على مقربة من شاطئ مدينة الميناء، تنتصب "فاخورة أبو جورج" شاهداً على تاريخ عريق للحرف اليدوية على ساحل المتوسط.
حافظت المعلمة الفخارية على طابعها العمراني الحجري القديم، وكذلك على التقنية التقليدية التي ابتدعها وطورها الإنسان عبر القرون. كما رسّخت مكانتها في وجدان أهالي "مدينة البحر" من خلال أبوابها المفتوحة، التي تستقبل الزوار من دون مقابل لرؤية منحوتات وجرار، وأطباق معجونة من طين جبال المشرق وخيال أبنائها، موقّعة بالحنين إلى الأزمنة الماضية.
إرث عائلي عريق
منذ 300 عام، بدأت رحلة صناعة الفخار في مدينة الميناء اللبنانية الواقعة على البحر المتوسط. قرون مضت، استمر فيها أبناء وأحفاد فؤاد "أبو جورج" بحمل ثقل الحفاظ على حرفة يعود تاريخها إلى أربعة آلاف سنة في منطقة بلاد الشام، ودخلت في صلب تطور الحياة البشرية وانتقال الإنسان إلى مرحلة الاستقرار والإنتاج.
يجهد أبناء جورج عريرو للحفاظ على مصنع الفخار الذي ورثوه أباً عن جدّ. تتحدث جميلة، ابنة جورج عن الجهد المضاعف الذي تبذله مع إخوانها الذكور لإبقاء هذه الحرفة حيّة وصامدة. "فبعد رحيل الوالد جورج، لم تُقفل الفاخورة أبوابها، وإنما استمرت بالعمل، وخصص الأبناء الذكور جزءًا من أوقاتهم للعمل وتصنيع الفخار، فيما تكفلت جميلة بإدارة المصنع وعمليات البيع واستقبال الزائرين".
يفاخر الأبناء باقتناء أسرار الحرفة، وأوانٍ عريقة شاهدة على مهارة الآباء والأجداد، ويزداد الشعور بالسرور والسعادة عندما يُقدّر أحد الزبائن روح المكان ويمتدح القطع القديمة القيّمة. لا تُغفل جميلة أهمية العائد المادي من العمل واستمرارية المؤسسة، وتشير إلى أن هناك هدفين لهذه الجهود "الحفاظ على التراث، وذكرى الآباء وتأمين المعيشة اللائقة في هذه الظروف الصعبة".
رحلة في الخيال
داخل الفاخورة، تستفز رائحة الطين والخشب مخيّلة الزائرين للسؤال عن التناسب بالأشكال المقولبة يدوياً ومهارة الصنّاع. تشرح جميلة عريرو المراحل التي تمر بها صناعة القطعة الفخارية، "فهذه القطع مهما صغُر حجمها، فإنها تختزن كمية كبيرة من الجهد والتعب. تبدأ بتأمين ثلاثة أنواع من الطين الأبيض والأسمر والأصفر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف "بعد خلط الطين وتنقيته من الحجارة والشوائب وتصوينه، تبدأ عملية العجن التي كانت في السابق تحصل باستخدام تقنية الدعس بالأرجل. ومن ثم ينتقل الحرفي إلى تشكيلها على شكل أسطوانة قبل الانتقال إلى الدولاب، وقولبتها على الصورة التي يريدها العامل، وتحويلها إلى جرّة أو وعاء أو قجّة، ليدخلها بعد ذلك إلى الفرن من أجل منحها الصلابة والقوة".
تلفت ابنة الصنعة في حديثها معنا إلى أن تسخين الفرن التقليدي، العامل على الحطب يحتاج إلى حوالى يومين ليصل إلى 1200 درجة مئوية، أما الفرن الكهربائي فيستغرق 4 ساعات، ويؤدي انقطاع الكهرباء المفاجئ عادة إلى عرقلة مسار العمل. بعد إنجاز عملية الشوي، تُترك قطع الفخار داخل الفرن لتبرد، تقسو ويشتدّ بنيانها. عندها، يمكن للحرفي النحت عليها أو تغطيتها بالطلاء وزخرفتها.
