من الترجمات إلى العربية، ما يستحقّ الالتفات، لا سيما إن كانت من عيون الأدب العالمي. وهذا ما ينطبق بحق على الشعر العالمي المكسيكي الذي طالعنا اليوم، عبر ترجمة لأحد أعمال الشاعر إيلياس ناندينو، نقله إلى العربية تحسين الخطيب، وصدر الكتاب عن دار خطوط وظلال (2021 عمان).
هذا الطبيب الجرّاح، إيلياس ناندينو، المولود في المكسيك (1900-1993) عرف التحوّلات النفسية والتربوية في حياته الشخصية، من كونه ذا نشأة كاثوليكية محافظة، إلى كونه داعية للتحرر والأخذ بالميول اللاواعية والجنسية المثلية، شعراً ونثراً. وكان الشاعر عضواً بارزاً في جماعة "المعاصرون" الحداثية والفاعلة في الحياة الأدبية المكسيكية، أواخر القرن العشرين وأوائل ثلاثينياته. إلى جانب شعراء آخرين من مثل جايمس تورّيس، وجيلبيرتو أوين، وسلفادور نوفو، وخورخي كويستا، وكارلوس بلليستير، وكزافييه فيللوروثيا، وغيرهم.
ونال الشاعر جوائز عدة لشعره ودعمه الأدب في المكسيك، ومنها: الجائزة الوطنية للشعر (1979) آغواسكاليانتس، والجائزة الوطنية (1982) وغيرهما. وبدءاً من عام 1950، صار شعره أكثر شخصانية وتركيزاً. ومن أعماله الشعرية الصادرة على التوالي: لولب (1928)، وعشاريات إلى موتي (1930)، ولون الغياب (1932)، وصدى (1934)، ونهر الظلال (1935)، وسونيتات (1937)، ومرآة موتي (1945)، وعقدة ظلال (1947)، وأطلال الشك (1950)، ومقدار الليل (1955)، وحبّ الليل (1958)، وكلام ليلي (1960)، وأبدية التراب (1970)، وقرب المسافة (1979)، وإيروتيكا بيضاء-حامية (1988)، ومدارات أرضية (1989).
عشق الذات
بالعودة إلى الكتاب المترجم إلى العربية، فقد أصدره الشاعر وهو في الثمانين من عمره، يدوّن فيه مآل علاقته بالمرأة-الحبيبة والفياضة حيوية، وحال عجزه التي تبقي نوازعه حيالها حيّة ومشبوبة من دون قدراته. وإن بقيت بعض آثار تكوينه المسيحي في شعره، بما خصّ وحدة الزوجين جسداً وروحاً، فإنه يضيف إليها وعيه الجسماني بالمحبوبة، وعشقه لذاته فيها، في نوع من الحضّ المتواصل على الاتحاد بالمحبوبة، والتمتّع بكينونتها الجسمانية والروحية على حدّ سواء.
ولا يلبث الشاعر أن يستعيد مقولة التسامي في الحب، حتّى لا يبقى أثر الغريزة وحده ماثلاً في العلاقة العشقية بينه وبين المرأة المحبوبة، فيقول: "أبعدُ من نبضِ الغريزةِ/ ومنْ خفْقِ الحمى المحتجبِ/ ومنَ الشّهقةِ الّتي تشقُّ وجداني/ أبعدُ من شبكةِ الأحاسيسِ/ ومنْ سمّ الهستيريا المثير/ ومن المرارةِ الحلوةِ التي نشعرُ بها".
أما نداءاته المرأة لئلاّ تقترب منه، فلا يفادُ منها نظرة برناسية متعالية إلى المرأة، ترى إليها على أنها مجرّد رمز عصيّ على المسّ مخافة إفساد المثال، كما لدى بعض الشعراء، اللبناني سعيد عقل، على سبيل المثال. وإنما باعتبار أن لها كيانا مادّياً، جسمياً وروحياً خاصاً بها، يحسن أن تمتلئ به، بعد أن ملأ كيانه الجسماني بها. يقول: "لا تقربي منّي. اتبعي طيرانَكِ/ ذوقي التفّاحةَ وحُلمَ اليقظة/ والْتذّي بحلاوةِ الثّمرة السّاقطة/ بجوعِ شهواتِكِ البريءِ/ لا تقربي منّي، ابحثي عن الأعالي/ فوقَ الأجنحةِ الزّرقاءِ لأحلامكِ/ وابلغي الغصن الأعلى".
ولدى النظر إلى قصيدة "سونيتات إلى اللامبالاة" يتبيّن للقارئ أنها نشيد حزين، يظهّر فيه الشاعر ناندينو حال الرّكون الجنسي التي بات فيها، حيال كيان المرأة الفيّاض حباً ودفقاً وحياةً وانفعالاً وغريزة، كثير الآلام وعظيم الإصرار على وجود الحبيبة، على رغم سطوة اللامبالاة، هذا النقصان الوجودي المالئ الحياة غصباً عنهما. يقول الشاعر: "أنتِ معي- يا الجحيمَ الجنونَ-/ ترتعشينَ قربَ هذا الجسدِ المتفحّمِ/ الذي لا يشعرُ بضوء نِظرتِكِ/ أو بلمستِكِ الحادّة الحارقة.../ اللامبالاةُ - الموتُ الذي خشيتُه/ تفصلني عن شغفكِ المنتحب/ المتوسّل لعناقي".
