تلت الطفرة والرخاء الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي عرفت بـ "العصر الذهبي" لمدة 30 عاماً، أزمات اقتصادية ومالية متتالية، مما دفع الدول الكبرى إلى بحث حلول للحد من تفاقم الوضع الاقتصادي، من خلال تأسيس منتدى استشاري، كان النواة التي مهدت لإنشاء مجموعة العشرين.
فقد لعب الازدهار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية دوراً بارزاً في التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في دول العالم، كان أبرزها التضخم السكاني الذي أطلِق عليه طفرة المواليد، وظهور زيادة ملحوظة في النزعة الاستهلاكية، والرفاهية، وسباق الفضاء، وحركة الحقوق المدنية، والثورة الجنسية، وبداية الموجة النسوية الثانية، وسباق التسلح النووي.
فعلى سبيل المثال بدأت في الولايات المتحدة، الطبقة المتوسطة في الهجرة الجماعية بعيداً من المدن نحو الضواحي، ما يمكن تفسيره بأنه شكل من أشكال من الرخاء، تمكن فيها معظم الأشخاص من التمتع بوظيفة مدى الحياة، ومنزل وأسرة، تلاه التوسع الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إلا أن كل هذا انتهى في منتصف السبعينات بعد تلاحقت الأزمات تلو الأخرى على الاقتصاد العالمي.
رحلة من الأزمات
بدأت رحلة الأزمات عند ما يعرف بـ"منع تصدير النفط" الذي قادت فيه دول عربية خفضاً في الإنتاج المتجه للدول الداعمة لإسرائيل في 1973، والتي خسر على إثرها مؤشر "ناسداك" 97 مليار دولار.
وفي 1987، اختفت ملايين الدولارات من أسواق الأسهم في كبرى البورصات العالمية، دون معرفة السبب حتى اليوم، وهو ما سمي لاحقاً بـ"الاثنين الأسود" الذي خسر فيه اقتصاد هونغ كونغ 45.8 في المئة من قيمته، في حين خسر الاقتصاد الأسترالي 41.8 في المئة.
أما الخسائر البريطانية فكانت أكبر، وقدرت بقيمة 60 في المئة. وفسّر بعض المحللين الماليين أن ما جرى كان نتيجة خلافات حول السياسات النقدية أو مخاوف من التضخم.
وفي 1997، تحولت "معجزة الاقتصاد الآسيوي" إلى كارثة اقتصادية في يوليو (تموز) 1997، وأشارت أصابع الاتهام آنذاك إلى الولايات المتحدة التي خفضت مستويات الفائدة لتبدو أميركا أكثر جاذبية للمستثمرين مما تسبب بتلك الأزمة.
تضخمت المشكلة حتى وصلت إلى تايلاند والفيليبين وهونغ كونغ وإندونيسيا وماليزيا، مهددة بأزمة مالية غير مسبوقة. وخسر الاقتصاد التايلاندي وقتها 75 في المئة من قيمته، في حين تراجعت قيمة الاقتصاد السنغافوري 60 في المئة. وفي العام الذي تلاه كان دور روسيا، بعد أن أسهم الفساد وسياسات الإصلاح المتعثرة وتخفيض قيمة الروبل، في كارثة مالية ضخمة ضربت الاقتصاد الروسي، الدولة المالكة لثلث الاحتياطي العالمي من النفط والغاز تعرضت لتقلبات سعرية كبرى، جعلت حتى صندوق النقد الدولي عاجزاً عن التدخل.
أما التاريخ الأهم فكان 2008، يوم قرع الانهيار المفاجئ لبنك "ليمان براذرز" جرس الخطر فوق رؤوس الاقتصادات العالمية، وهو الذي كان يمتلك أصولاً بقيمة 600 مليار دولار، معلنة بدء أحد أهم الأزمات
العلاج بالصدمات المالية
لكن وقبل الحديث عن التأسيس في 2008، يجدر العودة إلى عام 1999 الذي بذرت فيه بذرة المجموعة، فنتيجة لسلسلة الأزمات المالية والاقتصادية التي تعرض إليها العالم في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، خطرت فكرة لوزير المالية الكندي بول مارتن ووزير الخزانة الأميركي آنذاك لاري سامز، في تشكيل منتدى يكون فيه تمثيل للدول السبع على مستوى من خلال وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لتعزيز الاستقرار المالي الدولي وإيجاد فرص للحوار ما بين البلدان الصناعية والبلدان الناشئة.
