بعد أسابيع من حال التوتر التي عاشتها الولايات المتحدة في أعقاب الانتخابات الرئاسية لعام 2020، أعلنت إدارة الخدمات العامة الأميركية (23 -11-2020) بدء عملية انتقال السلطة للرئيس المنتخب جو بايدن، عشية تسميته عدداً من المسؤولين لشغل مناصب حساسة في إدارته المقبلة، في خطوة تمهد لعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، بعد أربع سنوات كان نصيبهم منها التهميش من الرئيس الجمهوري دونالد ترمب.
بايدن والتمويل الفيدرالي
وفي وقت سابق، لم يتمكن فريق بايدن الانتقالي من الحصول على موافقة إدارة الخدمات العامة ببدء عملية نقل السلطة رسمياً بسبب الضبابية التي أثقلت المشهد الانتخابي، لكنها أخيراً تجاوبت مع معسكر الديمقراطيين في خطوة بمثابة الإعلان الرسمي للفائز، إذ ستعمل على تمويل الفريق الانتقالي بما يقرب من 6 ملايين دولار، ومنحه حق الوصول إلى المسؤولين الحكوميين، والاستفادة من معدات ومكاتب المؤسسات الفيدرالية.
ووصفت رئيسة إدارة الخدمات العامة إميلي مورفي، التي خالفت التوقعات المبنية على الرفض الأولي بإعلانها بدء نقل السلطة إلى بايدن، القرار بالنابع من إرادتها وحدها، على الرغم من تغريدة ترمب التي قال فيها إنه أوصى بهذه الخطوة، وهو ما يتعارض مع تصريح مورفي التي أكدت أنها لم تتعرض "لضغوط مباشرة أو غير مباشرة من أي مسؤول في السلطة التنفيذية، بمن فيهم العاملون في البيت الأبيض وإدارة الخدمات العامة".
كيف نبرر موقف ترمب؟
نظراً لما شهدته الانتخابات من تنافس محموم انتهى بالمرشح الجمهوري إلى رفض نتيجة صناديق الاقتراع والتلويح بالقضاء، فإن الاعتراف الحكومي بشرعية انتخاب بايدن يعد حدثاً ضخماً لا يمكن تجاوزه، لكن ما كان لافتاً أكثر هو توصية الرئيس ترمب إدارته بتنفيذ البروتوكولات الأولية للانتقال الرئاسي، على الرغم من مواصلته الترويج لنظريات المؤامرة، وإثارة مزاعم حول عمليات تلاعب وتزوير من الديمقراطيين أدت إلى ترجيح كفتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن تفسير هذه الخطوة بأنها تحول جديد داخل استراتيجية ترمب لإنقاذ صورته التي تضررت، على خلفية الاتهامات الموجهة إليه بتهديد سير العملية الديمقراطية، بخاصة وأن رفضه لنتيجة السباق الرئاسي جاء متوقعاً، ففي أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، رفض الرئيس الجمهوري التعهد بنقل سلمي للسلطة، وانتقد التصويت عبر البريد، لكنه اليوم بعدم تعطيله عملية تسليم السلطة لإدارة الرئيس المنتخب جو بايدن، سيحافظ على ما تبقى من حظوظ للمنافسة في الانتخابات الرئاسية عام 2024.
الخطوة غير المسبوقة من ترمب رحب بها فريق الرئيس المنتخب، إذ قال المسؤول في فريق بايدن يوهانس أبراهام، في بيان، إن "مديرة وكالة الخدمات العامة أكدت أن الرئيس المنتخب جو بايدن ونائبه المنتخبة كامالا هاريس هما الفائزان الواضحان في الانتخابات، مما يوفر للإدارة المقبلة الموارد والدعم اللازمين لضمان انتقال سلس وسلمي للسلطة".
رئاسة صعبة
وعلى الرغم من الانفراجة التي تلوح في الأفق، إلا أن ترمب سيعكف على التشكيك بشرعية الأصوات لتحويل بايدن إلى رئيس غير شرعي، وعرقلة مهماته الرئاسية عبر تعميق الانقسام حوله، الأمر الذي يثير مخاوف الديمقراطيين، بخاصة أنهم لم يسيطروا على مجلس الشيوخ، ولم يحصلوا على مقاعد إضافية في مجلس النواب، وهي خيبة أمل كبيرة للحزب، حتى لو انتهى بهم الأمر إلى الفوز بالرئاسة.
ويسود قلق في أوساط الديمقراطيين من أن يستغل الرئيس المنتهية ولايته مكانته لدفع المشرعين الجمهوريين إلى تقويض مشاريع بايدن، إذ يقول ويليام جالستون من معهد بروكينغز المتخصص في السياسات العامة، إنه يخشى أن يعمل ترمب على تحويل تركيز البلاد نحو فكرة واحدة، وهي أن الانتخابات سرقت منه، وأن جو بايدن رئيس غير شرعي ويجب عزله من منصبه في الانتخابات المقبلة.
لكن الجمهوريين انقسموا بين من التزم الصمت ومن وقف علناً مع ترمب، إضافة إلى أصوات مناهضة له كان لها حضور، إذ أثارت تصريحات سيناتور ولاية يوتا الجمهوري ميت رومني جدلاً بخروجه عن الصف، وقوله إنه لم ير أي دليل على تزوير الانتخابات، معتقداً أنه من المدمر للديمقراطية اقتراح حدوث احتيال أو فساد على نطاق واسع.
