بين السيرة والرواية نقاط التقاء ونقاط افتراق، أما الأولى فتكمن في تحدرهما من العائلة السردية نفسها، واعتمادهما على الوقائع، وإفادة كل منهما من الأخرى. وأما الثانية فتكمن في أن وقائع السيرة حقيقية، فيما وقائع الرواية متخيلة، وفي أن الزمن في الأولى كرونولوجي وفي الثانية متكسر، وفي أن الأولى مادة أولية مناسبة للثانية، فيما العكس ليس صحيحاً. مع العلم أن النوعين قد يتجاوران في الحيز نفسه، ويتفاعلان، ويتكاملان، كما نرى في كتاب "OUC" "أوتش" للكاتب الكندي - الفلسطيني الشاب شاكر خزعل، الصادر باللغة الإنجليزية عن دار هاشيت/ أنطوان. فأين تنتهي السيرة وأين تبدأ الرواية في الكتاب؟
"OUCH" "أوتش"، هي الرواية الخامسة للكاتب، بعد ثلاثية "اعترافات طفل حرب" ورواية "حكاية تالة". وبالدخول إليها من عتبة العنوان، نشير إلى أن كلمة "OUCH" الإنجليزية هي "آخ" بالعربية، التي نطلقها في حالة الوجع. وبالتوغل فيها، نرى أن الكلمة تتكرر عشرات المرات، وأن الأوجاع التي تشتمل عليها الرواية كثيرة، تبدأ بالتهجير واللجوء والتخييم والسجن والبؤس والفقر والخوف، ولا تنتهي بالحرب والغربة والوباء والعزلة والتفجير وغيرها. وبذلك، يكون العنوان مفتاحاً مناسباً للمتن الروائي.
جو المخيم
في "OUCH"، يتناول شاكر خزعل المسيرة الطويلة التي يجتازها، الفاصلة بين المخيم والعالم، بين السجن والحرية، وبين المحلية والعالمية. ويرصد ما يحف بها من تعب وطموح وجهود، وما تتمخض عنه من نجاحات وإنجازات. وهي مسيرة سيرة يستخدم فيها كثيراً من الأدوات التي تساعده على اجتيازها، ومنها، اللغة الإنجليزية، والشبكة العنكبوتية، والدراسة الجامعية، والعمل الميداني المباشر، والسفر المستمر، وبناء العلاقات الاجتماعية، واستخدام المفاتيح المناسبة، وكتابة القصص، والمقابلات الإعلامية، وغيرها. يعضده في استخدامها طموح كبير، ثقة بالنفس، وجرأة ملحوظة، ومثابرة على العمل، ورغبة عارمة في تغيير الواقع.
في السيرة، يروي خزعل حكاية هروبه من المخيم السجن إلى العالم الأوسع، وتقوم سيرته على الصراع بين شاكر المخيم وشاكر العالَم، فالثاني يريد الهرب من الأول ونسيان كل ما يتعلق به، والأول ما ينفك يطارد الثاني، ويتربص به الدوائر، عند كل منعطف. على أن هذا الصراع المشوب بالتوتر لم يعدم لحظات جميلة، يلتقي فيها طرفاه، ويغنمان ما يعود بالنفع على كل منهما.
يمثل شاكر المخيم، الطفل الفلسطيني اللاجئ الذي يعاني الفقر والبؤس وضيق الخيارات وانسداد الأفق والأبواب الموصدة دونه، وعلى الرغم من أن شاكر ينشأ في أسرة متعلمة لأب مخرج وأم ناشطة، وتُتاح له فرصة تعلم مناسبة واختلاط بأترابه اللبنانيين، ويحظى بدفء جد حنون يأخذ عنه مهارة حكي الحكايات، فإن هذه الامتيازات مقارنةً مع غيره من الأطفال، لم تكن لتخفف من وطأة إحساسه بأنه سجين المخيم ورهين ظروفه القاسية، لذلك، ما إن تمر طائرة في سماء المخيم، القريب من مطار بيروت الدولي، حتى توري فيه جذوة الحلم، فيتمنى لو أنه أحد ركابها. ويروح يعمل على تحقيق حلمه بما ملكت يده، ويسعى لإتقان اللغة الإنجليزية وتنمية مهارة التواصل الاجتماعي الإلكتروني، بانتظار الفرصة المؤاتية.
الخروج إلى العالم
وبالفعل، لا ينتظر شاكر كثيراً حتى تأتي الفرصة إلى عُقْر مخيمه، فيشكل تعرفه إلى بعض الناشطين الأجانب مناسبة لانضمامه إلى برنامج دراسي في كندا مخصص للاجئين، يقوده لاحقاً إلى متابعة دراسة السينما والعلاقات الدولية في جامعة يورك الكندية، وبذلك، يبتعد من المخيم ليجد نفسه في قلب العالم الأوسع. وإذا كان تحول شاكر المخيم إلى شاكر العالم قد بدأ جزئياً في بيروت، على مقاعد الدراسة في مدرسة المقاصد الإسلامية، وخلال زيارته جريدة "السفير" التي نظمتها له الصحافية رنا نجار، فإن هذا التحول سيبلغ مداه الأقصى في كندا بعد التخرج من الجامعة، والانخراط في الأنشطة الإنسانية والاجتماعية والدبلوماسية، وبناء العلاقات العامة، على مستوى العالم، مع شخصيات مرموقة في مجالاتها، وتأليف الكتب، والمشاركة في ورش العمل والمؤتمرات، والسفر من مكان إلى آخر.