وكان أول اجتماع لها في 15 و16 ديسمبر (كانون الأول) 1999 في برلين، الذي اختير فيه بول مارتن كأول رئيس لمجموعة العشرين، فيما استضاف وزير المالية الألماني هانز إيشيل الجلسة الافتتاحية.
السبعة تحولوا إلى عشرين
في المقابل، لم تتمكن اجتماعات وزراء المالية مع مجموعة السبع من حل الأزمات الاقتصادية، إذ اصطدم العالم بأزمة الركود الكبير أو ما يعرف بـ"أزمة الرهن العقاري" عام 2008، وقاد هذا الوضع كلاً من الوزيرين مارتن وسامرز إلى التصور بأنه في ظل هذه الأوضاع وفي عالم يتحول بسرعة إلى العولمة، فإن مجموعة السبع ومجموعة الثماني إضافة إلى نظام "بريتون وودز" لن تتمكن من توفير الاستقرار المالي، وبهذا فقد تصورا مجموعة دائمة أوسع وأكبر من الاقتصادات العالمية الرئيسية، التي من شأنها أن تعطي صوتاً وجديداً على المشهد الدولي في القيام بالمسؤوليات وتوفير الحلول الأنجع.
ولعب وزير المالية الكندي آنذاك دوراً بصفته الشخص الذي اقترح أن تنتقل دول مجموعة العشرين إلى القمم على مستوى القادة. حيث اختيرت 20 دولة لما تمثله من ثقل تجاري واقتصادي، لا سيما أنها تمثل ثلثي حركة التجارة العالمية وأكثر من 90 في المئة من الناتج العالمي، وعدد سكانها يمثل ثلثي سكان الكرة الأرضية.
الاقتصاد فقط
وفي البدء، اهتمت المجموعة بموضوعات الاقتصاد العالمي، مع اختلاف الموضوع المطروح من سنة إلى أخرى. حيث كانت قمة 2008 على مستوى وزراء المالية لـ"بناء واستدامة الرخاء".
ومن ثم شملت القضايا التي نوقشت في قمم عدة، الإصلاحات المحلية لتحقيق "النمو المطرد"، وأسواق السلع العالمية للطاقة والموارد، وإصلاح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتأثير التغيرات الديمغرافية بسبب شيخوخة سكان العالم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد مشاركة القادة العشرين بدأ جني ثمار القمة، إذ تمكنت قمة لندن في 2009 من تفادي انخفاض قيمة العملات. فالأزمة المالية كادت أن تكون أكثر خطورة. ولولا قمة العشرين لشهد العالم أزمة شبيهة بأزمة 1929 العالمية.
وقد اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين للمرة الأولى في قمة لندن إجراءات لإنعاش الاقتصاد بطريقة منسقة. وتمكن المجتمعون من الخروج بنتائج إيجابية ملموسة، كما أن الأمر كان يسيراً لأن الدول كلها كانت موحدة لمواجهة الأزمة.
الثورات والحروب تنقل القمة للسياسة
لكن في قمة سيول الكورية عام 2010 توسع قادة العشرين في الاهتمام ببقية دول العالم، ولم تسع لإنجاح اقتصاداتها بمنأى عمّا يحدث عالمياً، ومن أهم القرارات التي اتخذت وضع خطة عمل لمساعدة الدول الفقيرة في مجالات النمو، والاتفاق على زيادة القروض للدول النامية والناشئة، وبدأت القمة في طرح جوانب سياسية مؤثرة في المشهد الإقتصادي .
