يحكي الفنان ريان تابت كيف قادته صورة جده، التي ظلت مُعلقة لعقود في بيت العائلة إلى اكتشاف عالم مثير من الحكايات والأحداث الهامة، التي مرت بالمنطقة والعالم خلال القرن الماضي. هذه الحكايات المُثيرة التي استدعتها تلك الصورة الفوتوغرافية هي محور الأعمال التي تستضيفها مؤسسة الشارقة للفنون حتى منتصف يونيو (حزيران) المقبل تحت عنوان "الجُثة الأجمل".
يستند المعرض إلى مجموعة من الأفكار والاكتشافات المثيرة، التي استدعتها تلك الصورة المُشار إليها. كانت البداية حين اكتشف تابت ذلك الإهداء المكتوب لجده على ظهر الصورة، المؤرَخ في عام 1923 بتوقيع البارون الألماني ماكس أوبنهايم، وهو الأمر الذي أثار فضوله. حين أعاد الفنان البحث في مكتبة جده عثر على مجموعة من التذكارات والصور للشخص نفسه، ما دفعه للتساؤل، ما الذي أتى بتذكارات تخص أحد نبلاء ألمانيا إلى غرفة طعام عائلة لبنانية هادئة في بيروت؟
بعد بحث عرف تابت أن صاحب هذه التذكارات كان دبلوماسياً ألمانياً مولعاً بالتنقيب عن الآثار، وأن جده الأكبر لأمه "فائق بُرخش" قد عمل معه مساعداً ومُترجماً في عشرينيات القرن الماضي. بدأ اهتمام الدبلوماسي الألماني بالآثار كما يقول الفنان عام 1899، حين عثر بمحض الصدفة على تمثال أثري مدفون في الرمال أثناء مروره على سوريا متوجهاً إلى العراق في مهمة رسمية. هذا التمثال الأثري الذي عثر عليه أوبنهايم قاده في ما بعد إلى اكتشاف مدينة أثرية كاملة مدفونة تحت الرمال، يرجع تاريخها إلى عهد الحيثيين، ما دفع الرجل إلى التفرغ تماماً للتنقيب عن الآثار في المنطقة، حتى أنه أسس متحفاً في برلين أطلق عليه "تل حلف" نسبة إلى المنطقة التي عثر فيها على هذا الاكتشاف الواقعة في الشمال الشرقي من سوريا.
لا تتوقف الحكاية عند هذا النحو، إذ تتداخل تفاصيلها مع الصراعات الإقليمية والدولية، التي أدت إلى تقسيم المنطقة على يد القوى الغربية واندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. جانب كبير من الآثار التي عثر عليها أوبنهايم وعرضها في متحفه تعرضت للتدمير أثناء الحرب، وتقبع بقاياها اليوم في متحفين ألمانيين، وما بقي منها يتوزع على عدد من متاحف العالم.
شتات الحكاية
استحوذت هذه التفاصيل على اهتمام الفنان، وأخذ يجمع أطراف الحكاية ويلملم شتاتها عبر رحلة مثيرة مدفوعة بالشغف خاضها متنقلاً بين لبنان وسوريا وألمانيا ولندن والولايات المتحدة، وأخيراً إلى مقر مؤسسة الشارقة، حيث يعرض حالياً جوانب مختلفة من هذه التجربة الشيقة.
كيف بدأت الرحلة؟ وإلى ماذا انتهت؟ وما الذي أسفرت عنه من اكتشافات؟ وما هو مصير القطع الأثرية التي عثر عليها الدبلوماسي الألماني اليوم؟. الأعمال الفنية التي قدمها ريان تابت خلال السنوات الأربع الماضية، كانت مُحصلة الإجابة عن كل هذه التساؤلات جميعها.
يضم المعرض خمسة مشاريع تجهيزية، إثنان منها يُعرضان لأول مرة، أما المشاريع الثلاثة الأخرى فهي أعمال قدمها الفنان من قبل، ويُعيد هنا صوغها من جديد، كي تتلاءم مع طبيعة العرض في مؤسسة الشارقة، وتأتي جميعها ضمن مشروعه الممتد "فُتات" الذي بدأ العمل عليه في عام 2016.
يربط الفنان في معالجاته لهذه الأعمال بين إرثه العائلي وعديد من الأحداث التاريخية التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط. ويسلط المعرض الضوء على تبعات مفصلية لعصر لا يزال يُلقي بظلاله على الجدل الراهن المتصل بالاستحواذ الثقافي والممارسة المتحفية وحرية التنقل بين المجتمعات والدول.
في عمله المعنون بـ"شظايا البازلت" يعرض الفنان 1000 بصمة على مساحات صغيرة من الورق لقطع من أحجار البازلت، التي عُثر عليها في منطقة التنقيب الأثري، في محاولة منه لاستكشاف الطاقة الكامنة فيها كما يقول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي عمله "جميلتي فينوس" يصنع الفنان نسخاً مُتعددة من رقائق معدنية مطبوعة لبعض المنحوتات. تُظهر القطع الملامح الدقيقة للوجه والأيدي المنحوتة بعناية للتماثيل الأثرية المهشمة المعروضة الآن في أحد متاحف ألمانيا. وفي عمله "الجثة الأجمل"، وهو العمل الذي أعطى للمعرض عنوانه، ينصب الفنان خياماً عسكرية استخدمت في الهجمات البرية من جانب القوى الغربية في بلاد الشام وشمال أفريقيا والخليج العربي.
وفي عمله "بورتريه فائق بُرخش" يعرض تابت مجموعة من المواد الأرشيفية والمتعلقات الشخصية التي تخص جده، بما فيها الملحوظات الميدانية الفريدة، التي دونها خلال تعاونه مع المُستكشف الألماني في مطلع القرن العشرين.
يُذكر أيضاً أن متحف متروبوليتان في نيويورك، يستضيف معرضاً تجهيزياً آخر للفنان ريان تابت تحت عنوان "مُتعلقات غريبة". يسلط الفنان في هذا المعرض الضوء على القطع الأثرية الأربع المعروضة في المتحف، التي تعود للموقع الأثري المُشار إليه. يمزج تابت في هذا العمل كذلك بين المتعلقات الشخصية لجده، والمنحوتات الحجرية الأربع التي يضمها المتحف.