"هذه عيوب الدولة الحرة"، كلمات مسنة أميركية، ترثي حال بلادها التي تجاوز فيها عدد مصابي مرض "كوفيد–19" أكثر من 17 مليون شخص. قالت جملتها العالقة في ذهني، في معرض المقارنة بين فشل الولايات المتحدة في مكافحة فيروس كورونا، ونجاح الصين في إعادة الحياة إلى طبيعتها بعد فرض إجراءات اعتبرتها منظمات حقوقية بأنها مسيئة لحقوق الإنسان.
ما بين استجابة أميركا والصين لفيروس كورونا، استيقظ العالم على نموذجين مختلفين في التعامل مع عدو واحد. الولايات المتحدة بدستورها ونظامها الحر خاضت مناظرات محتدمة، السؤال فيها هل تقدم حرية الفرد أم الصحة العامة، أما الصين مستمدةً القوة من أحادية نظامها الشيوعي، فأمرت بإغلاق مدينة ووهان، البؤرة العالمية الأولى، وحظر التجول، وإدخال عشرات الآلاف من المواطنين إلى المحاجر الصحية، قبل أن تتهم بمراقبة تدفق المعلومات المتعلقة بالوباء عبر الإنترنت، واحتجاز أشخاص على خلفية "نشر الشائعات".
وبصرف النظر عن التساهل الذي يلازم التجربة الأميركية، وتهم انتهاك حقوق الإنسان التي تلاحق الصين، فقد نجحت دول أخرى في السيطرة على الوباء من دون التضحية بحاجات شعوبها، وأعادت الحياة لطبيعتها بشكل سلس ومنظم، ومن هذه البلدان نيوزيلندا وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى السعودية التي أضحت تسجل حصيلة إصابات يومية لا تتجاوز 200 حالة، وهو رقم ضئيل مقارنة بالقفزات التي شهدها منحنى الإصابات في الصيف الماضي. ووفقاً لـ"رون والدمان"، الأستاذ في كلية الصحة العامة بجامعة جورج واشنطن، ترتبط البلدان التي تمكنت من الحد من انتشار الوباء، بإجراء الفحوص الواسعة النطاق بشكل مبكر، وتفعيل آليات تتبع الاتصال، وعزل المصابين، وإلزام المخالطين بالحجر الصحي.
الولايات المتحدة وتسييس الوباء
اتسمت الاستجابة الأميركية بالتأخر وعدم وجود استراتيجية موحدة للقضاء على فيروس كورونا، وهو ما انعكس على حصيلة الإصابات التي تعد الأعلى عالمياً. وبخلاف ما روج له الرئيس ترمب من أن بلاده على قائمة البلدان الأكثر تضرراً بمرض (كوفيد–19) بسبب نجاحها في إجراء كم هائل من الفحوص المخبرية، يرى متخصصون على رأسهم أشيش جها، مدير معهد هارفارد للصحة العالمية أن فشل الولايات المتحدة في السيطرة على الوضع الوبائي مرتبط بالفشل في تكثيف الاختبارات في مرحلة مبكرة، وعدم عزل الأشخاص المصابين ومخالطيهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمثلت السمة الأبرز في رحلة الولايات المتحدة والوباء في تسييس الفيروس، الذي أطلق عليه ترمب اسم "الطاعون الصيني"، ومن ثم دوره في تحويل ارتداء الكمامة من فعل وقائي إلى تيمة سياسية، لتنقسم البلاد بين جمهوريين رافضين لفرض لبس القناع الطبي، وديمقراطيين يحذرون من تبعات التساهل بالإجراءات الاحترازية، وزادت حدة الصراع بالتزامن مع حملات المرشحين الرئاسيين؛ فالكمامات المنتشرة في تجمعات جو بايدن المحدودة، تظهر على استحياء في الأنشطة الانتخابية التي يحييها ترمب، وفقاً للقطات التلفزيونية التي توثق وجود أشخاص خلف الرئيس الأميركي لا يلبسون الكمامة.
وفي وقت سابق، حذر أطباء أميركيون من تسييس الأزمة الصحية، ومنهم الطبيب المتخصص في الأمراض المعدية ليونارد جونسون، الذي دعا في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، إلى إشراك خبراء ومسؤولي الصحة في صناعة القرار، بدلاً من اتخاذه على المستوى السياسي فقط، واعتبر جونسون الانقسام بين الديمقراطيين والجمهوريين حول ارتداء القناع "سخيفاً"، كونه لا يصب في مصلحة الأفراد، موضحاً أن المدن التي فرضت التباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامة في الأماكن العامة حققت نجاحاً ملحوظاً في السيطرة على انتشار الوباء.
