يبدو "كتاب العقود" لمحمد خضير، أحد رواد القصة العراقية الحديثة، الصادر عن منشورات الجمل، شاهداً على كتابة سردية ذات مكانة عالية، وثقافة شخصية واسعة، وحيَل في السرد والقصّ فريدة، يلذّ للقارئ العربي أن يتقصّاها وينعم بآفاقها الفسيحة، على كثافة السرد والوصف وبعض الصور الشعرية الذكية. ومن تلك الحيَل الإيحاء، للقارئ المتطلّب، بأنّ تلك النصوص السردية، ومنها قصص وأقاصيص ومسارد هجينة، هي مقتطفة من سيرته الذاتية. ثم يزداد اقتناع القارئ بأنّ تلك "السرديات" إنما تحاكي سنيّ حياة الكاتب، محمد خضير، البالغ إلى حينه 78 سنة، أي العقد الثامن منها، هو تقسيمه السرديات هذه تسعة أقسام، أي ثمانية زائداً واحداً، والأخير للتضليل، أي لنفي الشبهة عن التماثل بين الذات المروية وذات الكاتب. ثم إنّ مقداراً يسيراً من السرديات هذه، وإن كانت وقائعها مستلّة من حياة الكاتب، سرعان ما تصير بين يدي الكاتب، مادة متخيّلة، وفضاءات ذات أسرار، وعالماً سحريّاً، وشخوصاً وحيوانات ومصائر مأساوية وأخرى باعثة على التهكّم والضحك المرّ، وأخرى باعثة على الرهبة والرعب والاعتبار.
بالعودة إلى فكرة العقود، هذه المقسّمة على توالي السنوات التسعين التي يمكن لكاتب أن يحياها، وليس بالضرورة سنوات الكاتب الحقيقية التي أشرنا إليها، وبعد النظر في النصوص أو باقات السرديات التي تنتظم كلّ عقد (بين أربع سرديات واثنتين) من العقود التسعة، يلحظ القارئ سمات مشتركة تطبع كلّ عقد، وتشرّط الأنواع السردية والمناخات أو الخلفيات التي تتكوّن في سياقها. فعلى سبيل المثال، لو شاء القارئ أن يضع عنواناً هو القاسم المشترك للسرديات الأربع (وجوهي المئوية، والظفر المقلوع، والأبليّة، وبلاد الأسماء المتشابهة)، في ما يتشكّل منه العقد الأول (ص:5-24)، وهي بلا شك محصورة زمناً بالطفولة الأولى، ويمكن أن يكون (العنوان) "استحضار الوجوه والظلال والحيوات الأليفة".
بين الطفولة والمراهقة
السردية الواحدة، وإن تكن مستمدة من جزئية بسيطة من سيرته الطفولية، (الظفر المقلوع، مثلاً)، لا تني رؤيتها تتسع، وتتشعّب، وتتعمّق، لتصير مجالاً للتأمل في الحادثين المتزامنين مع قلع ظفري الراوي - الكاتب، أيام طفولته، (1948) وأيام مراهقته (1958)، وهما: شنق التاجر اليهودي شفيق عدس، مهرّب الأسلحة إلى العصابات الصهيونية، ومناسبة قيام الثورة في الرابع عشر من يوليو (تموز). وتنتهي بوقفة تأملية حول الأظافر المقلوعة في قبو الشعبة الخامسة، وفي أقبية كثيرة أخرى، على مدى أيام نظام القمع والتحقيقات "المرعبة"، في مدينة البصرة.
على هذا النحو، مسارد أو سردات العقد الثاني، التي تتراوح بين أقاصيص ذات عوالم مسحورة ("النداء") تختلط فيها حواسّ الفتى - الشاب المستذكر خوضه مياه الهور وأعماقه وزفرات الأجداد فيها، ومعاركهم الضارية مع الجنّ، وجمالات الطبيعة وأسراب البجعات في خلفية ليل قمريّ الإضاءة، وصراخ الفتى "الأجوف وراء السرب المبتعد: هوه...هوه... هوه" (ص:31)
كذلك "الثلاثون" وفيها قصة "البطات البحرية" ومصطفى الأربعيني يُصدع بإصابة زوجته الشابة بسرطان الرحم، خلال وضعها الجنين، فيموت الأخير وتبقى. أما قصة "تحنيط" فتروي سلوك شاب عازب مع أمه القابلة القانونية، في أجواء تتأرجح بين أوديبية بديهية، حواسّية، وبين سعي لاواع إلى التحرر.
