئة
وكانت هيئة الإعلام والاتصالات، أصدرت بياناً مطولاً في شهر يوليو الماضي، ردت فيه على الادعاءات البرلمانية بشأن تجديد تراخيص شبكات الهاتف النقال.
وأكدت أن "الاتفاق مع شركات الهاتف النقال، لم يحو أي تنازل عن الديون التي في ذمة تلك الشركات، بل جدولة لتقسيطها"، مشيرة إلى أن "جميع الديون مثبتة بتلك الشركات، وأن تحصيلها سيتم وفق الضوابط".
وتابعت أن "بنود العقود المبرمة مع الشركات تكفل لها حق التمديد لـ5 سنوات، أما تعويض الشركات عن سنوات سيطرة تنظيم داعش (3 سنوات) فلن يكون مجاناً بل وفق مبالغ محتسبة".
وفي شأن مبالغ العقود، لفتت الهيئة إلى أن "مبالغ العقود التي فرضها العراق على الشركات هي الأعلى من بين دول الشرق الأوسط وعدد من الدول العربية، بالنظر إلى متطلبات البيئة التشغيلية والكهرباء والحمايات والبنى التحتية، فضلاً عن إضافة مبالغ أخرى تحسب لاحقاً عن الترددات الإضافية، مع العرض أن المدة الممنوحة في العراق أقل بمقدار أكثر من نصف عمر تلك التراخيص"، مؤكدة أن "العراق سيستفيد من البنى التحتية التي ستبنيها الشركات والكابلات الضوئية التي سيتم مدها على نفقة الشركات، التي ستؤول ملكيتها إلى الدولة".