وفي أعقاب الجدل المصاحب لإعادة فتح الاقتصاد بالكامل، اتسعت هوة الانقسام، وبدلاً من ولايات زرقاء (ديمقراطية) وحمراء (جمهورية)، أصبح الأميركيون أمام ولايات متساهلة، وولايات تفرض قيوداً صارمة يكون حكامها في الغالب ديمقراطيون. وظلت نيويورك النموذج الأبرز والأكثر إثارة، بسبب التدابير التي أقرها حاكم الولاية أندرو كومو، التي قوبلت بهجوم من قبل ترمب وأنصاره، معتبرين أن إجراءاته دمرت اقتصاد الولاية، وحولت نيويورك إلى "مدينة أشباح".
وعلى الرغم التدابير الصارمة في نيويورك فإنها ظلت في صدارة قائمة أكبر بؤر الفيروس بالولايات المتحدة، قبل أن تتجاوزها كاليفورنيا وفلوريدا بحصيلة إصابات أعلى في يوليو (تموز) الماضي. وجاءت القفزة في عدد إصابات (كوفيد–19) في فلوريدا، في وقت شدد فيه حاكم الولاية الجمهوري رون دي سانتيس على رفضه إصدار توجيهات بشأن جعل ارتداء الكمامات إلزامياً، وأصر حينها على ضرورة أن تستأنف مدارس الولاية عملها في أغسطس (آب) الماضي.
ويلاحظ في الأسابيع الماضية، عودة وتيرة تفشي الوباء بالولايات المتحدة إلى الارتفاع مع رصد بعض الولايات زيادة قياسية في أعداد المصابين، وسط خلافات بين الحكومة الفيدرالية وحكام عدد من الولايات بشأن كيفية التعامل مع الجائحة. كما تسود مخاوف في الآونة الأخيرة من أن تشهد البلاد قفزة في عدد الإصابات بالتزامن مع احتفالات عيد الميلاد، وبخاصة أن الزيادة الأخيرة توقعتها السلطات الصحية بعد التنقلات التي قام بها ملايين الأميركيين للاحتفال بعيد الشكر في 26 نوفمبر (تشرين الثاني).
ووفق متتبع إصابات كورونا "كوفيد تراكينغ بروجكت"، فإن الوضع الوبائي يتحسن في الغرب الأوسط، حيث تنخفض أعداد الإصابات اليومية الجديدة وأعداد الحالات الاستشفائية، بينما يتفشى الوباء بوتيرة متسارعة في غرب البلاد وشمالها الشرقي. وعلى الرغم من أن إجمالي المصابين بالفيروس بلغ أكثر من 17 مليون شخص، فإن الحصيلة الفعلية قد تكون أكبر بسبب عدم إجراء فحوص على نطاق واسع في المرحلة الأولى.
وفي البلد الذي أصبح فيه عدد مصابي كورونا يفوق الكثافة السكانية لبعض البلدان، قدر باحثون أن جميع الأميركيين لديهم شخص في دائرتهم الاجتماعية مصاب بالفيروس، وأن نحو ثلث السكان يعرفون شخصاً توفي بسببه، هذا ويرجح عالم الاجتماع بجامعة ييل، نيكولاس كريستاكيس، أن يأخذ مزيد من الأميركيين المرض على محمل الجد، اتعاظا من موت أشخاص يعرفونهم، لكنه ينبه أيضاً إلى أن البعض قد يتهاون بالفيروس، إذا عرف أشخاصاً نجوا منه.
واليوم، وعلى الرغم القفزات المخيفة لمنحنى إصابات (كوفيد–19)، فإن الآمال ما زالت معقودة على اللقاحات المضادة للفيروس التاجي، ومنها لقاح شركة "فايزر"، إذ بدأت الولايات المتحدة، الاثنين الماضي، حملة تلقيح واسعة النطاق تهدف في مرحلتها الأولى إلى تلقيح 20 مليون شخص خلال ديسمبر (كانون الأول)، على رأسهم مقدمو الرعاية الصحية، الأكثر تعرضاً لخطر الإصابة بالفيروس، ونزلاء دور رعاية المسنين.
