الوباء بموجاته الأولى المنتهية، والثانية الدائرة رحاها، والثالثة المتوقعة قرر أن يتخذ من النساء العربيات مقراً رئيساً له، معتبراً إياهن الحلقة الأضعف والملجأ الأسهل. عنف أكثر، بطالة أعلى، حمل أكبر، مساواة أقل، تدهور اقتصادي أسرع، معدلات سلامة أقل والقادم ربما يكون أسوأ.
أسوأ ما في الـ16 يوماً المخصصة هذا العام لمناهضة العنف ضد النساء، هو أن العنف ضدهن زاد على كل الأصعدة، لا سيما في منطقتنا العربية. رؤى العين تقول إن المرأة العربية تعاني أضعاف ما يعانيه الرجل من آثار ناجمة من الوباء. الجميع خسر، لكن خسارة المرأة تظل في المقدمة.
الوباء يتربص بالمرأة
مقدمة التقرير الصادر عن مؤسسة "الباروميتر العربي" (المتخصصة في البحث الكمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) قبل أيام (ضمن فعاليات الأيام الـ16 حول مناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي) تشير إلى أن كوفيد-19 مبعث اضطراب، وكذلك معجل للابتكار والتقدم. لكنه يبقى ذا أثر مجحف على حقوق النساء وعنصر إبطاء لتحقيق المساواة بين الجنسين.
الجنسان في العالم العربي لم يكونا متساويين في الحقوق والواجبات قبل بدء الوباء. ثم جاء الوباء ليلقي بظلال وخيمة عدة على الجميع، لا سيما في ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، أحد أكثر الجوانب تقليلاً من قدرة المرأة العربية على أن تكون واحداً صحيحاً وليس كسراً. استطلاعات مكثفة أجرتها مؤسسة "الباروميتر العربي" على مدار أشهر الموجة الأولى وجانب من الثانية لوباء كوفيد-19، أسفرت عن تدهور ملحوظ في الأمن المعيشي لملايين النساء في العالم العربي.
اضطرابات العمل
الاستطلاع الذي أجري في دول عربية هي، لبنان وتونس والأردن والجزائر والمغرب، أشار إلى أنه على الرغم من أن أعداد من فقدوا أعمالهم بسبب الوباء لم تكن بالغة الارتفاع، إلا أن أعداداً أكبر عانت بسبب اضطرابات مؤقتة ومتفاوتة في العمل.
لكن في كلا الحالتين، تهيمن النساء على مكانة الصدارة. تقول مديرة قسم التواصل والإعلام في "باروميتر العربي" أسيل العلائلي، إن النساء العربيات يتحملن نصيباً ضخماً من المشكلات الطارئة في العمل بسبب كوفيد-19، وهو نصيب يفوق نسبتهن مقارنة بالرجال.
وحذرت من أن الوباء وما فرضه من قيود وتسبب فيه من مشكلات قد يمتد ليمثل انتكاسة لما تحقق عربياً من مساواة بين الجنسين.
يشار إلى أن مشاركة النساء في قوة العمل قبل انتشار الفيروس كانت أقل بكثير من الرجال، إذ بلغت 21 في المئة، مقارنة مع الرجال، التي بلغت 70 في المئة.
الأمن المعيشي
لا تتوقف الآثار الاقتصادية السلبية المنعكسة على حياة النساء العربيات جراء الوباء عند حدود فقدان العمل أو حدوث اضطرابات وتوترات فيه، لكنها تمتد لتتسبب في تهديد الأمن المعيشي لملايين النساء. وحيث أن للفقر وجهاً نسائياً بارزاً، فإن نتائج الاستطلاع تشير إلى وقوع مزيد من النساء في الدول العربية الخمس في دائرة الفقر، بالإضافة إلى مزيد من الإفقار لأخريات.
أوجه التفاوت كبيرة. والأرقام تشير إلى أن التدهور الاقتصادي بسبب الجائحة أصاب النساء العربيات أكثر مما أصاب الرجال، لكن الأثر كان أقوى على النساء الأفقر. كما لوحظ أن الفئة العمرية ومستوى التعليم لهما علاقة مباشرة بحجم الأثر الاقتصادي السلبي على المرأة.
أوضاع اجتماعية صعبة
لم يكن الاقتصاد وحده المتربص بالمرأة العربية. فحتى إذا أفلتت المرأة من مقلاة الاقتصاد التهمتها الأوضاع الاجتماعية بالغة الصعوبة التي أفضت إليها كورونا.