تستغرق عملية صناعة القطعة الفخارية حوالى الشهر ونصف الشهر لتكون جاهزة للاستخدام، لذلك يجب على من يريد قطعة محددة وتصميم خاص أن يطلبها سلفاً سواء كان فرداً أو مؤسسة.
الإقبال متزايد
ينتمي الفخار إلى زمن غير زماننا، وانعكس ذلك على أعمال البيع، إذ لم يعُد الإقبال عليها عامّاً وإنما من قبل شريحة محددة من عشاق التراث وصنّاع الجمال. تُقرّ عريرو بأن الرغبة في شراء الجرار والأطباق الخزفية، تراجعت خلال السنوات القليلة الماضية بفعل التغيير الذي طرأ على الحياة الاجتماعية والثقافية.
لكن في الفترة الأخيرة، شهدت سوق الفخار تحسّناً تحت وطأة التحوّل إلى "الحياة الصحية"، فتشير جميلة إلى أن "عدداً أكبر من الأشخاص يقصدها للسؤال عن أوعية الفخار للطبخ الصحي وعما إذا يحدث تكسّرها جروحاً أو ندوباً، وكذلك عن جرار الماء التي تختزن البرودة في ظل عدم توفّر التيار الكهربائي، أو إناء لزراعة النباتات في الحدائق". كما باتت محطة أساسية في الجولات السياحية، إذ يقصدها المقيمون والمغتربون والسياح الأجانب، فيما أسهمت الصفحة الخاصة على موقع "فيسبوك" في الترويج لهذه الحرفة.
كما تواظب شريحة واسعة على شراء المجسمات الفخارية التي تدخل في إطار "التذكار"، أو لدمجها في إطار التصميم الداخلي للمنازل للمزج بين الفن المعاصر والنمط التراثي. وتحظى بعض القطع بإقبال خاص كـ"القجّة الفخارية" التي كانت أداة الادخار الأولى للأجيال، إلى جانب أوعية الزراعة والأقنعة الخزفية المنقوشة التي تذكّر بالحضارات القديمة وتزدان بها الجدران.
ويحاول القيمون على الفاخورة الحدّ من تأثير ارتفاع سعر صرف الدولار على سوقهم، لذلك حافظت السلع نسبياً على ثمنها، وكانت الزيادة محدودة في ما خص المنتجات المطلية بالمادة الزجاجية التي تستورد من الخارج لتغطية أواني الطبخ وإعطائها لمعة. وتفتخر عريرو بصلابة الفخار المنتج لديها لأنه يضاهي الصيني والروسي.
حرفة تربوية
تستقبل "فاخورة أبو جورج" مئات الطلاب سنوياً، يأتون من مختلف المدارس الرسمية والخاصة. وتوضح جميلة أنهم يقدّمون أسعاراً تشجيعية للطلاب عند شراء السلع والمنتجات الفخارية. وما زالت ذكرى الوالد جورج عريرو حاضرة في كتابَي التربية الوطنية والتنشئة المدنية لصفَّي الرابع ابتدائي والأول ثانوي. ولم ينَل هذا الحرفي على غرار باقي المبدعين في لبنان أي تقدير أو تكريم من الدولة اللبنانية، على خلاف الاهتمام الذي حظيت به هذه الحرفة خارج لبنان وفي المعارض الدولية.
وتدعو جميلة إلى إدراج الحرف والمهن التقليدية في المناهج التربوية واستعادة تجربة والدها في "مدرسة الليسيه" عندما كان يعطي صفوفاً في مادة الفنون.
العناية ضرورية
وتنصح عريرو الأشخاص بوضع الفخار في أماكن جافة، لأن ذلك يحفظها لمئات السنين، فيما يؤدي تعرّضها للماء إلى تفتّتها والإضرار ببنيتها، وكذلك توصي بعدم استخدام الكلور في تنظيفها لأنه يترك في الأواني تحديداً، طعماً غير مستساغ، إضافة إلى عدم وضع الطلاء على الأباريق لأن "إبريق الفخار يرشح ماء للتبريد، وإغلاق مسامه يلحق الضرر بوظيفته". وتدعو إلى الرفق بالقطع الفخارية، خصوصاً التراثية منها لأن كلفة تصليحها وترميمها قد تكون أكبر من كلفة إنتاجها.