وتهدف حملة التلقيح الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة إلى تطعيم 100 مليون شخص بحلول الربيع وجميع السكان بحلول الصيف المقبل، لكن الأمور ستعتمد كثيراً على ثقة الأميركيين باللقاح، وفي خطوة تمهد الطريق أمام بدء عملية توزيع ستة ملايين جرعة، أوصت لجنة استشاريين أميركيين، الخميس الماضي، بمنح ترخيص طارئ للقاح شركة "موديرنا" المضاد لـ(كوفيد–19).
الصين نجاح غير مكتمل
على الرغم من سيطرة الصين على تفشي الوباء محلياً، فإن إجراءاتها كانت مثار جدل في أوساط منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" التي طالبت الحكومة الصينية بضمان حماية حقوق الإنسان أثناء الاستجابة لتفشي فيروس كورونا، وذلك في أعقاب فرض الحجر الصحي على 50 مليون شخص للحد من انتقال الفيروس من مدينة ووهان في مقاطعة هوبي إلى بقية مدن البلاد.
وزعمت "هيومن رايتس ووتش"، في تقريرها بتاريخ 30 يناير (كانون الثاني) 2020، أن الحكومة الصينية حاولت منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2019 "التحكم في تدفق المعلومات المتعلقة بالوباء، نظراً لوجود قدر كبير من المعلومات الخاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية"، وتابعت "بدلاً من دحض المعلومات الكاذبة ونشر الحقائق الموثوقة، بدت السلطات في بعض الحالات أكثر اهتماماً بإسكات الانتقادات".
وتصاعدت الانتقادات الموجهة إلى الصين، بعد انتشار مزاعم تتحدث عن محاولتها التكتم على تفشي فيروس كورونا في ووهان. ففي الأول من يناير، أعلنت الشرطة المحلية أنها استدعت ثمانية أشخاص لاستجوابهم بسبب "نشر معلومات خاطئة على الإنترنت" تتعلق بحالات الالتهاب الرئوي، وكان أحدهم الطبيب، لي وينليانغ الذي يعد أول من حذر من انتشار الفيروس في مستشفى ووهان المركزي، وهددته الشرطة حينها ليصمت، قبل وفاته متأثراً بالفيروس في فبراير (شباط) الماضي.
وأخيراً، أظهرت وثائق، نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، أن حالة من الذعر وفقدان السيطرة أصابت مراقبي الإنترنت التابعين للحكومة الصينية في 7 فبراير 2020، بعد انتشار خبر وفاة الطبيب وينليانغ، وتشير الوثائق التي تحوي توجيهات صادرة عن الحزب الشيوعي إلى أن المراقبين الحكوميين أمروا المواقع الإخبارية بعدم إصدار إشعارات فورية لتنبيه القراء إلى وفاة الطبيب، وطلبوا من منصات التواصل الاجتماعي إزالة اسمه تدريجياً من صفحات الموضوعات الشائعة.
وكشفت الوثائق التي نشرتها الصحيفة الأميركية عن أن القيود التي فرضتها الصين على المعلومات حول تفشي الفيروس بدأت في أوائل يناير قبل أن يتم الإعلان بشكل رسمي عن ظهور الوباء. ومع البدء بفرض القيود المتعلقة بفيروس كورونا في العاصمة خلال الأسبوع الأول من يناير، أمر توجيه صادر من إحدى الوكالات، المواقع الإخبارية باستخدام المواد التي تنشرها الحكومة فقط، وضرورة عدم الإشارة إلى وجود أي تشابه بين تفشي كورونا، وتفشي وباء سارس الذي بدأ في الصين عام 2002.
من جانبها، ترفض بكين تهم تكتمها على تفشي الوباء أو دورها في نشر فيروس كورونا، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، جينغ شوانغ، في وقت سابق، إن منشأ الفيروس يمكن تحديده فحسب بالعلم، والاعتماد على وجهات النظر العلمية والمهنية، مشدداً على عدم "استخدام هذه المسألة لوصم دول أخرى". وأضاف "مع تحول (كوفيد-19) إلى وباء عالمي، ينبغي على بلدان العالم الاجتماع معاً لمحاربته عوضاً عن توجيه اتهامات ومهاجمة بعضها البعض".
نيوزيلندا تصل إلى بر الأمان
بفضل الإجراءات الصارمة للحد من انتشار فيروس كورونا، كتبت نيوزيلندا واحدة من أبرز قصص النجاح في التعامل مع الفيروس التاجي، إذ لم تسجل إلا 25 وفاة، و2216 إصابة، في بلاد يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين نسمة. وكانت نيوزيلندا، قد أغلقت حدودها في مارس (آذار) الماضي، وفرضت على جميع الوافدين بمن فيهم المسافرون الأستراليون الخضوع للحجر الصحي لمدة أسبوعين.