نتائج الاستطلاع أثبتت أن المخاوف الصحية الناجمة عن الوباء، وما أدى إليه ذلك من إجراءات تراوحت بين فرض حظر التجوال وإغلاق المدارس وزيادة احتياجات ومتطلبات أفراد الأسرة أثناء الإقامة الجبرية في البيت، أحكمت خناقها على النساء. حتى القلق والتوتر استحوذت المرأة العربية عليهما بشكل واضح. فقد أعرب أغلب النساء المستطلعة أراؤهن أن أكثر ما يقلقهن في الجائحة هو وفاة أو مرض أحد الأقارب.
مبعث الاضطراب
مبعث للاضطراب؟ نعم، بكل تأكيد. فحتى سلامة كثيرات من النساء أثناء الجائحة صارت في مهب الريح. قبل أسابيع، حذر تقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا في منظمة الأمم المتحدة من الزيادة الهائلة في معدلات العنف القائم على النوع في العالم العربي أثناء أزمة كوفيد-19.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نساء عربيات كثيرات وجدن أنفسهن معرضات لقدر أكبر من الخطر بفعل الوباء، لا سيما "النساء العالقات في علاقات أسرية عنيفة". وأشار التقرير إلى أن أغلبهن اضطر للبقاء مع من يسيئون إليهن أثناء الوباء لصعوبة إيجاد مأوى بديل أو فرصة عمل لتحقيق القدرة على الاعتماد على النفس، وهو ما زاد من احتمالات تعرضهن لقدر أكبر من العنف.
وأكد استطلاع "الباروميتر العربي" هذه الجزئية، إذ قال كثيرون إن العنف ضد النساء في الدول الخمس زاد منذ بدء جائحة كورونا. كانت أعلى نسبة مواطنين رأوا أن الإساءة والعنف ضد النساء زادا في تونس بنسبة 63 في المئة، وفي كل من الجزائر والمغرب 41 في المئة، وفي الأردن 27 في المئة، و20 في المئة في لبنان.
خيارات زائفة
وترى العلائلي أن النساء المعرضات للخطر في العالم العربي اللاتي يلتمسن السلامة والحماية أثناء فترات الحجر والإغلاق المطولين، ليس أمامهن إلا خيارات زائفة تتمثل في إبقاء الأوضاع على ما هي عليه. وترجع ذلك في الأساس إلى إخفاق الحكومات العربية في إعلاء أولوية دعم النساء وحمايتهن في إطار خطط التعافي والتعامل مع آثار الجائحة، لا سيما النساء اللاتي فقدن أعمالهن بسببها، ويعشن تحت خط الفقر أو على مسافة قريبة للغاية منه، إذ يصبحن أكثر اعتماداً على من يسيئون إليهن، في الأمان المالي والمأوى.
افتقاد الأمان المالي والمأوى والظروف الاجتماعية الصعبة يدفعان ملايين النساء في العالم العربي إلى الملجأ الوحيد المتاح لهن ألا وهو الصلاة، فهي غير مكلفة ولا تحتاج إلا إرادة وقليلاً من الوقت. وبحسب الاستطلاع، فإن النساء العربيات يلذن إلى الصلاة في محاولة للتكيف مع مسببات الضغط والتوتر الصحية والاقتصادية والاجتماعية المتصلة بـكوفيد-19، بشكل أكبر من الرجال. وربما يعود ذلك إلى نسبة القلق والتوتر الأكبر بينهن.
قلق وتوتر
القلق والتوتر والآثار الاقتصادية الوخيمة والأوضاع الاجتماعية الصعبة التي تفاقمت جميعها بين النساء بسبب الوباء، لا يمكن التعامل معها بمعزل عن أوضاعهن قبل كوفيد-19. فأوضاع المرأة العربية أبعد ما تكون عن المساواة، وهي أوضاع عميقة الجذور تنمو وتترعرع مستمتعة بمعايير وقيم مجتمعية تمييزية تحظى بقبول واضح.
وبينما تستمر حملات الكوكب ضمن الـ16 يوماً الموجهة لمناهضة العنف ضد النساء، فإن نتائج الاستطلاع تسلط الضوء على ضرورة التحرك لمواجهة الآثار الوخيمة التي تهيمن على حياة النساء في الدول العربية. الحكومات مدعوة لإعلاء مصلحة وسلامة النساء ودعمهن وحمايتهن وتصحيح دفة جهود المساواة، وكذلك المنظمات الأهلية العاملة في هذا المجال، ومعها الإعلام المسؤول الأول عن التوعية وتصحيح المفاهيم الخاطئة. ولو لم تتدخل الأطراف المعنية سريعاً، فإن معاناة النساء العربيات ستسير من سيئ إلى أسوأ، وستزداد ظروف معيشتهن هشاشة وهو ما سينعكس سلباً على المجتمع بأسره.
ويظل كوفيد-19 مبعثاً للاضطراب، لكن أيضاً محفزاً على الابتكار والتقدم، ولتكن سلامة المرأة العربية وأمنها وصحتها الجسدية والنفسية ضمن قائمة الأولويات.