وكان التحول في عام 2011 واضحاً في طرح مواضيع سياسية أشمل لكنها مؤثرة من الناحية الاقتصادية، حيث تضمنت نقاشات قمة كان في فرنسا جوانب من الثورات، التي أثرت كثيراً في اقتصادات العديد من الدول العربية، ولكن كان حال الاتحاد الأوروبي أسوأ بعدما تفاقمت الأوضاع السياسية في اليونان مما أدى إلى إفلاسها.
وبسبب التوترات السياسية، اهتمت قمة لوس كابوس بالمكسيك عام 2012 بالتعامل مع التوترات التي تؤثر في الأسواق المالية من أجل تعزيز النهوض واتخاذ الإجراءات اللازمة لتعزيز النمو العالمي وترسيخ الثقة .
متضررون من الحروب واللاجئين
وعلى الرغم من تغلب الشأن السياسي على الاقتصادي في قمة عام 2013 بسبب بحث شؤون اللاجئين السوريين وآثار الحروب، لكن قمة العشرين توسعت لتشمل مواضيع تتصل بالبيئة والأمن للمحافظة عليها بعد تأثيرات الحرب، لتكون عنصراً رئيسياً في مناقشتها في القمم التي تليها .
وفي عام 2014 بأستراليا، فقدت القمة العشرينية طابعها الاقتصادي، بدأت الخلافات السياسية تفسد الهدف الرئيسي لها بعد انسحاب بوتين من القمة بسبب النزاع مع أوكرانيا .
القمة تتحول لمعالجة الإرهاب
من جهة ثانية، حاولت قمة أنطاليا في تركيا عام 2015 العودة بقمة العشرين لمناقشة مواضيع سياسية واقتصادية وبيئية، منها زيادة التجارة ومكافحة الإرهاب بعد ظهور "داعش" ومعالجة أزمة اللاجئين الآخذة في الاتساع، واحتواء الخطر المتزايد لتغير المناخ والوضع الحالي للطاقة .
وفي قمة 2016 بالصين و2017 في ألمانيا، وعلى الرغم من المناوشات السياسية حول التدخل العسكري في بعض دول الحرب كسوريا والعراق حاولت القمة اعتماد نهج مختلف، وهو "نختلف في الرأي ولكن نتفق من أجل المصلحة"، حيث أطلقت القمة إصلاحات طويلة للنمو العالمي من خلال حزم من الإصلاحات الهيكلية وتعزيز الابتكار والموافقة على تسوية المناخ والتوافق التجاري
واستمرت التأثيرات السياسية في القمة عام 2018 في الأرجنتين و2019 في اليابان، حيث شهدت انقسامات بسبب المشكلات السياسية بين روسيا وأوكرانيا، وسط صراعات سياسية وتجارية وتفاقم الأزمة بين طهران وواشنطن وحرب الجمارك بين بكين وواشنطن، لكن قادة الدول العظمى حاولوا مناقشة الملفات الشائكة التي تخص النمو الاقتصادي العالمي لوضع آلية للتجارة العالمية.
قمة صحية استثنائية لمعالجة كورونا
وفي عام 2020 اختلفت رؤية القمة وأهدافها من الاقتصاد إلى السياسي والمناخي، فالأجندة التي رسمت في ديسمبر (كانون الأول) 2019، ليست ذاتها التي أكملت عام 2020.
إذ اضطرت اللجان المشرفة على إعداد الأجندة تمزيق أوراقها القديمة، والتركز على الشأن الصحي بسبب الأزمة العالمية المتمثلة في ظهور فيروس كورونا والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي أثرت في دول العالم كافة، وبسببها ستعقد الدول قمة مجموعة العشرين بشكل افتراضي، وهي قمة استثنائية على مستوى القادة دعت إليها السعودية، وبدأت عن بعد برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز في 26 مارس (آذار) 2020، لمناقشة تنسيق الجهود العالمية لمكافحة جائحة كورونا والحد من تأثيرها الإنساني والاقتصادي.