تستغرق عملية التحول سبع عشرة سنة، تمتد من 2003 إلى 2020، يجوب خلالها شاكر تورنتو ونيويورك وبيروت وعمان ودبي والقدس وتونس وغيرها. يقيم علاقات مع صحافيين وإعلاميين ودبلوماسيين ورجال أعمال وفنانين. يصبح خلالها كاتباً وإعلامياً ومستشاراً ومتكلماً عاماً ومستثمراً وناشطاً إنسانياً. يحصل على جوائز عدة. ويحقق كثيراً من النجاحات والإنجازات. وهكذا، يتحول شاكر المخيم إلى شاكر العالَم. وتتحول السيرة إلى سجل حافل بالأسفار والعلاقات النوعية والأنشطة، ويعيش شاكر نوعاً من الشتات الفردي الطوعي في رد فعل مبرر على الشتات الجماعي القسري، الذي فرضه الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وشتان ما بين الشتاتين. ويتمظهر التحول، على المستوى الداخلي، بتصدير شاكر عن أفكار إنسانوية، وكسر الصورة النمطية في النظرة إلى العلاقة مع اليهود، وتغليب العقل على المشاعر، والمصلحة على الشعارات. وهذا نتيجة طبيعية للاصطدام بالغرب.
الجانب السيَري
يقتصر الجانب السيَري في "OUCH" على الإيجابيات دون السلبيات، والنجاحات دون الإخفاقات. ويقدم صاحب السيرة بصورة "سوبرمان"، يفتح الأبواب الموصدة، ويخترق الأطر المقفلة، ويجترح البطولات الخارقة، مُغْضياً عما يتعرض له الإنسان في حياته من نكسات، وعما يمر به من تجارب قاسية. ولولا إشارة الكاتب في بداية كتابه إلى التنمر الذي يتعرض له طفلاً، لِكِبَرِ أُذنيه، لخلت السيرة من أية إشارة إلى عيب معنوي أو خَلْقي يعتور صاحبها. وبذلك، تأتي ناقصة، ولا تشذ عن النمط العربي في كتابة السيرة الذاتية الذي يبرز الإيجابيات ويخفي السلبيات. مع العلم أن كاتب السيرة يعيش في الغرب منذ سبعة عشر عاماً. غير أن ذكره أسماء الشخصيات التي أثرت في سيرته، والاعتراف بأدوارها في حياته، يشفع له هذا النقص، وينطوي على اعتراف ضمني بحاجة الإنسان إلى الآخرين، وبأنه لولا وجودهم فيها ما كان له أن يكون ما هو عليه. وحسبنا أن نذكر في عداد هؤلاء، رنا نجار، وراغدة درغام، إليسا، ونضال الأحمدية، ومي شدياق، وأيمن جمعة، ورلى جبريل، وصوفيا فخري، وتوم فليتشر، وغيرهم. ذلك أن كلاً منهم شكل مفتاحاً مناسباً لباب معين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كان الجانب السيَري يستغرق نصف الكتاب، ويمتد على سنوات، ويحصل في دول عدة، ويزخر بشخوص حقيقية ووقائع معيشة، فإن الجانب الروائي فيه يستغرق النصف الآخر، ويقتصر على صيف 2020، ويحدث في فندق "Small Vile" "سمول فيل" في بيروت، وتشترك فيه شخوص حقيقية وأخرى روائية. ويقوم هذا الجانب على العلاقة الملتبسة بين شاكر الذي يتحول إلى شخصية روائية وآدم النادل الفلسطيني في الفندق، المقيم في مخيم البرج، والمتحدر من بلدة ترشيحا الفلسطينية. وهي علاقة تبدأ بين شاكر النزيل وآدم النادل، وتتمظهر في لقاءات عابرة، وأحاديث متباعدة بينهما على شرفتين متجاورتين، وتعاطف ضمني لاشتراكهما في الهوية نفسها، وتحدرهما من الجذور ذاتها. غير أنها علاقة مشوبة بالضبابية من قِبَل آدم، على الأقل، ذلك أن ابتساماته الغامضة وحركاته الملتبسة لم يستطع شاكر تفسيرها، حتى إذا ما قام شاكر بممارسة تمارينه الرياضية اليومية، في الطابق ما تحت الأرضي في الفندق، غداة انفجار الرابع من آب 2020، وسقط عن ماكينة الركض خلال التمرن، يفاجئه آدم بتكبيله وتعذيبه ومحاولة اغتياله الأمر الذي ينجو منه بأعجوبة، وإذ يُبلغ القيمين على الفندق والعاملين فيه بما تعرض له، يتبين أنه لا وجود لنادل فيه بهذا الاسم، وأنه لا وجود للغرفة 1513 التي زعم أن النادل يقيم فيها، وأن شاكر، الشخصية الروائية، يعاني نوعاً من الانفصام يجعله يتوهم ما ليس موجوداً، فيتم نقله إلى المستشفى، وهناك يكتب كتابه الذي يساعده على الشفاء، ما يتمظهر في توحد آدم / شاكر المخيم وشاكر العالَم في شخص واحد، يستسلم للنوم على سرير المستشفى.
في نهاية السيرة - الرواية، يتصالح الشاكران، ويتوحدان في شخص واحد، ويشفى البطل من الانفصام. ولعل الكاتب أراد القول، من خلال هذه النهاية، أن الإنسان لا يستطيع الهرب من ماضيه، وأن الشجرة المثمرة لا تستطيع التنكر لجذورها الضاربة في الأرض، ولو طاولت أغصانها عنان السماء.
هذه الوقوعات تنجلي عن كتاب عابر للأنواع الأدبية، جواب آفاق مكانية، ممتد على سنوات طويلة، ما يجعل قراءته محفوفة بالمتعة والفائدة، ويُبوئ صاحبه المكانة الروائية التي يستحق.