وعندما كانت أرقام الإصابات تتصاعد في إسبانيا وإيطاليا، شرحت رئيسة الوزراء النيوزلندية جاسيندا أرديرن، لشعبها خطة إغلاق تتكون من أربع مراحل لمواجهة الوباء. وقالت في خطاب متلفز على المستوى الوطني في 21 مارس "أتحدث إلى جميع النيوزيلنديين اليوم لأمنحكم أكبر قدر ممكن من اليقين والوضوح قدر المستطاع بينما نكافح (كوفيد–19)".
وأشادت سيوكسي ويلز، المتخصصة في علم الأحياء الدقيقة في نيوزيلندا، بإدارة رئيسة الوزراء للأزمة، قائلة إنها "على عكس عديد من البلدان، لم تضعنا أبداً في حالة حرب"، مشيرة إلى أن خطاباتها لم تدر حول مواجهة عدو خفي كما عبر القادة الآخرون، وتضمنت بدلاً من ذلك، حث النيوزيلنديين على مواجهة الأزمة من خلال التضامن بحماية بعضهم البعض.
وتابعت ويلز "لقد تحدثت (رئيسة الوزراء) مراراً وتكراراً عن كوننا (نحن المواطنين) فريقاً مكوناً من 5 ملايين، وأننا جميعاً نقوم بدورنا لكسر سلاسل الانتقال، والقضاء على الفيروس". وأضافت "أعتقد أن هذا كان أحد الأشياء الحاسمة حقاً، أن يعرف الجميع كيف يتعين عليهم التصرف، وأن سلوكياتهم تصب في مصلحة الجميع".
وبالتزامن مع الانفراجة العالمية المتمثلة في البدء بتوزيع اللقاحات، أعلنت رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن، الأسبوع الماضي، أن بلادها تأمل في فتح ممر جوي من دون حجر صحي أمام المسافرين الآتين من أستراليا بحلول أبريل (نيسان) العام المقبل، وأنها تعمل على إنهاء الإجراءات الحدودية المطلوبة المتعلقة بمكافحة فيروس كورونا. وقالت أرديرن إن حكومتها وافقت "من حيث المبدأ" على فتح هذا الممر الجوي عبر مقاطعة تاسمان في الربع الأول من عام 2021 في حال لم يتم تسجيل معدلات إصابة كبيرة في البلدين.
آسيا قفزة في الإصابات ثم انخفاض
في سياق متصل، تمكن عديد من دول آسيا من السيطرة على تفشي المرض لأسباب منها المركزية، وسرعة الاستجابة، وعدم تسييس الوباء، فعلى سبيل المثال، سارعت هونغ كونغ، وتايوان وفيتنام، وكوريا الجنوبية، إلى منع قدوم المسافرين، وفرض الحجر الصحي على القادمين لمدة أسبوعين، واعتمدت الأخيرة نظاماً خاصا بها للكشف عن الفيروس. وبعد أن كانت كوريا الجنوبية تبلغ في أواخر فبراير، وأوائل مارس، عن 750 حالة جديدة يومياً، أصبحت البلاد، في الصيف الماضي، تسجل عشرات الإصابات فقط، فإنه في الآونة الأخيرة، شهد البلد الآسيوي قفزة مفاجئة في عدد الإصابات اليومية.
وفي جنوب غربي آسيا، ظلت السعودية متصدرة قائمة الدول الخليجية الأكثر تضرراً بفيروس كورونا، إلا أن جهودها المركزية للحد من انتشار الوباء طيلة الأشهر الماضية، أثمرت أخيراً في خفض معدل الإصابة اليومي، وإعادة الحياة إلى طبيعتها تدريجيا، وبالإضافة إلى الإجراءات الصارمة التي تراوحت بين إغلاق الحدود، ومنع التنقل بين المدن، وحظر السفر الدولي، تميزت التجربة السعودية باستخدام التقنية لمواجهة الجائحة في مجالات الصحة العامة، وخدمات الرعاية الصحية، والتعليم، والتجارة، إذ أطلق البلد الخليجي ما يقرب من 19 تطبيقاً ومنصة، أبرزها تطبيق "صحتي" الذي أتاح أخيراً خدمة التسجيل لتلقي لقاح كورونا.