لن أخوض كثيراً في ما تحمله سرديات كلّ عقد، إنما يسعني أن ألمّح إلى سمات كبرى تميّز كلّ عقد منها؛ إذ في العقد الرابع سيطرة لموضوعة الحرب العبثية ("المرصد، رسالة جندي)، وفي العقد الخامس، هيمنة لقصص الظلم الاجتماعي، وتهكّم من الكتّاب الناشئين. في حين أنّها في العقد السادس تأخذ منحى تأملياً آخر في مسألتَي الطالع، والصفر، ما يمكن القارئ إحالتهما على اشتغال فكريّ ذي مراجع في الأدب الغربي، مثل فرانز كافكا، أومبرتو إيكو ورولان بارت. أما السرديات في العقد السابع فقد تميّزت بالعنف الأقصى، إذ تحدّثت إحداها عن اقتلاع أطباء قلعة السجن عيون المشنوقين السبعين، في أشدّ الصور تأثيراً وتعرية لأنظمة الاستبداد وأدواتها ومشارطها الطبية، ما يذكّر ببعض المشاهد السردية في قصص زكريا تامر. بينما يركّز الكاتب في العقد الثامن والتاسع، على قصص من تحت الأرض، وتجارب في الموت، على التوالي، وفيهما يؤسس الكاتب - الكائن لحياة مقبلة، هي حياة التواصل الفكري مع الأجداد، والاستعداد للانتقال إلى العالم الآخر، بالموت، وتسليم القدميْن للأحفاد والمشاة، "فسعادتي أن أسمع الأقدام تلحس التراب فوق قبري المتربع على قبور الخلق الغابر" (ص:194)
سرد ووصف
إذاً، ثمة مظهران واضحان لقرّاء قصص الكاتب محمد خضير، أولهما تكوّن عالم موازٍ بيّن الخصوصية لديه؛ في الفضاء البصْريّ الريفي والمديني، وإطاره الخارجي غالباً الدالّ على الانفتاح والحرية النسبية لشخصياته، أو في الزمن بأنواعه (زمن السرد، والواقعي، والتحقيب الزمني) التي يحسن التلاعب بها إبرازاً لرؤيته، أو للأساليب التي يخرج عبرها السرد والوصف سيديْن، يتناوبان على النصوص القصيرة والطويلة في انسيابية تحاكي ما يرويه الكاتب عن جريان ذلك النهر، رفيق طفولته وفتوته وكهولته. ولا ننسى أنّ الكاتب خضير، في ما رسم واستحضر من أحداث مسلوخة من آونات حياته على مدى تسعة عقود، إنما شاء مواصلة التزامه وصف الواقع العراقي بعين اللحظة، لا بعين الفكرة أو الإيديولوجيا، فتنكشف له مقادير هشاشته، وتقيّح أحواله ("الجيفة")، وانسحاق إنسانه ("المسعف")، وتشوّه أحلامه ("تحنيط")، وعبثية مصيره وسط الحروب ("بلاغات من المرصد")، وغيرها مما ينال من أخيه البصري، أو العراقي بعامة.
إن كنت أزعم أنّ كاميرا الكاتب محمد خضير لم تكن هي نفسها، منذ زمن بداياته القصصية والروائية - بمقدار معرفتي المستجدة بالكاتب المخضرم – فإنها في الكتاب، أدقّ، في اختيارها المشاهد، وأعمق، وأكثر التقاطاً للأعماق الإنسانية التي تكاد تتفلت أو تغور في بعض الأعمال الروائية ذات النزعة الواقعية أو الواقعية - النفسانية أو غيرهما. ومن هنا فإنّ جانباً من براعته يكمن في تطويعه لغته لكاميراه الذكية، فتصير على قدر كبير من الكثافة والتركيز والجمالية بما لا نعهده سوى عند القلائل من الكتّاب العرب، أمثال يوسف إدريس، نجيب محفوظ، فؤاد كنعان، وغيرهم.
"تُظلّلُ جمّيزةٌ تخوتَ المقهى الأماميةَ، تريقُ الشمسُ لعابَها الصّافي على ورقاتها الخضرِ الزّاهيةِ، ورقاتِ الظّلّ والحرورِ، حصادِ السّنينِ الماضية، ورقاتِ الأعوامِ الستّينِ الماضيةِ..." (الطالع الأخير، ص:123)
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المظهر الثاني اللافت، والذي سبقت الإشارة إليه، فهو تمكّن الكاتب من تطويع الأنواع السردية للغاية الإبداعية القصوى، وهي الارتقاء بكتابته أعلى من قوالبها المتاحة؛ ومن هذا المنطلق إصرار الكاتب على تسمية كتابه "كتاب العقود" بالسرديات، وليس بالقصص أو الأقاصيص، ذلك أنّ بعضها يمكن تسميته بحكاية الحكايات، كما في "بلاد الأسماء المتشابهة"، حيث يعتمد الكاتب فيها حيلة تقضي بتولّد حكاية من حرف، أو من اسم، كما في "متر مربّع من الرصيف"، وأغلبها قصص وأقاصيص، وبعضها الآخر أقرب إلى مقالات مطعّمة بشيء من السرد، مثل "تخت الأسطة" أو "بيبليوتيكا" أو غيرهما، وبعضها الأخير أقرب ما يكون إلى السرد الرمزي، مثل "الصفر" و"الطفل المخطوف" وغيرهما.
أياً يكن، فإنّ ما دوّنتُه في قراءتي هذا الكتاب الفارق، في مسيرة المؤلف محمد خضير، لا يعدو كونه اقتراحاً للدخول إلى عالمه الثرّ، من أي زاوية كان.
محمد خضير قاص وروائي عراقي (1942) من مواليد مدينة البصرة، مارس التعليم ثلاثين عاماً. ظهرت أولى قصصه عام 1962، في مجلة "الأديب". وتوالت أعماله القصصية والروائية، وترجم العديد منها إلى اللغات العالمية، كالإنجليزية، والروسية، والفرنسية، ونال جوائز عديدة، كان آخرها جائزة اتحاد الأدباء والكتّاب العراقية (2008). له عدد من المجموعات القصصية منها: المملكة السوداء (1972)، وفي درجة 45 مئوية (1978)، ورؤيا خريف (1995)، وتحنيط (1998)، وحدائق الوجوه (2008). كما له روايتان: سيرة مدينة بصرياتا (1996)، وكراسة كانون (2001)، وكتابان نقديان، الحكاية الجديدة (1995) والسرد والكتاب (2010).