قد يكون من السهل الافتراض أن الفوضى على حدود المملكة المتحدة ستكون عارمة، إن لجهة تصاعد أصوات أبواق السيارات المصطفة في طوابير طويلة، أو لناحية تعالي أصوات الصراخ التي تعكس التعبير العارم عن سخط المسافرين من تفويت مواعيدهم وضياع أوقاتهم.
إلا أنه مع إغلاق ميناء دوفر، والتضييق على أحد أبرز المعابر الرئيسة لنقل البضائع من إنجلترا إلى فرنسا، فإن تعطيل أحد أهم الممرات التجارية الحيوية في البلاد، أدى إلى تقييد الحركة وحجب الضوضاء المحيطة به.
فالمرفأ الجنوبي الذي يغص عادة بالشاحنات أصبح فارغاً، أما الطرق من حوله فهي قيد الاستخدام في الوقت الراهن، لكن نادراً ما تتعرض لضغط المرور، وتبقى حركة السير عليها مستمرة، يشرف عليها خليط من أفراد الشرطة وموظفين متعاقدين مع أمن الموانئ. قد يطلق أحد سائقي الشاحنات بوق الحافلة، لكن عندما يطرح السائقون السؤال على المشرفين عن السبب في عدم تمكنهم من الدخول إلى الميناء، يتم توجيههم إلى الكلمات نفسها المكتوبة بأحرف كبيرة على لافتة برتقالية بارزة تقول، "الحدود الفرنسية مغلقة".
أن تجد المملكة المتحدة نفسها مستعدة لمثل هذه اللحظة، ربما تكون مصادفة غريبة. فقد كانت بريطانيا تُعد الخطط لمواجهة حالات اضطراب طارئة وتعطيل يمكن أن يطال المرفأ، بهدف التخفيف من الأضرار الناجمة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لكن في نهاية المطاف، تم تجيير تلك الخطط أخيراً لمواجهة السلالة الجديدة من فيروس لم يسمع بها أحد قبل أكثر من عام. وكان الانتشار السريع لطفرة فيروس "كورونا" سبباً في دفع رئيس الوزراء بوريس جونسون إلى فرض قيود صارمة على جنوب شرقي إنجلترا، الأمر الذي أدى إلى حظر السماح لبريطانيين عائدين من عدد من الدول، بعبور الحدود. وعندما قامت الدول المجاورة بإغلاق الباب في وجه المملكة المتحدة، أطلقت صحيفة "لوموند" الفرنسية على تلك الخطوة عنوان، "خروج بريطاني قبل الأوان من الاتحاد الأوروبي". أما في إيطاليا، فحذرت صحيفة "لا ريبوبليكا" على صفحتها الأولى من "فيروس إنجليزي" Virus Inglese، في حين لخصت صحيفة Suddeutsche Zeitung الألمانية نظرتها للوضع الراهن في العنوان الرئيس، "بريطانيا تدخل في عزلة".
وقد تكون فرنسا الأكثر ضرراً على بريطانيا من بين عشرات الدول الأخرى التي قررت الحد من السفر من المملكة المتحدة إلى أراضيها. فنحو 22 في المئة من صادرات البلاد تغادر إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر ميناء دوفر، وهو المعبر الذي قال وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب في العام 2018 عنه، إن المملكة المتحدة "تعتمد عليه بشكل خاص".
ولتعويض حركة المرور، فقد أصبح الطريق السريع M20 ضمن عملية Operation Brock (سياسة حكومية لإدارة رحلات الشاحنات في كينت)، ساحة انتظار للشاحنات الضخمة، في حين تم تجهيز مطار مانستون القريب لاستخدامه من أجل استيعاب التدفق الزائد. أما الشاحنات التي وصلت إلى الميناء، فقد أشير إليها بمتابعة سيرها من دون إعطائها أي توجيهات إضافية، فيما قام كثير منها بالتوقف للانتظار على الممرات الجانبية، والمكوث فيها خلال أيام التعطيل المحتملة.
بالنسبة إلى السائقين الذين تمكنوا من العثور على مكان قريب لركن حافلاتهم، فإن الواقع الميداني هو الذي يختصر السنة برمتها تحت عناوين ثلاثة، تأخير وإحباط وارتباك.
وعلى الرغم من إشارة رئيس الوزراء بوريس جونسون في إحدى المرات إلى "عودة ملحوظة إلى الحياة الطبيعية" بحلول عيد الميلاد هذه السنة، إلا أن الواقع الراهن الذي يعكس تحطم الآمال وتعطل الخطط، يبدو أشبه بتلك "الحال الطبيعية" التي أمضت البلاد بقية السنة في العمل على إرسائها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويصف أحد المسافرين ويُدعى إلفيس أيزاك الوضع لصحيفة "اندبندنت" بالقول، "إنها فوضى عارمة". وفيما كان يقوم الركاب المرافقون له بتحميل مواد بلاستيكية من زينة عيد الميلاد، وحقائب السفر في شاحنتهم الصغيرة التي تحمل لوحة ذات ترخيص روماني، استطرد بالقول إن خطته كانت تقضي بأن يقود السيارة إلى موطنه برفقة أسرته من أجل لقاء أقرباء لهم هناك للمرة الأولى منذ نحو عام. ويضيف، "في الأمس أتينا إلى هنا قرابة الساعة الثامنة مساء، وكانت المفاجأة الكبرى عندما وصلنا إلى الرصيف، إذ قيل لنا إن الحكومة الفرنسية أغلقت جميع المعابر".