بل الأحرى أن تكون حال العذاب التي يعانيها الشاعر، أشبه بمعاناة الصّليب، تختلط فيها آونات البهجة بالأسى، وتختطفهما جميعاً اللامبالاة فترفع حاليهما إلى رتبة أسمى، نظير المقدّس الذي لم يغادر لغة الشاعر ولا نظرته إلى المرأة.
في القسم الثاني من المجموعة الشعرية يعاود الشاعر ناندينو بثّ موجات البوح بحبّه وعشقه المجنون، وهو في الثمانين، في أسلوب شعري مختزل، وصور شعرية يجمع فيها العالي بالخفيض، والحسّي بالماورائي، والمشاعر الوجدانية والغنائية الدافقة بالغرائز المتسامية، نظير ما نراه في قصيدة "على جسدكِ" والتي يغالب فيها شروط وجوده، عمره، شيخوخته الحاضرة من خلال إحيائه ثيمات التهيؤ للموت الوشيك، والاستعداد له إيمانياً، ولو بالحدّ الأدنى: "أنا فتيّ في جسدكِ، أنا دمُكِ/ أشنة السنيّ في أيّامكِ/ غيمة التجربةِ التي ترعاكِ/ بأمثلة حكيمةٍ من خطايا".
شعر معاصر
على أن اللافت في هذا القسم، هو استعادة الشاعر تصوّراته اللاهوتية التي ظُنّ أنها اندثرت حال انتمائه إلى جماعة الشعراء "المعاصرين"، وانهمامه بتقصير مدى الإيقاعات، وبالشعر الحرّ، وبقصائد النثر وصولاً إلى الهايكو. غير أن الانهمام بالأشكال الشعرية الجديدة والمعاصرة، الذي بقي متجذّراً في لغة الشاعر ناندينو، لم يغيّب عن ذهنه أسئلة الميتافيزيق، والصلة الشخصية التي تجمعه، في ما وراء الموت، بالإله؛ ففي "قصيدة إلى إلهي" ، يعاود الشاعر التعريف بالإله الذي يؤمن به، فيقول: "إلهي السماوي حقاً/ موجودٌ ويبذلُ بقوّة حقيقية". ويقول إن لذلك الإله حضوراً أبدياً، في كل شيء، وأن الشاعر هو جزءٌ من حياته، وأنه هو الذي يمنحهُ القوة للاستمرار في "وقت الخطر". وهو، وإن خصّ قصائد بذاتها لاهتماماته اللاهوتية العتيقة، فإنه لا يغادرها في كل قصائده، سواء اللاهية منها والجدّية، والقاتمة والمشرقة، والطويلة الآخذة بسمت النشيد، أو تلك القصيرة، ففيها جميعها لمحات من رؤيته إلى الموت والحياة والإيمان بالماوراء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثم تراه ينوّع من بنى قصائده، فلا يضيره أن يستعير من الشعر الصيني ما بات يعرف، في حينه، بالهايكو، فيكتب نصف القصائد في ما سماه المترجم "شذرات" أي قصائد قصيرة وموجزة ومكثّفة المعاني والصور. فينظم بعنوان "قصائد لشاعر ميت" قائلاً: "أعمى أمشي/ على شاطئ صمتٍ/ غيابكَ الغامضُ/ حيثُ أنصِتُ إليكَ". ويكتب أيضاً مخاطباً ذاته، ومختزلاً تجربته كشاعر، وكصانع حياته وموته وحبّه وشغفه، يقول: "كلامكَ البسيط المرتجّ/ كان صوتاً وصدى/ كما لو عدتَ للتّو متعباً/ من رحلةٍ قصيّة".
بالطبع، لا يمكن اختزال تجربة شاعر له مكانته في الشعر الأميركي اللاتيني كشعر إيلياس ناندينو في مقالة واحدة، إنما الشواهد وبعض القصائد تسعى إلى إعطاء فكرة عن طبيعة العالم الشعري، أو الخليط من الكائنات والمشاعر والصور والأفكار المنقّاة. "كلّ صرخة تجرحُ الهواءَ الهشّ/ كلّ شكوى تمدّ شوكتها المؤلمة/ الكلماتُ القيلتْ قربَ الجسدِ المعشوق…/ الترنيمة الأبدية/ في النّضجِ الّذي يتوقُ إلى ترديدها/ فجرُ المسرّات…" (ص:71).
وفي الختام، هي كلمة امتنان للكاتب الفلسطيني والمترجم تحسين الخطيب، الذي لم يتوانَ عن رفد خير ما في لغة المعاصرين الشعرية (العربية) في توقيعه الصور والتراكيب والمشاهد المنقولة من أحد أعلام الشعر المكسيكي، من دون أي عناء، بل بسلاسة تتيح التفاعل المباشر مع النصوص.