وتداركاً للعقبات، شاهدنا بايدن خلال الأيام التالية للانتخابات يسارع إلى تشكيل فريقه الانتقالي، كما أعلن هذا الأسبوع أسماء عدد من أعضاء إدارته، من بينهم أنتوني بلينكين وزيراً للخارجية، وجيك سوليفان مستشاراً للأمن القومي، وأفريل هينز مديرة للاستخبارات الوطنية. وبينما لم يتسلم الرئيس المنتخب بعد الإحاطات الاستخباراتية السرية، إلا أنه وفريقه نالا أخيراً موافقة إدارة الخدمات العامة للحصول على التمويل الفيدرالي، والوصول للإدارات والوكالات الحكومية.
دعاوى بلا أدلة كافية
وفي حين يتمسك ترمب بقشة الأمل المتمثلة في الدعاوى القضائية المرفوعة في أنحاء الولايات، فإن حملته حتى الآن لم تستطيع تقديم شواهد كافية لإثبات حدوث تلاعب وتزوير، ومما يطعن في صحة المزاعم التي يطلقها الرئيس الجمهوري نهجه المعروف بالتشكيك في نزاهة الانتخابات، إذ اتهم منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون بالتلاعب بأصوات الناخبين في العام 2016، ودرج إلى اتهام وسائل الإعلام بالانحياز والترويج لادعاءات من قبيل تصويت المتوفين، وهي مبررات حضرت قبل سنوات في انتخابات كان هو الفائز فيها، ورافقت خلال الأسابيع الماضية رفضه الاعتراف بالخسارة أمام بايدن.
وفي أبرز مستجدات النزاع القانوني، رفض قاض في بنسلفانيا دعوى قضائية للجمهوريين سعت إلى إبطال ملايين الأصوات التي أرسلت بالبريد في الولاية التي تعتبر ساحة معركة بين المرشحين، أما في جورجيا فلم تثمر إعادة فرز الأصوات في تغيير النتيجة، إذ أكد مسؤولو الولاية فوز بايدن ليكون أول مرشح ديمقراطي يفوز في الانتخابات الرئاسية في هذه الولاية الجنوبية منذ ما يقارب ثلاثة عقود.
أما بالنسبة لميشيغان الواقعة في الجزء الأوسط الغربي من الولايات المتحدة، فصادقت رسمياً على فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية، في نكسة جديدة لترمب الذي يحاول بشتى السبل الطعن بهزيمته في الانتخابات على المستوى الوطني. وأوردت وكالة الأنباء الفرنسية أن اللجنة المختصة بإقرار نتيجة الانتخابات في الولاية، والمؤلفة من أربعة أعضاء، صادقت على فوز بايدن بغالبية ثلاثة أصوات في مقابل امتناع عضو واحد عن التصويت.
نأي المقربين
عقب انتهاء الانتخابات، تداولت وسائل إعلام أميركية دعوات من مقربين لترمب، مثل زوجته ميلانيا وصهره جاريد كوشنر، تدفعه إلى التسليم بفوز خصمه، لكنه رفضها، وربما لو سلِم الرئيس الجمهوري من الاتهام جزافاً في انتخابات 2016، وتعهد في سبتمبر (أيلول) الماضي بالاعتراف ببايدن حال فوزه، لكان عدم تقبله للخسارة أقل تأثيراً على صورته كرئيس لكل الأميركيين، يمثل القيم الديمقراطية التي تأسست عليها الولايات المتحدة، ولما اُعتبرت طعونه التي يكفلها القانون تقليلاً من نزاهة النظام الانتخابي، وإنما وقفة انتصار لأكثر من 70 مليون شخص صوتوا له.
واليوم ثمة جمهوريون يميلون إلى النأي بأنفسهم عن نهج ترمب، حتى ابنته إيفانكا لم تعلق على تشكيكه بالانتخابات حفاظاً على مستقبلها السياسي. وحين سئل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال مؤتمر صحافي حول نقل السلطة إلى بايدن، حاول تفادي خذلان رئيسه، والنجاة من ورطة التشكيك بديمقراطية أميركا أمام العالم، فأجاب، "سيكون هناك انتقال سلس لإدارة ثانية لترمب". ثم أضاف، "العالم يشاهد ما يحدث"، مؤكداً أن الدستور سيقول كلمته.
في المقابل، يصف المنظر آدم برزورسكي الديمقراطية بأنها "نظام تخسر فيه الأحزاب الانتخابات"، ولذا فإن عدم اعتراف ترمب بالهزيمة يراه البعض تقويضاً لقيم المؤسسة، لكنه كغيره من أسلافه الذين خسروا حملة إعادة انتخابهم مثل كارتر وبوش الأب، لم يتلق الصدمة بسهولة، فالأمر متعلق بالمكتب البيضاوي ونفوذ واسع يبدأ من زر الحقيبة النووية ولا ينتهي بالتأثير في القرار العالمي، وميزات أخرى من المرهق التخلي عنها، ولذا فإن أحاديث التزوير في مواسم الانتخابات لم تعد مستغربة.
وعلى أي حال، ستبقى الديمقراطية الأميركية ثابتة تقول كلمتها، وتصنع أبطالاً ومهزومين، ويبدو أن ترمب سيكون ممن ذاق مرها وحلاوتها.