أمضى أيزاك وأسرته الجزء الأكبر من اليوم في انتظار أن يتغير الوضع، إلى حين تيقنهم أخيراً من عدم إمكان قيامهم بشيء. وبعد يوم من الانتظار والترقب، وهو يشاهد حركة المرفأ حيث كان لا يزال يتم السماح لوصول البضائع، من دون الإذن بخروج أحد، تعاظم شعوره بالإحباط وخيبة الأمل. وقال، "أنا أسدد ضرائبي في المملكة المتحدة، ولي حقوق مثل أي شخص آخر، ولدي إقامة هنا ومنزل. كل ما أرغب فيه هو العودة إلى وطني لرؤية عائلتي، ومن هنا يمكنك تخيل الشعور الذي ينتابني الآن".
كسيفار (63 عاماً) من كوسوفو، ويعمل سائق سيارة نقل منذ نحو عقد من الزمن، أمضى الليلة في سيارته. ومن حوله يمكن رؤية المخلفات المبعثرة التي تشير إلى فترة انتظاره ليوم كامل. المغادرة لم تعد خياراً بالنسبة إليه. ويقول رداً على سؤال حول تأثير هذا الاضطراب في الميناء عليه، "إننا في صدد خسارة جميع أعمالنا. أنا أنتظر فتح المعبر ربما الليلة أو غداً. قد لا يكون الوضع بمثابة فوضى كاملة بالنسبة إلى قطاع عملنا، لكنه صعب للغاية".
وعلى الرغم من ذلك، فإن كلفة هذا الإغلاق هي في الواقع شخصية، لجهة اضطراره إلى الابتعاد من أحبابه في وقت كان يقوم فيه باستعادة بعض الحياة الطبيعية مما تبقى من سنة حافلة بالاضطرابات. يقول، "سأحاول العودة إلى البلاد لتمضية عيد الميلاد، لكني أعلم أنني لن أتمكن من ذلك. قد أضطر إلى أن أكون بعيداً من المنزل. لذا سأفتقد العيد، وآمل في ألا أفوت علي الاحتفال بحلول السنة الجديدة".
إلا أن كسيفار في ما يبدو استسلم أخيراً للظروف المحبطة. فعندما سُئل عن شعوره بأنه اضطر إلى للنوم خلف مقود سيارته بسبب الوباء، هز كتفيه بشكل مطول وقال، "لا يمكن تغيير الواقع. يحدث أن تطرأ مثل هذه الأمور أحياناً".
بعض المسافرين كان أكثر تحوطاً للوضع من البعض الآخر، فقد شوهد كارل بابنوفوس في وقت مبكر من بعد الظهر، يقوم من شبه فراش وضعه في الجزء الخلفي من شاحنته البيضاء التي عمل على تجهيزها بشكل خاص، متفاجئاً من رؤية الواجهة البحرية الإنجليزية عرضة للأمطار الغزيرة والرياح العاتية. وكان يمكن لهذه الظروف أن تكون أكثر كآبة بالنسبة إليه، لو لم يتحل هذا الشاب البالغ من العمر 28 عاماً ببعض المعنويات العالية التي كان اكتسبها من قيادة رحلة استكشاف ناجحة على متن يخت شراعي في القطب الجنوبي.
هذا الشاب الألماني الذي أمضى عيد ميلاد واحداً فقط مع أسرته خلال الأعوام الثمانية الأخيرة الماضية، كان ينوي العودة للالتقاء بأفراد العائلة، من خلال قيادة سيارته عبر فرنسا وبلجيكا. وقد أدرك أن ذلك لن يكون ممكناً عندما ظهرت له تلك اللافتة الموضوعة على رصيف المرفأ. ويوضح قائلاً، "لقد فاتني الاطلاع على المعلومات أثناء القيادة. لم أشاهد أية أخبار ولم يكن هناك أي شيء على محطات الراديو، الأمر الذي فاجأني بعض الشيء. أردتُ الاستماع لبعض الأنباء، إلا أن ما تناهى إليّ للتو لم يكن سوى أغان متوالية وفظيعة مرتبطة بعيد الميلاد".
لكن بابنوفوس قرر أن يعود الآن إلى مدينة بريستول لقضاء فترة العطلة مع أصدقاء له. وبسبب ظروف مهنته السابقة، فقد اعتاد إلى حد ما على التعامل مع الأزمات. ويقول أخيراً في هذا الإطار، "عليك أن تتكيف مع الظروف التي تجد نفسك أمامها. إنه بالضبط ما نعيشه الآن. لا فائدة من أن تغضب من أي شخص أو من أي شأن آخر، بل عليك فقط التعامل مع الأمر".
© The Independent